غوته.. البحث عن الحقيقة

غوته.. البحث عن الحقيقة

علي حسين

ما نطقت يوماً بشيء لا أحسه ، ولم أجربه ، وما نظمت قصائد الحب إلا حين أحببت ، فكيف أضع قصائدي في البغضاء وأنا لم أبغض قط ، ولهذا أحب البشر قاطبة ، وقد وجدت ملاذي في العلم والفن ، لأنهما ينتميان إلى العالم كله ، وأمامهما تسقط كل الحدود "

بدأ اهتمامه بالفلسفة وعلوم الطبيعة مبكراً بتعرفه لأول مرة في مكتبة والده على كتاب الجمهورية لافلاطون الذي قال عنه إنه اول كتاب يفتح عيني على العالم . ومنذ ذلك الحين صارت الفلسفة أكثر ما يتحدّث فيه مع رفاقه في المدرسة ، يتذكر يوهان جوهان فولفانغ غوته كيف أن مجموعة من الكتب قد اجتذبته أكثر من سواها وسيكتب في سيرة حياته التي أسماها " الشعر والحقيقة " متذكراً المكتبة الكبيرة التي كانت تأخذ حيزاً كبيراً في ذلك المنزل الذي يتألف من مبنيين متجاورين :" هناك عندما كبرت ، لم تكن إقامتي في جو يخيم عليه الحزن ، بل سادها التوق وخالجها الشوق الى المعرفة " ، يتذكر أن عمه رشح له مجموعة من الكتب ، كان لمعرفة غوته الطالب الصغير بعالم الفلسفة أبرز الأثر في كتاباته فيما بعد ، ففي سن العشرين بدأ يبشر بفلسفة سبينوزا ، وآمن إن الشعر بحاجة الى العلم ، لكنه اختلف مع أفكار نيوتن فهو يعتقد ان واجب العلم البحث عن تعابير واستعارات في الطبيعة تبرهن على الوحدة المستكنة في كل جزء من أجزائها . توقع غوته من العلم كالدين سواء بسواء تأكيد لمقولته الشهيرة " كل الأشياء تتشابك وتنسجم في كلٍ كامل " .

في عام 1769 كان غوته في العشرين من عمره حين وقع في يده كتاب " مقال في إصلاح العقل " حيث وجد في هذا الكتاب ، أجوبة على أسئلة كانت تدور في ذهنه عن علاقة الدين بالتفكيرالعقلي والعلمي، وسيصبح إبداع غوته الشعري تفسيراً لفلسفة سبينوزا ، فقد وجد غوته في كتابي سبينوزا مفاهيم جديدة عن الحرية وموضوعة الذاتية الفردية ، كتب غوته رساله الى شوبرت يخبره فيها إن الفلسفة وحدها ستبلغه سر الوجود ، يكتب غوته :" "في البداية قرأت كتب الفلسفة بجد وإخلاص ، لكن الفلسفة لم تنورني فقط . بل مارست عملية هدم وعزل ، أتلقف تلك العمليات الذهنية التي كنت أؤديها بأقصى قدر من السهولة في شبابي ، لكي أرى الاستخدام الصحيح لها" .

في العام 1784 سيصدر يوهان غوتفريد هردر،كتابه " تأملات في فلسفة تاريخ البشرية " وسيرسل نسخة الى غوته الذي سيكتب إليه يحيي فيه قدرته على وضع تاريخ كلي للحضارة .. لكنه أخذ عليه إيمانه المطلق بالجبرية ، وقمعه كل فعل عقلي حر تقوم به الإرادة ، فالإنسان في نظر هردر غير قادر على توجيه مصيره ، لأن ما يسيطر على أفعاله ومصيره هو الطبيعة وتكوينه العضوي وبيئته الفيزيائية ، ورغم اعتراضات غوته على كتاب هردر إلا إنه سيكتب ملاحظات ينشرها ضمن يومياته يؤكد فيها إن استعدادات الانسان التي تعمل على خدمة عقله ، مهيئة لبلوغ أسمى درجات الكمال ، إلا أنه من غير المستطاع تحقيق هذه الغاية في الفرد ، فهي لن تتحقق إلا في الجنس البشري ، لأن العقل يعمل في صورة محاولات تتجه الى التقدم والتراجع معاً . وستتضح هذه الفكرة فيما بعد في مقال ينشره إيمانويل كانط عام 1790 يؤكد فيه إن التحقيق الكامل لطبيعة الإنسان العقلانية لن يتيسر إلا في " المجتمع العالمي المتحضر " المرتكز على العدالة السياسية ، حيث يؤكد كانط إن إقامة مثل هذا المجتمع هو أكبر مشكلات الجنس البشري . ووضع كانط كهدف سياسي إنشاء اتحاد للدول يتحقق فيه أكبر قدر مستطاع من الحرية ..وسيتذكر غوته ما كتبه كانط عند لقائه مع نابليون في الثاني من تشرين الثاني عام 1808 ، كان غوته معجباً بالثورة الفرنسية ، ويدين بالكثير من أفكاره عن الطبيعة لجان جاك روسو وعندما سأله نابليون عن رأيه في ما يجري من حوله أجاب :" كل العصور التي في انحطاط وانحلال عصور ذاتية ، ومن جهة أخرى فجميع العصور التقدمية لابد أن تكون موضوعية . إن عهدنا عهد رجعة ، ولذا فهو عهد ذاتي " ، كان كانط قد أكد على أن الحرب وما تفرضها من أعباء ستقف عائقاً للتقدم الأخلاقي للإنسان ، وفكر طويلاً في وسائل التخلص من الحرب ، ونشر عام 1795 مقالاً بعنوان " مشروع للسلام الدائم " ، كان نابليون قد قرأ رواية غوته الشهيرة " آلام فرتر" ، وقال لغوته إنه قرأها أكثر من سبع مرّات وقد سحرته خاتمتها ، ليُجيبه غوته :" أُصدّق ما تقوله ياسيدي ، إنك من النوع الذي يفضل الروايات التي لانهاية لها " ، اعتقد غوته إن العالم سائر نحو التحقيق الكامل للحرية ، فهي غايته وهدفه ، لكنه هدف صعب الوصول لأنه يعني القمع الكامل للطبيعة ، ولهذا ظل غوته يؤمن إن العالم يقترب في طريق غير محدد تجاه مثل أعلى ، وثمة تزايد مستمر في تحقيق الحرية ، وبازدياد ارتفاع العالم نحو بلوغ غاياته يتزايد اتباعه للعقل ، فغاية البشر هي بلوغ حالة تترتب فيها كل علاقات الحياة وفق العقل ، لا تبعاً للغريزة ، وإنما بوعي كامل وتبعاً لهدف مقصود ..إنها أفكار سبينوزا التي بعثت الروح التفاؤلية عند غوته ، فمهما كانت التناقضات التي تسيطر على الروح الإنسانية ، ومهما كانت الكوارث والانهيارات التي تهددها ومهما سمم الحزن القاتل هذا المخلوق الأرضي ، فإن طاقة السعادة العامة لا تعرف النضوب ، ولاتقوم خصوصية أفكار غوته على صلتها بفلسفة سبينوزا فقط ، وإنما على حركتها النقدية الغنية الأصيبلة المرتبطة بمجالات الواقع والعلم المتنوعة والتي تكون في عقله بدايات فلسفة التنوير التي ظهرت في المانيا، والتي جعلت غوته يعد هو المجرب الطبيعي والمجدد ، فكان يمتلك رؤية بعيدة للمستقبل ، وكان أكثر من أي كاتب آخر رائداً للرواية الفلسفية ، وقد ساهم غوته مساهمة فعالة للغاية في النقاشات المعاصرة حول الحرية والمستقبل ، وأشار الى الإمكانات اللا محددودة التي يتمتع بها العنصر البشري ، والإدراك التاريخي للروابط القائمة بين تطور المجتمع والتقصي الفلسفي لمعنى الوجود .

ولد جوهان فولفانج غوته في فرانكفورت في الثامن والعشرين من آب عام 1749، والده محام صارم الفكر، أصرّ أن يتعلم ابنه اللاتينية والعبرية والفرنسية والإنكليزية وهو صغير، وطلب منه أن يكتب مقالات وينظم الشعر، ويقرأ كتباً في الفلسفة والفنون، هذه الحياة التي ارتبطت بالكتاب نجده صداها في شخصية فاوست الذي دائما ما يعقد مقارنة بين مغامراته مع الكتب وحكاياته مع النساء، يدرس غوته القانون في كلية ستراسبورج لكنه لايعمل في سلك القضاء مثلما تمنى والده، فقد انصرف للكتابة، ليصبح بعد سنوات واحداً من أهم أدباء المانيا، وليحظى بالتكريم خلال سني حياته التي استمرت أربع وثمانين عاماً، حيث توفى عام 1832.

عام 1774 صدرت الطبعة الأولى من رواية آلام فرتر كان غوته في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن يتصور أن تلك الصفحات الحزينة التي كتبها عن تجربته مع العشق يمكن أن يتخاطفها الناس، ويصبح الشاب فرتر بوجهه الحزين والكتاب بين يديه نموذجاً لجيل بأكمله، وشهيداً من شهداء الحب، كان هذا أول كتاب يصدره غوته، لكنه وضعه في المقدمة من أدباء المانيا وأصبحت آلام فرتر بداية لعصر جديد في الأدب سمي"عصر الرومانسية".

كان غوته قد فكر في بداية الأمر أن يكتب مسرحية عن آلام الشاب فرتر، لكنه في النهاية استقر على رواية، تروي بعضاً من سيرة حياته، فبطل الرواية لايتجاوز عمره الثالثة والعشرين من عمره، وبطلة الرواية لوت، هي شارلوت بوف التي تَعرّف عليها في تلك السنوات، ويخبرنا كتاب سيرة غوته إنه في تلك الفترة كان يائساً وفكر في الانتحار، وعندما عجز عن تنفيذ ذلك، نفّذه على الورق، فبطل الرواية بعد أن يفقد الأمل في الحصول على محبوبته، يكتب رسالة وداع أخيرة، يقرر فيها الانتحار، وقد حملت سيرة حياة غوته حكاية حب تقترب بشكل تام مع حكاية حب فرتر، يكتب جورج لوكاش إن غوته في هذه الرواية كان واحداً من أجرأ الكتّاب الذين سلطوا الضوء على حياتهم الخاصة.