طرائف عشاق الكتب في النجف في أوائل القرن الماضي

طرائف عشاق الكتب في النجف في أوائل القرن الماضي

علي الشرقي

لما صارت النجف محطة علمية للعلماء انتشرت فيها المدارس والمكتبات ونشأت فيها بيوت كثيرة للكتب اولع بجمعها رجال عرفوا بذلك الشغف وبذلوا الجهد والمال عاكفين على الحصول عليها من مظانها فتيسر لهم من نفائسها ما كون الخزائن ،

مثل مكتبة الشيخ علي وولده الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ومكتب الشيخ هادي آل كاشف الغطاء ومكتبة محمد الباقر التوستري ومكتبة المحدث النوري ومكتبة السيد محمد آل بحر العلوم ومكتبة السيد جعفر آل بحر العلوم ومكتبة السيد هاشم آل بحر العلوم ومكتبة الشيخ الخنساري ، ومكتبة السيد محمد اليزدي ومكتبة الشيخ محمد السماوي ومكتبة السيد رضا الحكيم ومكتبة السيد ابو الحسن الاصفهاني وكثير غيرها.

ولعشاق الكتب نوادر كثيرة في وادي غرامهم هذا منها اني دخلت على احد هؤلاء الغلاة في هذا المذهب وهو الشيخ علي آل كاشف الغطاء في مكتبته الصغرى التي اقتصرت على ما ورقه بيده ونسخ بخطه فوجدته جالسا على الارض وامامه طاولة صغيرة عليها كتاب مفتوح ومحبرة وقد شد على عضده مساطر خفيفة من الخشب شدا محكما يمنع الرعشة التي في يده لانه شيخ وهنت قواه وقد شارف على التسعين من عمره وكان لابسا ثوبا سميكا خصص للكتابة تارة مخططا بالوان والوان من مسح القلم ورذاذه، وكان في يده قلم من الخيزران القوي وكان مشغولا بالنسخ فسألته عن عمر ذلك الثوب قال بان عمره يناهز السبعين عاما وهو عندي اطيب من الغلالة التي يصفها الشاعر بقوله :

كاذيال خود اقبلت في غلالة مصبغة والبعض اقصر من بعض

ومن نوادره انه كان يكتب تراجم العلماء والادباء في مجموعة اسماها طبقات الشيعة واتفق ان يخرج الى الجامع عند بزوغ الفجر ويصادف في طريقه احد الفضلاء يفاجئه بنبأ وفاة احد المشاهير من حملة العلم والادب وجعل يعزيه لانه من سراة قوم الشيخ وكان يعزه فما اجفل للنبأ ولا استرجع بل قاطع المخبر بقوله : لقد تزين كتاب الطبقات بخير ترجمة. وترك اتجاهه الى المسجد ا رجعا الى بيته والى مكتبته وكتب تاريخ الوفاة.

ومن نوادره ما حدث له في الاستانة مع جلواز من جلاوزة السلطان المرهوب عبدالحميد. لقد شغف الشيخ بجمع الكتب والتوفر على الاطلاع عليها واقتناء النفيس منها الامر الذي حمله على التطواف في البلاد الاسلامية فجاء الحجاز ومصر وسوريا وعاملة وبلاد فارس والهند والترك وتردد في الاستانة على بيوت الكتب وتزود منها واستفاد وكان ينسخ بقلمه ما يعجبه من المخطوطات فيرفعه الى رف مكتبته الكبرى ومن ذلك كتاب شرح ابي تمام على مهاجاة جرير والاخطل وقد كان بخط مغربي قديم ومعمى فعكف على تفهمه وتهجئته حتى اتقنها وبدأ ينسخه وعندما بلغ الصفحة الاخيرة واذا هو بجلواز السلطان يبلغه بكل عنف لزوم حضوره حالا في الباب العالي اي في بلاط السلطان وكان ذلك التبليغ رهيبا يشعر بالخوف من المغبة لان الناس يعرفون ان مثل هذا ينبئ بان احد الجواسيس المبثوثين بكثرة قد وشى بذلك المجلوب وقد حان وقت الحساب .هلع كل من كان حول الشيخ وجفل من ذلك الطلب الا الشيخ الذي رفع أ رسه باعتزاز قائلا للجلواز هيهات لا البي الطلب قبل ان اتم هذه الصفحة ولو قامت القيامة. وغضب الجلواز وثابر الشيخ على الاستنساخ وما كان من الحاضرين غير الاشفاق على الشيخ والت وسل الى الجلواز بالتمهل عليه حتى يتم كتابة الصفحة وهكذا يتم الشيخ ويتأبط النسخة كاملة ويقول للجلواز هيا. ولما شخص الى الباب العالي ابلغ بلزوم مغادرة الاستانة الى العراق .

ومن نوادر هؤلاء الصرعى في حب الكتب كان الشيخ الجليل النوري قد اعياه الطلب لكتاب وصدفة عثر عليه في السوق وقد عرضته امرأة للبيع وصادف فراغ كيسه من النقود فوقف وسط السوق بالقرب من تلك المرأة وأمسك بيده على الكتاب حرصا وصار لا يستطيع ان ينقل خطوة وخلع عباءة نفيسة كانت عليه ودفعها الى المنادي فباعها له بثمن بخس وسلم

للمراة ثمن الكتاب ومشى في السوق والطريق بدون عباءة وهي مشية لاتتناسب وامثاله من رجالات الفضيلة . ولكنه كان مزهوا بها لامتلاكه الكتاب. ومن النوادر ان شيخا من شيوخ الادب يظهر انه كان رقيق الدين عرض علي شراء كتب مخطوطة كان عليها شارة التحبيس فقلت له كيف تبيع الوقف المحبس؟ فقال اني لا ارى الملكية في الكتاب لان المؤلف يريد

بث المعرفة واشاعة افكاره وما ملكية الكتاب الا استيعابه قراءة فقط وعليه فالكتاب لا يملك ، اما الثمن المبذول فهو عوض عن قراءته فقط ولما كانت القاعدة الفقهية لا وقف الا من ملك فمن الغلط ان يقال هذا الكتاب وقف.

وقريب من هذا الرأي ما ذهب اليه جماعة من ذوي الفضل ايثارا وتسبيلا للمنفعة في كتبهم لكل من يريد الاستفادة بقرائتها قائلين ان غلة الكتاب قراءته وزكاة تلك الغلة اعارته. ويعاكس هذا الراي من يوصد باب مكتبته في وجوه الطلاب شحة وظنة. وكثير اولئك الذين يقبضون على الكتب قبضة الشحيح . اتفق لي وانا صبي ان الح على ظنين بالكتب في مكتبته التي صفت فيها الكتب النفيسة وراء ابواب من الزجاج وكانت المكتبة مفروشة بالطنافس والسجاد الايراني الممتاز. فوجدت صاحب المكتبة جالسا على طراحة في زاوية تلك المكتبة وهو كفيف البصر والى جنبه قارىء يتلو عليه ما يريد تلاوته وبينما انا اطارحه الحديث رفعت يدي فاصطدمت بباب الخزانة، وعندما سمع نقرها اضطرب انزعاجا واستفهم بارتباك ولم تهدأ روعته حتى عرف انها الصدفة ولم يحدث شيء. ويدور الزمن ويموت ذلك الجماعة ويريد وارثه حمل ما في المكتبة الى معرض الكتب للبيع فيستعين بي وبرفيق لي لنعرفه بالمهم من تلك النفائس وتثمينها وعند دخولي المكتبة تدهشني العضة حيث وجدتها شعثاء موحشة قد فارقت رونقها وكان التراب

فارشها والغبرة تعلو خزاناتها ومد لنا حصير جلسنا فوقه وكان رفيقي لا يعلم بما يخالجني وبينما نحن منهمكون باستعراض بعض الكتب المبثوثة في تلك المزبلة لا المكتبة اذا برجة تهز الغرفة فحولت بصري ووجدت احد الورثة قد وضع سلما خشبيا وصعد عليه واضعا يده وراء النضدة من الكتب يدفعها لتطيح على الارض لانه تعب من تناولها كتابا كتابا فتذكرت ذلك الكفيف وفزته من نقرة على الباب وكيف اربكته وقلت من لي به ليسمع ويشاهد ما فعله هذا العابث البطر؟

عن كتاب الاحلام وهو مذكرات الشيخ علي الشرقي