بهنام ميخائيل ... وفنان المسرح الذي يجب ان يكون ...!

بهنام ميخائيل ... وفنان المسرح الذي يجب ان يكون ...!

يوسف العاني

قبل الاحتفال بيوم المسرح العالمي بثلاثة ايام ، كان الفقيد “ بهنام ميخائيل “ يجلس بيننا في اجتماع للمركز العراقي للمسرح يتحدث حديثا تربويا عن فنان المسرح الذي يجب ان يكون ..

كان حديثه حديث أب واستاذ ورجل مسرح مرت به سنون من التجربة والخدمة الوفية والمضيئة فيه . كان يتمثل فنان المسرح مرآة صافية ، لا يرى الناظر اليها نفسه صافية نقية الا من خلال صفائها .. اعماق الفنان نهر جار تتجمع فيه “ سقطات “ من هنا او هناك لا بد من ان ترمى على الجانبين ليظل الجريان ساريا بلا فضلات !

كان يتحدث ويجرنا الى اكثر من حديث ، كان يعجب من حالة “ الغيرة “ غير النظيفة ، هكذا دعاها لأن الغيرة النظيفة حالة من الحالات الخيرة الطيبة التي تدفع فنان المسرح الى منافسة نحو الافضل والاحسن ! اما الغيرة الاخرى فهي غيرة عدائية تجر الفنان الى الوقوع في قاع البغضاء والمشاحنات والخروج عن جوهر الفن الزاهي ..!

قال : انا اعجب من هذا الجو الذي احسه احيانا في طعن الفنانين لزملائهم او زملائهن هنا او هناك .. قال : هناك حسد وليس اقتداء بالاجود والافضل والأعلى .. ان جوهر الفن – كما قال الفقيد بهنام – هبة من ربانية الله تعالى ، لا بد وان يرعاها الفنان ويحرص عليها ويظل ينظفها من كل ما يعلق بها ويشوه حقيقتها ..

كان حديثه – كما قلت – حديث مرب واستاذ وراع قدم لمسرحنا العراقي روح القيم المسرحية واعمقها وظل يبذرها ويزرعها ويرعاها في نفوس طلابه الكثيرين وظل مكافحا من اجل بقائها زاهية متألقة رغم تلك الاتربة والاغطية الرثة التي ظلت تتكوم فوقها من اجل ان تضيعها وتغيبها بين امواج التردي والتخلف المشين ..

كنت انظــــــر واستـــمع اليه بشــغف فانا احـــــب حـــــديـثــه البســـيط كما يبـــدو العمـــيق في الاصل ، المخلص في هـــدفه وروحــــه ..

التفت الي ليقول : استاذ يوسف ساكت ؟ اليس كلامي صحيحا ؟

قلت : لو لم يكن صحيحا لقاطعتك او لعلقت عليه .. انت مرب كبير يا “ ابو منى “ .. ابتسم وصلى .. وردد كلمات الشكر والحمد والامل فيما تبقى من جهد الخيرين الذي لا يقف عند حد .

كان حديث هذا الفنان المخلص اخر حديث بيني وبينه وانا اتطلع اليه وكان احساسا عندي قد دفعني الى ان استمع اليه اكثر وان اعود بذاكرتي الى سنوات خلت عاد بهنام من الولايات المتحدة وانهى دراسته في “ كودمان تياثر “ وهو يحمل رسالة من الاستاذ “ ابراهيم جلال “ الذي كان يدرس هناك ايضا يوصينا به خيرا ويعرفنا به فنان ملتزما ومخلصا وفيا .

سألته – اتذكر كم مضى على اخراجك لمسرحية (رسالة مفقودة) في فرقتنا ؟

صحح جملتي قبل ان يجيب وقال – في فرقتنا – المسرح الحديث ...!

قلت : هذا صحيح .. انها فرقتك ومازالت فرقتك ، قال : قبل ثلاثين سنة ! اخرجت “ رسالة مفقودة “ كان ذلك عام 1960م وراح يذكرني كيف مثلت انا دورا صغيرا فيها ، بل كان دور “ كومبارس “ واحد من الجمهور .. لكنني جلبت النظر بسبب خلق شخصية متميزة لها سبب وجودها بين المجموعة .. وقد اعانني – بهنام – على ذلك لنثبت لطلبة المسرح بمعهد الفنون آنذاك ان اي دور صغير يمكن ان يلفت الانظار ان كان ممثل الدور يستطيع خلق سبب وحالة لما يؤدي في ذلك الدور ..!

بهنام نسي وهو يذكرني بشيء لم انسه اصلا .. نسي انه وهو العائد من دراسته المسرحية .. قام بدور “ كومبارس “ في مسرحية “ اهلا بالحياة “ التي كتبتها واخرجها “ عبدالواحد طه “ وقدمتها فرقتنا .. قبل اخراجه “ رسالة مفقودة “ بعدة شهور .. مجرد زبون في كازينو يجلس مع صديق له وقد مثل دور الصديق المصور السينمائي المعروف “ ماجد كامل “ لعدة دقائق .حـــيــن مثل هــــذا الدور صار مضرب المثل في التواضــع والنفـس العالية الغيـــورة على المســـــرح ..

كنت اتأمله واستعيد معه جهاديته في معهد الفنون الجميلة لترسيخ قيم المسرح الاصيلة ، واحترام هذا الكائن المقدس – المسرح – الى حد العبادة الفنية – كما كنا نسميها .

كان المسرح وحتى آخر يوم في حياته .. معبدا لا يدخله الا من يقدسه ولا يقف على خشبته الا من نذر نفسه وروحه من اجله .. وكان اي خرق لهذه القيم كفرا وجريمة لا تغتفر ، لهذا عرض بهنام نفسه لمضايقات من قبل كثيرين لم يكونوا يريدون هذا الموقف المتشدد والذي قد يزعج البعض ممن يتخذون المسرح قاعة لهو ولعب يدخلون اليه ويخرجون منه بلا استئذان !

لا .. ! كان بهنام يصرخ حين يجد واحدا يدخل قاعة (البروفة) التمارين دون علم المخرج او خلال العمل ! او ان يدخل مشاهد المسرحية قد قضى على عرضها زمن قصر ام طال !

اما الممثل عنده فهو اداة مقدسة يجب ان تحترم كما يجب ان يحترمها الآخرون كما تحترم هي الآخرين ، فن التمثيل حياة لا بد ان يعيشها الممثل ، يعيشها حقا بلا تلقين فليس غريبا عنده حين اخرج طلبته – بنين وبنات – الى الشارع يمارسون مختلف الاعمال اليومية بأنفسهم مع الناس كي يعيشوا التجربة الحية ، وان يدعوهم الى احترام كل ادوات عملهم حتى الصماء منها .. يحترمونها لانها مكملة لعملهم وهي جزء منهم يفترضون فيها الروح والحياة والاحساس المرهف ..!

كان هذا الفنان احيانا يصــطـــدم في جـــدران صماء حيـــن يقف متمسكا بالحــقيـــقة التي يــؤمـــن بها مذهبا وقيمة كـــريمــة ..

حين غادر العراق لدراسة طب الاسنان تحول الى اللاهوت لدراسته .. ثم ابدل دراسته هذه بالمسرح .. ! انتقل الى المسرح وفي روحه ذاك الصفاء في الاقتراب من الله في عمله المسرحي ... النظافة والطهر والصفاء والصدق .. فراح يحفر ويحفر في الصخر ليستخرج الماء العذب .. وقد استطاع مع من فهموا قصده ونضاله وبسالته حتى آخر يوم حين عاودته النوبة القلبية ليغفو غفوته الابدية قبل يوم من احتفالات يوم المسرح العالمي الذي كان يتهيأ للاحتفال به .

بهنام ميخائيل .. هذا الانسان والفنان الكبير في كل ما طرح من قيم شريفة وكريمة في مسرحنا العراقي ، غاب عنا على حين غفلة منا .. وكنا نريد له ان يظل سنوات وسنوات بيننا ، فما زلنا بحاجة الى جهاديته ، وبسالته ، في عالم المسرح الذي تسوده السطحية ويعم فيه الاستسهال .. بحاجة الى مواقف صلبة منه لهذا الجيل الذي نحرض عليه كما نحرص على ما في عيوننا .. وبهنام واحد من الجديرين بهذه المسؤولية الصعبة .. لكن القدر شاء ان يستلبه منا روحا نظيفة نقية كالثلج وانسانية عميقة عمق البحر .. ما علينا الا ان نترحم له وندعوا كل من اغترف من علمه ومعرفته ان يقتدي به فذاك ابسط الوفاء الى المربي والاستاذ والمعلم والفنان بهنام ميخائيل ... رحمة الله عليه.

نشرت هذه المادة عام 2012