الريحاني في العراق .. ليلة في بعقوبة سنة 1932

الريحاني في العراق .. ليلة في بعقوبة سنة 1932

امين الريحاني

خرجنا من بغداد، والشمس وراءنا تدنو من الغروب، والأفق أمامنا خطٌّ من ذوب قلبها أصفرُ رقيق، يفصل بين سماء جامدة في زرقتها، وأرضهامدة غبراء. وهذا السهل السوي الفسيح الفارغ هو درب في كل مكان، وهو للسيارة ميدان. لا زرع فيه ولا كلأ، غير بقاع هنا وهناك أخضرها مائل إلى الاصفرار، وأصفرها كالغبار. وهذا قطيع من الغنم يعلل النفس بها. وهاك آخر يجتز ما لصق بين الحصىوالتراب منها.

لاشيء جميل حتى في القوافل التي مررنا بها، وهي سائرة إلى بلاد فارس أو قادمة منها. ولا رفيق لنا في الطريق غير الغبار والشمس، أرض بلقع يملُّها الحادي، ويقنط منها حتى القطا، ولا يتحمل مشقتها مشيًا غير الحاج العجمي الذي يجيء زائرًا النجف. بل هو يجتازها فرحًا؛ لأنها مُدْنية إليه مشهدَي علي والحسين. وها قد هجرتنا الشمس، ولا رفيق لنا غير الغبار. ولكننا بعد قليل وصلنا إلى خان بني سعد، في منتصف الطريق بين بغداد وجسر ديالي، فأوقفنا شرطي المخفر هناك ورحَّب بنا قائلًا : لا سفر بعد الغروب، قانون جديد. إما أن تبيتوا هنا، وإما أن ترجعوا .وقد أكد لنا أن الطريق غير أمين، وأن اللصوص لا يخشون مخفرًا فيه شرطيان لا غير.فأفهمناه أننا مجازفون، وأن الأخطار لذة الأسفار، ثم أعطيناه أسماءنا — العفو —: نحن السيد حسين أفنان سكرتير مجلس النظار. فسلَّم ثانية وقال : بامان الله .

كان أفنان يحمل بندقية للصيد، والسائق سكينًا، أبرزها ليزيدني اطمئنانًا.عاد يرافقنا اثنان — الغبار والقمر. وكنا نرتاح إلى ثالث هو صوت السيارة، ثم مررنا بجماعة من الناس، وهم مثلنا متخوفون، متوقعون القدر واللصوص. فبادرونا بالسلام بصوت عالٍ، كأنهم يستنجدون بنا، ولوَّحوا بالأردان. فرددنا السلام بصوت «، وطمأنهم السائق قائلًا. اللصوص أمامكم وها قد دنونا من العمران. هو ذا جسر ديالى ومخفره، وهو ذا عدو اللصوص يسلم

علينا، ثم جابي رسم المرور يلوح لنا بقنديله الأخضر. دفعنا الرسم وسمعناه يشكر ويدعو لنا بالسلامة.

بعد أن عبرنا الجسرسرنا في جادة ضيقة، مضيئة بأنوار ضئيلة من الكاز، أدت بنا إلى السوق — سوق بعقوبة المسقوفة، الحافلة بالمقاهي — وقد اكتظت بالناس. وكان السائق فرحًا فخورًا ببراعته، وسرعة سيره، كأنه لا يزال في الفلاة. وكنا نحن بشجاعته معجبين، وبجنونه راضين، وليس في السوق شرطي يعيده إلى رشده، ويذكرنا بأننا في قلب بعقوبة، لا في البادية.

وما بعقوبة، وما قلب بعقوبة، بلا رمانها؟ كنت أتوقع أن نصطدم بطبق من الرمان، بدل كرسي وخوان. زمر يا رجل، زمر. ما جئنا بعقوبة غازين، ولا نحن من المحتلين. هؤلاء السمَّار إخواننا، ولهذه الأراكيل حق في السوق مثلنا. فقال السائق : زمرنا يا بك يجيء البوليس .

وما كاد يفصح عن خوفه حتى بدا أمامنا الشرطي، والعين منه جاحظة، واليد مرفوعة آمرة. ممنوع السير، ممنوعة السيارات. وكيف يمكننا أن ندور لنرجع أدراجنا، إلا إذا دخلت السيارة أحد المقاهي؟ كلَّم السائق الشرطي ملاطفًا، مجاملًا، وصلى على النبي. فصلى الشرطي كذلك على النبي، وما لان. فهمس السائق إذ ذاك قائلًا: السيد حسين أفنان سكرتير إلخ، فحوقل الشرطي، وأشار بيده أن سيروا بأمان لله.

وكانت السوق تزيد ضيقًا وتقل نورًا. وكنا نسمع الناس يستعيذون بالله، ويصلون على رسوله، ويحوقلون. وكنا نراهم يقفون واثبين، والأراكيل أو الكراسي بأيديهم فيلصقون بالجدران، أو يدخلون الخان أو الدكان، لنسير نحن بأمان. يا للفضيحة ويا للعار! إن جملًا هائجًا في مقهى، أو ثورًا ثائرًا في مطعم، لأقل فظاعة منا في سوق بعقوبة. ولكننا نحن والسوق ومن فيها خرجنا من الغمرة سالمين كلنا والحمد لله. وما كان من ذنبنا إلا أننا روعنا اليعاقبة. وكدرنا جو سوقهم ساعة السمر.

وما كانت المائدة، بزينتها وألوانها وخمرها، بعقوبية أو بغدادية. مائدة لا شرقية ولا غربية، بل جامعة بين محاسن القارتين وكنت أنا في سروري الوارف، أتشوف إلى السرور الأورف في ظلاله ونضارته. كنت أتخيل ما سيتبع الوليمة، وأنا أحسب نفسي، بعدما ذقت من غم المآدب الرسمية، مستحقٍّا كل ما تجيء به أريحية الصديق الجميل.

ولكني ما رأيت في الإيوان، ولا في من بدوا وتواروا هنا وهناك في الدار، ما يبرر الخيال والأمل. لا وجه من وجوه الحسان، ولا طيف لِقَيْنٍ من القيان. لا، ولا سمعت همس راقصة وراء الستار، ولا خشخشة فستان أو إزار.

انتهى العشاء، وشربنا القهوة، ثم جاءت الأركيلة، ثم شيء من الشراب. وما لبث أن تثاءب السيد حسين أفنان — قدس لله سرَّ أجداده — فقال الأخ فخري دامت نجابته :إنكم ولا شك — تعبون من السفر هذي هي غرفتك ياحسين، وهذي هي غرفتك، يا أمين » وكان لله محب المحسنين. «.

عن كتاب ( قلب العراق )