يكفيني فخراً انه أبي

يكفيني فخراً انه أبي

رجاء حميد رشيد

تمر هذه الأيام ذكرى وفاة الصحفي والمترجم الكبير أبي حميد رشيد رحمه الله الذي وافاه الأجل في الساعة السادسة من مساء الأربعاء 18 شباط 1969 في مكتبه الرسمي في الجريدة ، وترك خلفه أرملة شابة (لحقت به بعد أربع سنوات من وفاته) وسبعة أيتام صغيرتهم أنا لم أتجاوز الرابعة من عمري بعد ، لم أر أبي حقيقة ولا اذكر ملامحه ألا من البوم الصور الذي أعده أرثاً عائلياً ثميناً ولم اردد أجمل كلمة في الكون (بابا) ، وكبرت وورثت عنه حب القراءة ومهنة المتاعب

وبقيت ذكراه طي الكتمان سنوات طويلة لاتجاهاته الماركسية المعارضة لاتجاهات السلطة الحاكمة آنذاك ، وبعد مرحلة التغيير سنة 2003 وسقوط النظام الدكتاتوري وتجاوز المحن العصيبة التي اتسمت بالطائفية والقتل والسلب واستقرار البلد امنياً نوعا ما ،بدأت بالبحث والتقصي للتعرف على الصحفيين الرواد ممن كانوا زملاء وأصدقاء أبي رحمه الله، فضلاً عن زياراتي العديدة لأرشيف دار الكتب والوثائق وجمع المعلومات من خلال ما نشر عنه في الصحف والمجلات فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ، رأيت أبي رحمه الله بعيونهم وعرفته أكثر بكلماتهم وفرحت كثيراً رغم الحزن الساكن في داخلي بما سمعت عنه من سيرة مهنية وإنسانية مشرفة ورائعة وسأذكر مقتطفات بسيطة مما كتب عنه لاستذكر السيرة الطيبة والنزيهة بمقالي التأبيني هذا ، هو احد مؤسسي نقابة الصحفيين العراقيين وأول من وضع النواة الأولى لتأسيس وكالة الإنباء العراقية ، تنافست صحف ذلك الزمان على التعاقد مع حميد رشيد ليكون كاتبها المفضل ، كتب عنه الكثير ، وأشاد بإخلاصه ووطنيته كثيرون ، ووصفته سلام خياط بالصحفي النزيه الشريف غير الانتهازي أو المتملق ، وعده صادق الازدي من أكفأ المحررين الذي عرفتهم الصحافة العراقية ، وقال عنه شاكر إسماعيل انه صحفي لامع شعاره الصحافة مدرسة الحياة وعندما نتحدث عنه نتحدث عن الكلمة الحلوة الأنيسة التي تنتزع منك الإعجاب والإطناب عن الأسلوب الرشيق الأنيق الدقيق في تعابيره ورموزه ومفرداته المحملة بثقافة عصرية وتراثاً عربياً وحضارة لاتينية ، أجهد نفسه في علمها لمواكبة أحداث التاريخ للغات أقوامه ، فكما تعلم الانكليزية بلغة شكسبير لقراءه اشهر كتبه ومؤلفاته فقد حاول ايضاً أن يرتوي بلغة أبناء السين ليكون شاهداً على الثورة الفرنسية التي وهبت البشرية شعارات الحرية والمساواة ، كما تعلم اللاتينية ليقرأ (الإلياذة والأوديسة ) بلغة الإغريق .

حميد رشيد يمثل المدرسة الحديثة في الصحافة التي تجمع بين جمال الإخراج وسمو المعنى ، وكتب يوسف عويد عن إنسانيته ووطنيته في سبيل الكلمة قائلاً ، كان أنسانا شريفاً دخل السجن أكثر من مرة ، بالتزاماته بنضال وتطلعات شعبه ، كان يمتلك قدرة هائلة لتعلم اللغات حيث أتقن اللغة الانكليزية بمفرده وكان أول مذيع فيها بعد ثورة 14 تموز من إذاعة بغداد ، وكذلك تعلم الفرنسية في ظرف ستة اشهر قضاها في سجن الكوت عن طريق بعض الكتب الفرنسية سنة 1962 والى جانب ذاك كان راسخ العقيدة بمبادئه الإنسانية الحقة، وعزمته السجون أكثر من مرة ، وكان يخرج في كل مرة ليستأنف مسيرته في الحياة بعزيمة أقوى وأيمان ارسخ.

أما في الترجمة فانه ينتقي المواضيع التي تخدم الحركة الوطنية وتعبر عن بعض اتجاهاتها ، وقال عنه محسن حسين جواد ” عندما عرفته كنت في بداية عملي فكان لي خير معين على التعرف على هذا المحيط المجهول يحذرني من المخلوقات التي كانت تعيش فيه بعضها سيء بل كنت مسرورا بأوامره أن أتجنب هذا أو ذاك كما كان يرشدني إلى الصحفيين المهنيين ذوي السيرة الحسنة. كان كالأخ الكبير وكان فضله لا ينسى ، وشهد له معاذ عبد الرحيم : المرحوم حميد رشيد من أحسن واقدر الصحفيين الذي شهدتهم الصحافة العراقية وهذه شهادتي أقولها بكل صدق وصراحة وهو احد عمالقة الصحافة العالية ، ووصفه مفيد الجزائري بالكاتب البارع كان يقرأ باللغتين الانكليزية والفرنسية وهو احد النادرين الذين يعدون على عدد أصابع اليد وقد لا يتجاوز عددهم الأربعة والخمسة أشخاص ، وقال عنه شيخ الصحفيين سجاد الغازي : الأخ والصديق والزميل والإنسان الزاهد المتواضع المسالم الهادئ الصحفي والإعلامي … المترجم والأديب … صاحب الذائقة الفنية … السياسي والمناضل والحكيم … الأنيق المتأنق شكلاً وملبساً وكتابة … النظامي الملتزم قانوناً وعقيدة …الأستاذ ، في الصحافة والكتابة والترجمة والأدب والتفسير في القانون والفلك والعلوم … مثال الإنسان المثقف الذي يعرف أكثر من شيء عن كل شيء . ، وأشار آخر انه صحفي ماهر ، أجاد الكتابة والترجمة. حميد رشيد كرس نفسه للبحث عن الحقيقة والنضال من اجل الحقيقة لا يثنيه عن بلوغها جوع او تشرد او ضياع ، انه حميد رشيد فقط بلا لقب ، بلا نسب ، العراق لقبه والوطن نسبه والصحافة عمله ، يكفيني فخراً انه أبي.