مليون وحدة سكنية للاستثمار..مسكن آلام أم مَسْكَن إنسان

مليون وحدة سكنية للاستثمار..مسكن آلام أم مَسْكَن إنسان

الدكتور عبد الحسين العنبكي
لاشك ان بلد مثل العراق لديه فجوة سكن تقدر بأكثر من (2 مليون) وحدة سكنية ولديه معدل نمو سكاني عالي يقدر بـ (%3) يحتاج الى استثمارات كبيرة في مجال الاسكان من أجل ردم الفجوة واشباع الطلب المستمر على الوحدات السكنية،

ناهيك عن أهمية قطاع الاسكان في تحريك قوى العرض والطلب بوصفه اكثر القطاعات يعتمد على المدخلات المحلية، وبإمكانه تحريك الكثير من الصناعات والانشطة السائدة كالمواد الانشائية والصحية والتأسيسات الكهربائية والمائية، فضلاً عن احتياج هذا القطاع الكثيف الى الكثير من العمالة العراقية من عمال وحرفيين ومهندسين الامر الذي ينعكس ايجاباً في توليد الدخول وتحسين المستوى المعاشي للكثير من الشرائح الاجتماعية المحدودة والمتوسطة الدخل، ناهيك عن رواج التجارة في الكثير من المستلزمات المكملة الاخرى ، وفي خضم هذه الظروف تتقدم الهيئة الوطنية للاستثمار بمشروع استثماري لبناء مجمعات سكنية لموظفي الدولة بطاقة مليون وحدة سكنية .
ونحن اذ نثمن عالياً وندعم هذا النوع من المشاريع العملاقة التي ستكون كفيلة باحداث طفرة كبيرة في الاستثمار والتشغيل والتنمية فيما لو نفذ فعلا ، الا اننا، في الوقت ذاته نخشى من الغلو في التفاؤل المبني على استدراج رقمي قد يأخذنا بعيداً عن الحقيقة وعن حجم الطاقات الاستيعابية للاستثمار وإمكانيات هيئات الاستثمار الفتية ، ويمكن التركيز على نقاط الاختناق وغياب الصورة الكاملة في المشروع من خلال الاتي:
1. في الوقت الذي نؤمن فيه بوجود نقص في الاستثمار لكافة القطاعات الاقتصادية (الانتاجية والخدمية) وليس فقط الإسكان،إلا أن الطاقة الاستيعابية للاستثمار عادة ماتكون مكبلة بالعوامل المكملة الاخرى كالقدرات الادارية والمؤسسية والتشريعية والتمويلية وتعقيدات الاجراءات الحكومية وعدم مرونة اجهزة الدولة في التعاطي مع الاستثمار وغياب دور (النافذة الواحدة) وشللها عن اداء مهامها وغياب المصارف التجارية القادرة على العمل بمرونة للاستجابة لمتطلبات التمويل والتسهيلات والخدمات المصرفية المتعلقة بالمستثمرين والضعف الحاد في قطاع التأمين والحالات المستشرية من الفساد وعدم الانضباط الوظيفي وغياب الشفافية والحكم الرشيد ومدى القدرة على توفير البنى التحتية والظروف المعيشية والخدمية في المجمعات السكنية المقامة، فكلنا يعرف ان في العراق اقيمت الكثير من التجمعات السكنية بعد توزيع الاراضي على الاهالي الذين بذلوا الغالي والرخيص من اجل بناء المساكن وقد نجحوا في بناء احياء كاملة منذ ثمانينيات القرن الماضي ، وشهدت الوحدات السكنية فيها والاراضي طفرات سعرية كبيرة مبنية على توقعات متفائلة حول مدنهم الجديدة الا ان الدولة قد خيبت آمالهم وتحولت أزقة وشوارع تلك المدن الى مستنقعات تنمو فيها اشكال المخلوقات من قصب وبردي وحشرات وبعوض وتحولت الى طاردة للسكان وتدنت اسعار الوحدات السكنية فيها الى حد يكون فيه من المجدي تهديم الدار والاستفادة من بعض المواد الداخله فيه للبناء في مناطق اخرى ، فما بالك والامر يتعلق بمليون وحدة سكنية في بلد مهدم البنى التحتية من طرق وجسور وشبكات ماء ومجاري وكهرباء فضلاً عن النقص الكبير في خدمات الصحة والتعليم وشروط العيش والبيئة والترفيه العام.
2. ان الاستثمار الكلي في الاقتصاد هو حاصل جمع الاستثمار الحكومي والاستثمار الخاص، وحيث ان الاستثمار الخاص في قطاع الاسكان سوف يتركز في بناء الوحدات السكنية (مليون وحدة) وسوف يستنفد تقريبا (50 مليار دولار ) بافتراض ان ثمن الوحدة (100متر مربع ) هو 50000 دولار وفق للمشروع المقترح ، فان الاستثمار الحكومي المخصص لقطاع الاسكان يفترض ان يتجه بالكامل الى البنى التحتية والخدمات العامة في المجمعات السكنية الجديدة ، واذا افترضنا ان معدل العائلة هو (5) أشخاص فان البنى التحتية والخدمات العامة يفترض ان تشيد وتقام لـ(5) مليون نسمة، اي بمستوى نفوس دولة بحجم الاردن اذا ما اريد للمواطن العراقي ان يعيش المستوى اللائق به، وحيث ان تخصيصات الموازنة الاستثمارية لكافة الوزارات باستثناء النفط والكهرباء وتنمية الاقاليم والمحافظات هي (13) و(16.6) و (23) ترليون دينار للسنوات 2011،2012،2013 على التوالي (وفقا لتقديرات ستراتيجية الموازنة )، اي مامجموعه (52.6) ترليون دينار اي مايعادل ( 45 ) مليار دولار، فان هذا المبلغ (اذا وفقط اذا) وجه بالكامل للمجمعات السكنية الجديدة و(اذا و فقط اذا) وجه بالكامل لانجاز مشاريع حقيقة ومدروسة ودون اي شكل من اشكال الفساد، سوف لن يكون قادراً على توفير الخدمات وظروف العيش المناسبة لمن سيتم تسويق الوحدات السكنية لهم، علماً ان فرضيات هذا السيناريو مستحيلة التطبيق لوجود مجالات كثيرة تحتاج الى توجيه التخصيصات الاستثمارية لها وتحضى بأولوية مجتمعية واولوية لدى متخذ القرار، فضلا عن اننا قد نحتاج الى خمسة اضعاف هذا المبلغ لتوفير شروط العيش وهذا ما لن يتوفر في الموازنة العامة لا في الامد القصير ولا في المتوسط بحيث تتآكل المجمعات السكنية (اذا ما بنيت حقا) ويعتريها سرطان الاهمال كسابقاتها لنقع من جديد في فوضى المشارع التنموية المبتورة .
3. يا اخوتنا في الهيئة الوطنية للاستثمار ،ان الاستثمار متغير اقتصادي بامتياز وله اثر مباشر في جانبي العرض والطلب للسوقين الحقيقية والمالية وقرارات الاستثمار لاتبنى بحسابات وامزجة
(فنية وهندسية) وانما تبنى بحسابات وامزجة (اقتصادية ومالية) مدروسة بوصفها جزء لايتجزء من حركة المتغيرات الاقتصادية الكلية والصورة الاقتصادية الكاملة، وهذه للأسف الشديد مفقودة لدى مقترحي مثل هذه المشاريع العملاقة التي يذهبون بها تحت اجنحة الظلام الى اجتماعات مجلس الوزراء للمصادقة عليها دون دراسة اقتصادية معمقة في بلد صار المنطق الاقتصادي فيه مستباحاً وأصحابه الحقيقيين خلف ستار (الفلاتر والحواشي الضيقة)الأمر الذي يضطرنا الى الذهاب بآرائنا الى الاعلام علنا لنجد من يسمعها .
4. ونحن نخوض غمار الاصلاح والتحول الاقتصادي ونسعى لجعل القطاع الخاص هو القطاع القائد والفاعل في العمليات الاقتصادية في القطاعات كافة ، كنا نأمل ان لاتكون توجهات الاستثمار مغايرة لتوجهات الاصلاح الاقتصادي بل يجب ان تكون اداة فاعلة فيه ، فالاستثمار والقطاع الخاص مرهون بوجود وتطور اي منهما بالاخر ، ومن هنا يفترض ان لايكون المشروع المقترح حصراً للموظفين في الدولة لأن ذلك يعطي مزايا اضافية للعاملين في القطاع العام في ظروف صار فيها القطاع الحكومي الجاذب الاكبر والقطاع الخاص الطارد الاكبر، وصارت الدولة مترهلة وغير قادرة على التحرك السريع لضخامة وتوسع الهيكل الاداري والروتيني، الامر الذي يتطلب قلب المعادله واعطاء الامتيازات للعاملين في القطاع الخاص وليس العكس، وبغية استحواذ الرساميل على الوحدات السكنية والمضاربة بها لتحقيق الارباح ،يمكن الاشتراط في آلية التسويق بان لايحق لشخص واحد شراء أكثر من وحدة سكنية واحدة لمنع المضاربة.
5. ذكر في المشروع المقترح كلفة المتر المربع الواحد وتم ربطه بسعر البيع واسلوب الدفع دون ان يذكروا لنا ما الذي يجنيه المستثمر المجازف بأمواله في بيئة استثمارية غير جاذبة تعج بنواقص ومنغصات عدم التنافس وعدم الشفافية وعدم الوضوح وهو يبيع وحداته السكنية بسعر الكلفة ، ثم ما الذي سوف يقنع المستثمر (البائع ) للبيع بالتقسيط المريح هذا حيث (25%) من قيمة الوحدة السكنية عند التسجيل وتقسيط الباقي على مدى (10-15 سنة) ، فهو قطاع خاص ياسادة وليس من المفيد تحميله مسؤولية اجتماعية ومبرات خيرية تجاه شرائح اجتماعية فقيرة او هشة لان ذلك مسؤولية الدولة ولا يدخل ضمن حسابات (الكلفة / الربح ) مهما كان المستثمر طيب القلب ووطني وما الى ذلك من النعوت الحسنة ، فلا تلبسوا المستثمر جلباب رعاية الدولة لابنائها المساكين وما اكثرهم لانها ليست مسؤوليته وعليكم ان تفصلوا بين رغبات القطاع الخاص وتدعوها تنطلق لتبني بلد مهدم والرغبات الابوية للدولة ، فاي مستثمر هذا الذي ينتظر 15 عام ليسدد له ثمن ما يبيع دون مقابل.
6. اذا كنتم تقصدون ان الدولة من تدفع للمستثمر ثمن الوحدات السكنية وتتحمل هي مسؤولية التقسيط المريح (فهو ممكن ) ولكن لماذا لا تقولوها صراحة ام ان صورة التغطية المالية غير مفهومة حتى من قبل مقترح المشروع ذاته (والمصيبة هنا اعظم ) ثم ان ذلك يرتب على الدولة ان تكون هي الجهة الدافعة للمستثمر نيابة عن الموظف وهذا يعني اقراض دون فوائد بضمانة الراتب، مما يخلق اعباء مالية على الدولة يمكن ان تستخدمها في انشاء البنى التحتية للمجمعات المزمع اقامتها من خلال الاستثمار وهذه سياسة مالية لاندري ان كان واضع السياسة الاستثمارية قد نسق معها في هذا التوجه ام لا ، فضلا عن كون الامعان اكثر في دعم شريحة الموظفين دون شرائح المجتمع العاملة في القطاع الخاص التي تستحق منا في اطار التحول نحو اقتصاد السوق اقراضا ميسرة وتشريعات تحمي حقوق العمل والضمان والمرتب والتقاعد اسوة بالعاملين في الدولة هذا الامر يعد مشكلة بحد ذاته وليس حلا .
7. نحن بهذه الآلية سوف نقييد الطلب على الوحدات السكنية بحصره في اطار الموظفين، بينما بأمكان الطلب المتأتي من القطاع الخاص ان يخلق حالة كبيرة من الرواج ويزيد من سرعة تدفق النقود وتسويق الوحدات السكنية ليكون بمقدور المستثمر التوسع لاحقاً بأقامة مجمعات سكنية اخرى وتنشيط الفعاليات الاقتصادية المرتبطة بهذا القطاع.
8. لم نر في المشروع المقترح أدواراً لهيئات الاستثمار في المحافظات من حيث اقرار المشروع وحصة كل محافظة من الوحدات السكنية وحجم (فجوة السكن) فيها والأراضي التي سوف يتم اتاحتها للمستثمر وهل المشروع سوف يعرض كمشروع واحد ولمستثمر واحد ام هو مجزأ لعدة مشاريع وعدة مستثمرين وعدة مواقع طبوغرافية؟ وما سبل الترويج له واستقدام العروض والتنافس وصلاحية منح الاجازة وهل هي اجازة واحدة ام عدة اجازات لعدة مشاريع؟ واذا كان الامر كذلك لماذا نبقي المستثمر تائهاً في عتمة الفضاءات الاجمالية والعمومية فنغرس لديه الشعور بهلامية المشروع وانه اقرب الى الخيال منه الى الواقع .
9. نرى ضرورة ان تكون مساحة الوحدات السكنية متفاوتة لتسمح بالمرونة في تسويقها للفئات الاجتماعية المتفاوتة، وان تكون مراحل التنفيذ وفق سقوف زمنية منطقية تنسجم والطاقات الاستيعابية للاستثمار وان تكون اعداد الوحدات السكنية منسجمة هي الاخرى زمانيا ومكانيا مع القدرة على توفير شروط العيش الكريم فيها والقدرة التمويلية لها لكي نضمن ان تلك المجمعات المزمع اقامتها هي فعلا مساكن للناس وليست مسكنات لآلامهم صادرة عن خيال اعلامي خصب يطلق البالونات الكبيرة الى الفضاء بين الفينة والاخرى.