مذكرات مصطفى علي..دقة التدوين ونزاهة القول وصراحته

مذكرات مصطفى علي..دقة التدوين ونزاهة القول وصراحته

شكيب كاظم

طالعت مذكرات الأديب والحقوقي والوزير الأستاذ مصطفى علي (الكروي القيسي)، الذي ظل اسمه خلواً من اللقب العشائري، على الرغم من إلحاح بعض أقاربه وذويه ومنهم؛ خاله إبراهيم الدروبي (ت.١٩٥٨)صاحب كتاب (البغداديون. أخبارهم ومجالسهم)،حتى إن بعض الذين زاروه كي يضيف العشيرة إلى اسمه، لما رأوا منه رفضاً لطلبهم، غادروا مجلسه تاركين حتى الشاي الذي قدم لهم غضباً وزعلاً!

مصطفى علي المولود في محلة ( قنبر علي) ببغداد سنة ١٩٠٠، والذي فارق الحياة إثر نوبة قلبية في آذار ١٩٨٠،صاحب المكتبة الضخمة التي احتوت آلاف المجلدات والكتب، والتي شغلته عنهامشاغل الحياة الدنيا، والوظائف التي لا تجلب لصاحبها خلوداً، والذي أهتم بأرث الرصافي الذي حسبه وعده ولده، الذي لم يخلّف ولداً، وأطلق عليه الدارسون صفة (راوية الرصافي) وقد اهتم في أخريات أيامه بتحقيق ديوان الرصافي وتولت وزارة الإعلام العراقية نشره في خمسة أجزاء، أواسط عقد السبعين من القرن العشرين، وأراها من أدق الطبعات، على الرغم من صدور طبعات عديده لديوان الرصافي ومنها الطبعة التي أتم شرحها وصححها مصطفى السقا الأستاذ بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة فيما بعد)،وفي خزانة كتب المرحوم أبي نسخة من الطبعة الثالثة الصادرة عام ١٣٦٨ه‍-١٩٤٩ فضلاً عن مخطوطة كتبها الأستاذ مصطفى عنوانها (٤٤يوما في المعتقل) أعارنيها الباحث رفعة عبد الرزاق محمد، وفيها يصور الأيام المؤلمة والقاسية التي أمضاها معتقلاً في شباط ١٩٦٣،وفيها يشيد بالأخلاق السامية للعقيد الطبيب الجراح الحاذق رافد صبحي أديب، الذي رحب به وأوسع له مكانا في تلك الغرفة الضيقة التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة البشرية، مما خفف عنه بلواه.

رأيه بالحصري والكرملي

هذه المذكرات نشرت تحت عنوان (مذكرات مصطفى علي من المعارضة إلى الوزارة.وزير العدل في حكومة عبد الكريم قاسم) وصدرت طبعتها الأولى سنة ٢٠٢١.

تقرأ فتلمس النزاهة والدقة واحترام النفس،ونظرات ثاقبة إلى بعض الشخوص والحوادث، منها ما أتفق فيها معه وما قد اختلف، ومنها رأيه بالأستاذ ساطع الحصري (ت١٩٦٨) الذي كان يأمل من قدومه إلى العراق خيراً، لكنه أخفق الإخفاق كله إدارة وتصرفاً، وأحاط نفسه بثلة من الانتهازيين، وكان يفرق في المعاملة بين الناس، وقد ناصبه العداء لأن مصطفى علي آزر أحد المدرسين المصريين في دار المعلمين الابتدائية؛ واسمه محمد السيد خليل، الذي كان الحصري يبغضه، وما شفا غليله منه إلا بعد أن فسخ عقده وأعاده إلى بلده! الأمر الذي دفع بمصطفى علي إلى الاستقالة من وزارة المعارف، والانتساب إلى الكلية العسكرية، وما فيها من شروط وتعليمات وأوامر لا تأتلف مع تطلعاته ليغادرها نحو كلية الحقوق، هو الشغوف بالأدب والثقافة والقراءة الحرة.

الأستاذ مصطفى علي له رأيه السلبي- كذلك- بالأب انستاس ماري الكرملي(١٩٤٦)ويرى أن ما يشاع عن جهده اللغوي مبالغ فيه، لا بل ينعى على من أزمعوا الاحتفاء بالكرملي، مؤكداً إنني لأجهل أن لانستاس فضلاً علينا وعلى لغتنا يستحق هذا التكريم، ولعل الخطباء والشعراء الذين يودون تكريمه يكشفون لنا جهده هذا!

رأيه السلبي بالكرملي ما وقف عند ذلك بل تعداه إلى مجلته (لغة العرب) واصفاً ما يكتب فيها من أبحاث، بأنها تذكره بنقدة عصر الانحطاط الأدبي لأن اعتقادي بصاحبها يجعلني كذلك.

وإذ وافقته في رأيه بساطع الحصري، فإني قد لا أوافقه رأيه بالكرملي ومجلته الرائدة، وأرى أن هذا يعود إلى كون الكرملي من اللغويين المتشددين الذي ينحون نحو القدماء حتى إنه يصفه بـ(العقل المتحجر)! لدى عرضه لرأي الكرملي في تعريب أحد المصطلحات.تراجع.ص.٦٨

رأيه بشاعرية العقاد!

يبدي الأستاذ مصطفى علي رأيه المتحفظ بشاعرية الأستاذ عباس محمود العقاد (١٩٦٤) إذ أطلعه صديق له على نقد ديوان العقاد، فقرأ بعضا منه، ومما زهده في مواصلة قراءته، إنه نقم على هذا الأسلوب الجاف في النقد، ولأنه لا يرى النقد كما يراه كاتب ذلك المقال في مجلة (لغة العرب) للكرملي، مؤكداً أن لي رأيا خاصا بشعر العقاد لا أريد أن أتعجل بإبدائه، دون أن أقتل ديوانه بحثا وتدقيقاًأؤجله إلى حين.تراجع.ص٩٧

إذن هي محاولة أخرى لتطفيف كيل الكرملي ومجلته، لكنه لم يوضح لنا جلية الأمر الذي شغل الأوساط الثقافية، أواخر عقد العشرين من القرن العشرين، وجلية الأمر كما أوضحها الأستاذ عبد الرزاق الهلالي (١٩١٦-١٩٨٥) في كتابه (الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية) الصادرة طبعته الأولى سنة ١٩٨٢، في ضمن منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية؛سلسلة( دراسات) وحملت الرقم (٣٢٤) إن الزهاوي سافر إلى مصر سنة ١٩٢٤، وتعرف إلى الأستاذ العقاد، وكان يرغب في أن يكتب العقاد شيئا عن شعره يرضي نرجسيته، وبعد ثلاث سنين كتب العقاد كلمة في شعر الزهاوي وما وقع في يده من كتبه، ليختم كلمته بما نزل على الزهاوي نزول الصاعقة قائلاً: وإن خير مكان له هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية، فهو لا يبلغ بين الفلسفة والشعراء مثل ذلك المكان».

اغضب هذا المقال الزهاوي لأنه جرده من أهم مزيتين يتنفج بهما ويصعرّ خده على الناس؛ الشاعر والفيلسوف! فرد الزهاوي عليه ورد العقاد، وتوالت الردود الجافية القاسية.

سنة ١٩٢٨، أصدر العقاد ديوانه فاهتبلها الزهاوي فرصة ليحطم العقاد شعريا، وما كتب هو النقد،بل أوعز إلى أحد مريديه كي يكتب نقدا لاذعا خلوا من الاسم على صفحات مجلة (لغة العرب)، فظن العقاد إن كاتب الموضوع هو الكرملي، بوصفه صاحب المجلة ومصدرها، فكال للكرملي صاعه بمئة صاع، هو المعروف بسلاطة قلمه لا لسانه! ولقد عثر الأستاذ الهلالي على مسودات تلك المقالات في ستينات القرن العشرين، ونشرها مصورة في كتابه هذا.

الأستاذ مصطفى علي يغمز من قناة أحد الشعراء الشباب وقتذاك، من غير أن يفصح عن اسمه، وهو الجريىء الذي لا يخاف في الحق لومة لائم، مع أن الاتهامات وجهت للشاعر أكرم أحمد، الموصوف بـ(شاعر الشباب) إنه هو من كتب ذلك المقال! كما أن الأستاذ مصطفى لم يفصح عن رأيه بشعر! العقاد، ولعله آثر السلامة من صواعق العقاد؟!

الأستاذ مصطفى علي في ذكرياته هذه يطوف بنا في أجواء العراق على مدى أربعة عقود، واقفا عند معركة الحجاب والسفور، وافتتاح مكتبة الأوقاف، وانقلاب بكر صدقي سنة ١٩٣٦ الذي آزره بقوة، وحركة الضباط ورشيد عالي الكيلاني سنة ١٩٤١والكثير غيرها من حوادث العراق، ويدون للقراءوللتاريخ خصال ثلاثة متصرفين إداريين حازمين وهم: عارف قفطان (ت.١٩٥٨)ومحمود السنوي (١٩٦١)وعبد الرزاق حلمي (ولد ١٨٨٠) فأما عارف قفطان فقد اشتهر بالصراحة وحب الخير للناس،كان متصرفا للواء العمارة، وكلفه الملك فيصل الأول أن يتساهل مع أحد الشيوخ ويتغاضى عما تراكم عليه من ضرائب، فأبى كل الآباء، لأن تساهله هذا يؤدي إلى تمرد الآخرين فتصاب إدارته بالشلل.

أما محمود السنوي فكان متصرفا للواء الدليم (محافظة الأنبار الآن) وهو صديق حميم للرصافي، وكانت الحكومة يومئذ لا ترغب في فوز الرصافي بعضوية مجلس النواب، فأبى إلا أن يلتزم صديقه، حتى نجح وفاز ومثل لواء الدليم في مجلس النواب.

وأما عبد الرزاق حلمي، الذي يصفه مصطفى علي بالشدة والعنف، فكان متصرفا للواء المنتفق (أوالمنتفك؛ محافظة ذي قار الآن) وفي احتفال رسمي سمع إيعازاً للشرطة أو الجيش، بأن يتنكب سلاحه تحية لقادم، فقام من محله غاضبا وصاح بأعلى صوته: جنبك سلاح، أنا ممثل جلالة الملك فمن هو الذي يُحيّابعدي؟ وإذ ذاك صعد المفتش الإداري الإنكليزي، الذي تعمد أن يتأخر إحراجا للمتصرف، إزاء ذلك لم يجد مناصا من الاعتذار.تنظر.ص٤٠