الإنقلاب الذي جاء بقطار أمريكي

الإنقلاب الذي جاء بقطار أمريكي

د. عبد الله حميد العتابي

بدأت واشنطن التعامل مع الشأن العراقي لايجاد نظام بديل عن حكم عبد الكريم، فانصب اهتمامها في هذا المضمار الى ايجاد صيغة مشتركة للتعاون مع القوى القومية في العراق تقود الحكومة العراقية الجديدة وتنتهج سياسة متوازنة مع الغرب والدول العربية،

كما اشارت التقارير الامريكية، ومما له مغزاه ما ورد في مذكرة وزارة الخارجية الامريكية فيما بعد الى سفارتها في بغداد في الخامس من شباط 1963 ما نصه: نحن نتفق مع السفارة ان العراق بلا شك اصبح من الناحية الفعلية قاعدة سوفيتية.

ويبدو من تلك الاشارات التي شكلت قناعات كافية لدى الادارة الامريكية ان يستقر رأيها الى تقديم الدعم للبعثيين في حال تنفيذهم انقلاب ضد عبد الكريم قاسم، ونحاول استعراض الدلائل المتوافرة التي تؤكد الدور الامريكي في انقلاب 8 شباط المشؤوم.

جاء على لسان خالد علي الصالح عضو قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي 1959-1975 في مذكراته المعنونة(على طريق النوايا الطيبة) ان الحكومة الامريكية ابدت استعدادها الى تقديم المساعدات المالية والعسكرية لدعم حزب البعث العربي الاشتراكي ضد حكم عبد الكريم قاسم في العام 1959، ونقلت تلك الرغبة عن طريق طالب شبيب عضو القيادة القطرية للحزب 1958-1963 الا ان خالد علي الصالح رفض ذلك العرض مرتين وهدد بالاستقالة من الحزب ان تكرر ذلك على حد تعبيره، ومع ان الاخير لم يستبعد تعاون الامريكان مع البعثيين بعد اعتقاله بتهمة اغتيال عبد الكريم قاسم، وابتعاده عن قيادة الحزب، ويعزز الصالح رأيه بما ذهب اليه علي صالح السعدي امين سر القيادة القطرية للحزب قبل وبعد سقوط عبد الكريم قاسم في الحادي عشر من تشرين الثاني 1963 ما نصه: انه كان على رأس قطار تقوده امريكا.

وفي الاطار نفسه وحسب رواية احد القادة البعثيين لحنا بطاطو(لم يذكر اسمه) ان السفارة اليوغسلافية في بيروت قد حذرت بعض القادة البعثيين قبل سقوط عبد الكريم قاسم من ان بعض البعثيين العراقيين قد اقاموا اتصالات خفية مع ممثلي الحكومة الامريكية.

وهناك رواية اخرى قد تدعم في مضمونها الروايتين السابقتين، ففي مقابلة للباحث البريطاني بينروز مع هاشم جواد وزير خارجية العراق اكمد الاخير للباحث البريطاني انه كان على علم بوجود نوع من التواطؤ بين المخابرات الامريكية والبعثيين، وفي اشارة اخرى للباحث نفسه ان موظفين عراقيين موثوق بهم ومن ضمنهم بعثيون قد اكدوا له ان المخابرات الامريكية قد تعاونت مع حزب البعث للاطاحة بعبد الكريم قاسم وفضلا عما تقدم فقد ذكر زكي خيري عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ان السفير الامريكي في بيروت كلف احد اقارب عبد الكريم قاسم بتحذيره من مغبة التوقيع على مسودة القانون، الا ان الاخير رفض الانصياع للتهديد الامريكي ووقع على القانون، وقد عد الانذار الامريكي بمثابة الضوء الاخضر للبعثيين بتنفيذ انقلابهم في الثامن من شباط 1963 واستدل هذا بما ذهب اليه الى تصريح على صالح السعدي لقد ركبنا قطارا امريكا وجاء تصريحه ذلك بعد ان-استيقظ ضميره- على حد تعبير القيادي الشيوعي.

وفي السياق نفسه، ما ذكره الملك حسين في السابع والعشرين من ايلول 1963 الى ضلوع المخابرات الامريكية بتقديم المساعدات للبعثيين لغرض تسلم السلطة في الثامن من شباط 1963.

وبقي ان نشير اخيرا الى اهم رواية على ما تقدم والمتمثلة بالتصريح الذائع الصيت لعلي صالح السعدي ما نصه:جئنا بقطار امريكي والذي كرره مرارا وفي مناسبات عدة، فقد ذكر فؤاد عارف للباحث سنان الزيدي انه استفسر من هناء العمري زوجة علي صالح السعدي وبحضور د.كمال مظهر احمد في العام 1989 عن مدى صحة تصريح زوجها الآنف الذكر،فأجابت نعم لقد قالها زوجي في باريس في لقائه مع مجموعة من العراقيين وكرره في مناسبا عدة، ومن المهم ان نشير هنا ان السعدي اعلم يونس الطائي عام 1976 في القاهرة وكررها في بغداد ما نص انهم جاءوا من دون قصد بقطار ماكنته امريكية، وحينما سأله اسماعيل العارف في بيروت كيف فقد تم السلطة؟ اجاب السعدي لم يكن بيدي كل شيء، وكنا نعرف ذلك، ولكن الذين كانوا وراءه غلبونا، لقد كنا في قطار امريكي، وفي حديث له مع الشاعر مظفر النواب اكد السعدي: انه والخط القريب منه لم يكونوا اطلاقا على صلة بأية جهة اجنبية وانه بعد دقائق في الثامن من شباط اكتشف انه وجماعته يسيرون من دون ارادتهم بقطار ماكنته امريكية، الامر الذي يتنافى مع ذكره للقيادي الكردي محمود عثمان في لقائهما في باريس، اذ اكد السعدي له ان الغاية تبرر الوسيلة في معرض اجابته عن صحة تصريحه جئنا بقطار امريكي..

وفي مذكرة للدبلوماسي الامريكي للرئيس كيندي في الثامن من شباط 1963، اكد فيها بأن الانقلاب في العراق ستكون بالكامل لصالح الولايات المتحدة الامريكية، واختتم مذكرته بالقول: ان جمال عبد الناصر يحاول ان يحتضن الحكومة العراقية الجديدة، ولكننا نعتقد انه سيفشل لأنه يصارع الريح، وطمأن كومر الرئيس كنيدي بقول: اننا واثقون ان القائمين بالانقلاب يجلسون بثبات على السرج، وعلى صعيد آخر اتخذت وزارة الخارجية الامريكية خطوة لم تخل من تأييد ودعم للقائمين بالانقلاب، وكما اشارت الوثائق الامريكية المنشورة، ان الخارجية الامريكية وجهت بعثاتها الدبلوماسية في الشرق الادنى وبريطانيا، برقيا في الثامن من شباط 1963 الى ضرورة تطمين حكومات البلدان الموجودين فيها ان الحكومة العراقية الجديدة(غير موالية للشيوعية) وهي في جوهرها بعثية وذات توجه قومي، فضلا عن ذلك تنصح البعثات والحكومات ايضا ان يتجنبوا التصريحات التي ربما تثير الاوضاع في العراق.

في الوقت نفسه تؤكد وزارة الخارجية الامريكية للحكومات المعنية ان النظام العراقي الجديد ليس من المناصرين لجمال عبد الناصر.

تبنت الولايات المتحدة اسقاط حكم عبد الكريم قاسم(عاجلا ام آجلا) في نهاية عام 1961، وكل إشارت مضامين العديد من تقاريرها الدبلوماسية والاستخبارية الى اسقاط حكم عبد الكريم قاسم(عاجلا ام آجلا) وحتم واقع الحال عليها في ظل المساومة ضمن مفاهيم السياسة ولعبتها التعاون مع القوى القومية السياسية المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم، مما فرض الوصول في علاقاتها مع الحكومة العراقية الى التوتر ثم التقاطع والتصادم فيما بعد، وكانت نهاية المطاف سقوط حكومة عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963.