من أسرار إنقلاب 1963..موقف رئيس اركان الجيش والحاكم العسكري يوم الإنقلاب

من أسرار إنقلاب 1963..موقف رئيس اركان الجيش والحاكم العسكري يوم الإنقلاب

محسن حسن البديري

في صباح 8 شباط 1963 قاد البعثيون انقلاباً عسكرياً ضد الزعيم عبد الكريم قاسم . لإنهاء حكمه والسيطرة على مقاليد السلطة في العراق. كان الزعيم أحمد صالح العبدي قد سمع بالانقلاب في الصباح الباكر من ذلك اليوم. وهو في بيته سرعان ما ارتدى ملابسه العسكرية وتوجه على الفور إلى وزارة الدفاع.

وعند وصوله توجه إلى دائرة الانضباط العسكري حيث التقى بالزعيم عبد الكريم قاسم هناك مع بعض الضباط المقربين منه امثال عبد الكريم الجدة وطه الشيخ احمد وسعيد مطر وفاضل عباس المهداوي وكنعان خليل حداد ، وتدارسا الوضع الراهن وكيفية مواجهة هذا الموقف, وقرروا التحصن بوزارة الدفاع ومقاومة الانقلابيين. ورغم المقاومة الشديدة التي أبدوها، إلا أن الرمي والقصف المتكرر على وزارة الدفاع اضطر الزعيم عبد الكريم قاسم ومن معه إلى الانتقال إلى قاعة الشعب المجاورة لوزارة الدفاع للتحصين بها. وهنا لم يستطع الزعيم أحمد صالح العبدي مرافقة الزعيم عبد الكريم قاسم إلى قاعة الشعب مع مجموعة الضباط الذين التحقوا معه. وهناك أكثر من رواية تفسر هذا الموقف. فيذكر آمر حماية أحمد صالح العبدي النقيب خالد عبد الجبار الخياط ، إن الزعيم عبد الكريم قاسم تحدث إلى أحمد صالح العبدي وقال ما نصه (( أبو سعد، والمقصود هو أحمد صالح العبدي إن القوم يطلبوني أنا، وأنت في حل من اليمين الذي بيني وبينك فأرجع ولا تذهب معي)) أي إن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يسمح له بمرافقته إلى قاعة الشعب وهو يعلم تماماً مدى حب أحمد صالح العبدي واخلاصه له وكانت هذه الممانعة من الزعيم عبد الكريم قاسم هي خوفاً عليه وحرصاً على سلامته لأنه اعتقد أن الانقلابيين يطلبونه هو، ولتجنيب الأذى عن أحمد الصالح العبدي أمره بعدم مرافقته وذكره بأنه في حلٍّ من اليمين الذي بينهما. وهناك رواية أخرى مفادها أن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يسمح لأحمد صالح العبدي بمرافقته من دون بقية الضباط الذين توجهوا معه إلى قاعة الشعب لأنه كان عليهم تسلق الجدار الفاصل بين وزارة الدفاع وبالتحديد بين دائرة الانضباط العسكري وقاعة الشعب. وهو عالي الارتفاع وبما أن أحمد صالح العبدي كان بديناً بشكل كبير. لم يستطع تسلق هذا الجدار فحينها كلمه الزعيم عبد الكريم قاسم وطلب منه عدم مرافقته. و ودعه بعد أن أثنى على إخلاصه وتفانيه معه.

ويبدو من خلال هاتين الروايتين أن كليهما على صواب إذ أن الزعيم عبد الكريم قاسم كان محباً لأحمد صالح العبدي وهو يعلم يقيناً مدى إخلاصه له باعتباره قائداً عسكرياً مهنياً ورجلاً وطنياً، فأراد له أن لا يربط مصيره معه وهو يعرف جيداً أخلاق الانقلابيين وما يضمرونه له شخصياً. ومن ناحية ثانية فإنّ زيادة وزن أحمد صالح العبدي كان عائقاً أمامه من تسلق وعبور هذا الجدار لذا لا يمكن الشك بأنّ أحمد صالح العبدي بموقفه هذا قد تخاذل, أو نقصته الشجاعة لمرافقة الزعيم عبد الكريم قاسم لأنه كان من أوائل الضباط الذين التحقوا بمبنى وزارة الدفاع حال سماع نبأ الانقلاب في صباح يوم 8 شباط 1963.

وفي المساء اتجه أحمد صالح العبدي إلى شاطئ نهر دجلة وسلم نفسه إلى القوات التي كانت تطوق وزارة الدفاع من الجهة الشمالية الغربية. حيث اعتُقِلَ وأُحيلَ على التقاعد في 8 شباط 1963 . وفي يوم 9 شباط 1963 أودع في معتقل رقم واحد في معسكر الرشيد حيث أوقِفَ لمدة عشرة أشهر وفي مساء ذلك اليوم قام علي صالح السعدي مع مجموعة من أعضاء القيادة القطرية في حزب البعث بزيارة المعتقل. ويذكر خالد عبد الجبار الخياط ، ذكر لي أحمد صالح العبدي (( أنه عندما كان في غرفة التحقيق وجه له علي صالح السعدي سؤال لماذا لم تقبل أن تصبح مسؤولاً كبيراً في الجمهورية وتساعدنا في الانقلاب ضد عبد الكريم قاسم بعد محاولة الاغتيال التي نُفِذَت؟ وأنت كنت الكل بالكل !!! . فأجاب أحمد صالح العبدي لم أفعلها ولن أفعلها لاعتبارات أخلاقية ومهنية. أما الاعتبارات الأخلاقية لأن الزعيم عبد الكريم قاسم كان صديق عمري وإبن دورتي وحِلْف يمين، وزاد وملح بيني وبينه. أما الاعتبارات المهنية فأنا كنت رئيس أركان الجيش وواجبي هو حماية البلد والنظام وإذا قمت بالانقلاب سوف تكون سابقة لكل من يشغل هذا المنصب مستقبلاً بقلب نظام الحكم لأن الجيش بيده وهذه سابقة خطيرة على استقرار العراق. ثم قال لهم ((أريد أن أسأل لماذا لم يفعلها آمر فوج الحماية ، على المستشفى الذي كان يعالج به الزعيم عبد الكريم قاسم ألم يكن آمر فوج الحماية منكم؟ يقول: فسكتوا ثم أجابه علي صالح السعدي أنك موضع احترام سابق وقد ازداد ذلك الاحترام لصراحتك ونزاهتك)) .

وهو من قلائل الضباط والمسؤولين الذين لم يحالوا إلى المحاكمة. وإنما اكتفوا بالتحقيق معهم فقط . إن هذا الموقف يدلل على أنّ احمد صالح العبدي كان رجلاً شجاعاً ومبدئياً لم يتخلَ وهو في أحلك الظروف عن إبداء رأيه بكل صراحة ودون خوف وظل مخلصاً للزعيم عبد الكريم قاسم ولم يتنصل عن علاقته الحميمة التي تربطه به, وهو تحت رحمة الانقلابيين البعثيين. بل إنه حاججهم وذكر لهم إنه كان حريصاً على حماية البلد بحكم منصبه رئيساً لأركان الجيش وكان لا يريد إقحام من يشغل هذا المنصب في الأمور السياسية.

أطلق سراح أحمد صالح العبدي من السجن في العاشر من كانون الأول عام 1963 (. بعد أن قضى عشرة أشهر وحال خروجه مباشرة انتقل مع عائلته إلى منطقة المسبح في حي الكرادة في بغداد. بعد أن استأجر داراً للسكن فيها. حيث أخلى منزله في معسكر الرشيد حينما كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش لأنه لم يكن يمتلك داراً في حياته، وهذا مؤشر واضح على نزاهة هذا الرجل على الرغم من أنّ بإمكانه امتلاك الكثير من العقارات بحكم نفوذه ومنصبه.ونستطيع القول إن الغالبية إن لم نقل جميع الضباط والسياسيين في العهد الجمهوري الأول كانوا بهذه الأخلاق الرفيعة وعدم المساس بالمال العام والإثراء منه لما كانوا يحملون من مبادئ سامية في هذا المجال ودليلنا على ذلك الزعيم عبد الكريم قاسم فقد أثبتت الوقائع فيما بعد أنه لم يمتلك لا منزلاً ولا حساباً مصرفياً.

عن رسالة (أحمد صالح العبدي ونشاطه العسكري والسياسي في العراق 1912-1968)