مصطفى صفوان: هزيمةَ الكلام

مصطفى صفوان: هزيمةَ الكلام

نوال العلي

لا يمكنك أن تتكلّم وأن تقتل في الوقت نفسه، فإمّا الكلام... أو الموت. «الكلام أو الموت» خياران يضعك أمامهما المحلل النفسي المصري مصطفى صفوان في كتاب حمل هذا العنوان (تعريب مصطفى حجازي عن «المنظمة العربية للترجمة»).

وُضع هذا الكتاب استجابةً لمناقشة حول الثورة الإيرانية دارت بين المؤلف وصديقه الباحث كولن ماك كابي. لكن آثار هذا السبب غابت تماماً خلال الكتابة. لن يجد القارئ شيئاً عن الثورة الإيرانية، لكنّك ستكتشف «تفسيراً معقولاً لما قد يدفع شعباً ما إلى تقديس جذور هويته»، من خلال تفسير علاقة المجتمع بالنظام الرمزي على ضوء تفاسير فرويد ولاكان وآرندت وآخرين. وفي هذا الخضم، يجد صفوان درباً يقوده إلى تفسير النظام الرمزي الذي قامت عليه دولة إسرائيل في المنطقة.

بدءاً من مقدّمة الكتاب، يُدهش صفوان المتلقّي. إذ ينصحه بتأجيل قراءة الفصل الأول إلى النهاية، أو يقترح عليه مثلاً أن يبدأ بأي فصلٍ شاء، فكتابه من طراز دائري. كأنّنا بتلميذ لاكان يضيف إلى مهمة الكتابة ـــ على صعوبتها ـــ مهمّة وضع خيارات منهجيّة متاحة للقراءة. فإذا به يحلّل منطق تفكير المتلقي: إذا كنت من المهتمين بالتحليل النفسي كنواة للكتاب فعليك بالفصل المعنون «الاستعادة التأملية». أما إذا كنت ممن يفضلون الذهاب مباشرة إلى المحاور الأساسية، فينصحك صاحب «أربعة دروس في التحليل النفسي» بالتوجه إلى الجزء الأخير وعنوانه «في ما يتجاوز المجتمع».

وإذا كانت شير هايت كاتبة نسوية ودّعت الفرويدية في كتابها الذي عرضناه الأسبوع الماضي، فإننا نبدو في حال أخرى مع فرويد في هذا الكتاب السياسي النفسي. إذ يضع صفوان إصبعه على الطبيعة الديموقراطية العميقة لاكتشافات فرويد الذي ما زال رائجاً في تفسير الرموز التي تحتاج إليها التأويلات السياسية والتاريخية.

قراءة الرموز التي تقوم عليها المنظومة النفسيّة للفرد وبالتالي الأنظمة الاجتماعية والدينية والثقافية الكاملة، قادت صفوان إلى إعادة قراءة فرويد في كتبه «تفسير الأحلام» و«دراسات في الهستيريا» وغيرهما، مستنداً إلى مقولته بأنّ قراءة أيّ رمز لا بد من أن تكون محكومة بالتماسك والانسجام الداخلي الذي يميّز بين محتوى الكامن والظاهر. وبهذا، فإنّ أي رمز لا يفصح عن معناه إلا حين يدرج في سياقه. وإذا جرى استثناء مفسّري الكتاب المقدس اللاهوتيين مثل بولتمان، فإن المفسّرين المعاصرين استندوا إلى منحى فرويد في التأويل. في الواقع، إنّ خطورة الفرويدية في تأويل الرموز تكمن في الطريقة التي يمكن أن تُستخدم بها، فإذا كان فرويد يرى أن كل تعليم من التعاليم هو تعبير عن إرادة تستلزم سلطة تمنحها، فإنه يستثني القتل كأمر ينطق به «فم الإله» صاحب العهد، وكذلك هي حال الكلام الذي يحتاج إلى الاستناد إلى القانون نفسه.

وهنا دعونا نستذكر قولاً لفرويد في كتابه «موسى والتوحيد» حين قال «هناك تشويه يحدث للنص، والصعوبة ليست في تنفيذ الحكم لكن في محو الآثار.. فيجب ألّا تشير فقط إلى تغيير مظهر الشيء، ولكن أيضاً، إحلاله مكان شيء آخر».

هنا يمكن الزعم بأنّ الكيان الإسرائيلي كوّن نفسه وشكّل مصيره من خلال «سلوك الطريق الالتفافي الذي يمر بالإله، وهكذا يمكن استمراره وهويته وبالنتيجة غيريّته وتفرده ليسا في وفائه لتعاليم الله ولا لمحبته، بل للإيمان الذي أقسم عليه». وإذا كانت اليهودية ـــــ بحسب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ـــــ تقضي على أسطرة العالم لمصلحتها، فإنّ التحليل النفسي يُجهز على هذه الأسطرة. وما يصدق على المرضى في التحليل، يصدق بالقدر نفسه على أحوال الوجود الأخرى. من هنا، قال كولن ماك كابي في مقدمة النسخة الإنكليزية من الكتاب الصادر في أصله بالفرنسية، من أنّ تعبير الكلام أو الموت الذي صدر عن لاكان بمعنى تحليلي نفسي، يحمل في أساسه رسالة سياسية فعلية بين «الذوات وبين الحاكم والمحكوم، متجاوزاً السياسة بالمعنى الشائع وصولاً إلى الديموقراطية الفعلية». وإذا كان لتعبير parlêtre الذي ابتكره لاكان أيضاً أي معنى، فإن تأويله سيكون بالوجود من خلال الكلام، أو الكائن المتكلم، وما يمكن استبداله بعبارة صفوان «الكلام أو الموت»، ونحن بذلك ندخل في لعبة هذا أو ذاك، «لا يوجد بين أي شخصين، سوى التحية أو الضرب بالحجر» يقول صفوان مبيّناً كيف يصبح العنف شرطاً إنسانياً ضمنياً لدى هزيمة الكلام.

عن جريدة الاخبار