في يوم رحيله في 1 شباط 1968..كامل الجادرجي ونشاطه السياسي داخل السجن

في يوم رحيله في 1 شباط 1968..كامل الجادرجي ونشاطه السياسي داخل السجن

نصير الجادرجي

في سؤال وجهته صحيفة (البلاد) بعددها الصادر في 19/5/1957 الى رئيس الوزراء السيد (نوري السعيد) حول وجود 8000 عراقي في السجون، عقب عليه قائلاً: أن هناك من يقول أنهم أكثر من هذا العدد..

ثم قال:

عندنا شخص حُكِمَ عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات. ليس بالحبس الشديد، بل (الحبس الكريم!!)، فهو يرتدي الملابس المدنية ويتلقى الطعام من الخارج ويستقبل الضيوف، ويستطيع حتى أن يُقيم (حفلة عشاء!!).

هذا وقد رد عليه (الچادرچي) من سجنه برسالة، نصها التالي:

فخامة السيد نوري السعيد المحترم

رئيس مجلس الوزراء

بواسطة مدير سجن الموقف ببغداد

قرأت حديثكم الصحفي المنشور في جريدة (الأخبار) و(البلاد) بتاريخ 19/5/1957 ومع إني لم أطلع على نص الأسئلة التي وجهت اليكم بشأني، غير أنه لما كان مانشر في الجريدتين المذكورتين يعطي للرأي العام العراقي والعربي انطباعاً عن موضوعي بالذات، فمن حقي أن أتطرق على الأقل الى الوجه الجانبي للقضية التي أردتم توجيه الرأي العام اليها، كما أردتم، على ما أعتقد، صرف الأنظار عن القضية الاصلية وهي التهمة التي وجهت الي والى زملائي في الخريف الماضي والاساليب التي اتبعت في محاكمتنا ومدى انطباق الحكم الذي صدر بحقنا الى القانون واتفاقه مع العدل، فإني ارجىء البحث عن الوجه العام للقضية الى حيث يحكم الاضطرار.

ففيما يخص وضعي في السجن، وهو الموضوع الجانبي للقضية، كما قلت، وما أتمتع من معاملة «ممتازة» بحيث وصفتموها بـ»السجن الكريم» الذي استطيع فيه أن اقيم مأدبة للعشاء أقول أنني لم ألق شيئاً من المعاملة «الكريمة» التي وصفتموها في حديثكم عندما حللت ضيفا على ادارة السجن، اذ كنت قد تعرضت الى اجراءات قاسية وتصرفات نابية، أقل مايقال عنها انها لاتليق بأي انسان شريف يعتز بكرامته، وقد احتملت كل مالقيته بصبر وأناة لمدة طويلة من الزمن، أما الحياة التي أحياها الان في السجن والتي وصفتموها بـ(الكريمة) فإن صح اعتبارها حياة ممتازة بالنسبة لي فهي على أي حال ليست منحة من قبل أحد وانما هي في الواقع نتيجة طبيعية لبعض مامنحه قانون السجن ونظامه من حقوق للسجين السياسي.

أما بصدد اقامة مآدب العشاء داخل السجن، أقول انه لو كنتم مطلعين على انظمة السجن وتعليماته لتبين لكم أنه من المستحيل على السجين ان يقيم مآدب من هذا القبيل داخل السجن لان جميع ابواب السجن الحديدية تقفل قبل غروب الشمس ويفصل السجين بعدها عن العالم الخارجي فصلا تاماً، وحتى لو تفضلتم ولبيتم مبدئياً احدى تلك الولائم المزعومة لتعذر عليكم شرف الحضور بصورة مطلقة اذ لايسمح لأي انسان الدخول الى السجن بعد الغروب بموجب تلك الانظمة والتعليمات هذا ولايسعني الا أن آسف لما بدر من فخامتكم –بصفتكم رئيسا للحكومة-من أقوال تجانب الحقيقة مهما كانت الغاية المتوخاة منها بالنسبة اليكم.

وتقبلوا بفائق الاحترام

في 20 مارس 1957

كامل الچادرچي

رقم 1874

سجن الموقف – بغداد

صورة منه الى جريدة (البلاد)، جريدة (الاخبار)

من المؤكد أن هذا الرد من سجين سياسي يُفند فيه ادعاءات رئيس الحكومة لم ينشر في الصحف العراقية، لكنه وصلني الى القاهرة وقمت بدوري بتسليمه الى الصحفي (أحمد بهاء الدين) الذي حال قراءته له وعدني بنشره في مجلة (صباح الخير)، وبعد اسبوعين نشرها في المجلة مرفقة بصورة لكامل الچادرچي في سجنه علماً بأن دار (روز اليوسف) لاتنشر صوراً فوتوغرافية في مجلاتها منذ صدورها الاول حتى نشرها لتلك الصورة، لكن نقاشاً حصل مع رئيس مجلس الادارة الأديب (إحسان عبد القدوس) لكسر التقليد قضى بنشر صورة فوتوغرافية للچادرچي مرفقة برسالته، في سابقة لم تحصل بتاريخ المجلة قبل ذلك التاريخ، في عام 1957.

صلته بالضباط الاحرار

كان والدي على صلة وثيقة بتنظيم الضباط الاحرار الذي انبثق في اواخر العهد الملكي وحتى عندما كان في سجنه، وكان ذلك من خلال السيد محمد حديد وبواسطة صديق عبد الكريم قاسم، السيد (رشيد مطلك)، إذ كانت بداية الصلة عبر السيد (حسين جميل) في عام 1956 الذي لم يستمر طويلاً بعد أن صرفوا النظر عن الاتصال المباشر به ليكون القرار بالاتصال بوالدي، وبعد سجنه وتفادياً لقطع الصلة أصبح الاتصال من قبلهم بالسيد (محمد حديد) الذي كان ينقل رسائلهم الى والدي في سجنه.

وفي الفترة الأخيرة من سجنه كان السيد (محمد حديد) يزوره لاكثر من مرة في الاسبوع لتبليغه برسائل الضباط الاحرار اليه. اضافة الى قدوم السيد (رشيد مطلك) بنفسه اليه في الحالات التي تقتضيها الضرورة.

من خلال ذلك أدرك والدي بأن الثورة على وشك الحدوث، حيث أبلغه الضباط الاحرار بإتفاقهم على أن يتم في ساعتها الأولى إقتحام فصيل من الجيش لسجنه وتحريره منه، ومن خلال هذا الامر توقع بأن مجابهات مسلحة قد تحدث وتحسباً لما قد لايحمد عقباه في حينه قدم طلباً رسمياً لإدارة السجن يقضي بفحص (دمه) واستخراج فصيلته منه، ثم قام بتعليق النتيجة فوق فراشه ليعرف المسعفون (في حالة جرحه) نوع فصيلة دمه.

لكن ذلك لم يحدث، لأن سراحه قد أطلق قبل قيام الثورة بستة عشر يوماً أي في 28/6/1958.

ولازلت أحتفظ بهذه الوثيقة الرسمية النادرة الصادرة من السجن المركزي ببغداد موقعة من طبيب السجن، ونصها:

الاسم: الاستاذ كامل الچادرچي

العنوان: السجن المركزي –بغداد-

فصيلة الدم: O+ Positive

وقد روى لي السيد (صديق شنشل): بأنه في ربيع عام 1958 عقد اجتماع في غرفة السيد (كامل الچادرچي) بالسجن حضره كلٌ من السادة:

محمد مهدي كبة وكامل الچادرچي ومحمد حديد، إضافة اليه، ولعدم لفت الانظار لم تكن تلك الزيارة في يوم الثلاثاء المخصص للزيارات جراء كثرة الحضور، فخصص أحد الايام الاعتيادية لعقد ذلك الاجتماع الهام بحجة تفقده والاطمئنان على صحته.

كان فحوى الاجتماع (والكلام لشنشل) مخصصاً حول مشاركة الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال في حكومة (الثورة) المرتقبة، من عدمها.. وكان كامل الچادرچي قد أبدى معارضة شديدة للاشتراك في حكومة يقودها الجيش أياً كانت.

حيث قال (والكلام لشنشل) بأن الثورة ستكون عنيفة (حسب تصور كامل الچادرچي) ولاداعٍ للاشتراك بحكومة من هذا القبيل، ومن الأفضل أن يتحمل العسكر هذه المسؤولية.

لكن بعد أن لمس إصراراً من الحاضرين بالاشتراك اقترح عليهم أن يشترك (الصف الثاني) من الحزبين في الحكومة كوزراء وأن ينأى القادة بأنفسهم عن خوض ذلك الأمر.

كان رأي السيدين (محمد حديد) و(صديق شنشل) يتمثل بالاشتراك المباشر في حكومة الثورة المرتقبة، أما السيد (محمد مهدي كبة) فقد كان متردداً برأيه..

حينها قال محمد حديد للحضور بأن لديه رسالة من (قائد التنظيم) تفيد بأنه لو لم يشترك الحزبان بحكومة الثورة فأنهم لن يقوموا بها قط.

فقال الچادرچي: قطعاً لن أشترك بالحكومة نهائياً، لكن اسمعوا مني الاتي:

“إن اسوأ وزارة في الحكم الملكي كانت تلك التي اشتركت فيها بعد انقلاب عام 36 (ويقصد بها وزارة حكمت سليمان)، لكن كونوا على يقين بأن وزارة الثورة ستكون (أسوأ منها)”... ثم ختم قوله وملامح الأسى قد بانت على مُحيّاه:

“لعنة الله على عبد الاله ونوري السعيد اللذين بسببهما سنضطر بأن نشترك بوزارة يشكلها العسكر!”.

يوم ثورة الرابع عشر من تموز 1958

كان والدي قد خرج من سجنه قبل حدوث ثورة الرابع عشر من تموز بعدة أيام، وقد أُخبر في صبيحة الجمعة الموافق الحادي عشر من تموز/يوليو من اليوم ذاته في الساعة السابعة والثلث مرة ثانية من الضباط الأحرار بساعة الصفر.. حيث أرسل قبل يومين من وقوعها عبر أخي رفعة برقية عاجلة الى السيد (هديب الحاج حمود) الذي كان آنذاك في (الشامية)، طلب منه الحضور الفوري الى بغداد:

(لقضايا تتعلق ببناء عمارة هديب الحاج حمود وموقف أمانة العاصمة) مثلما ورد فيها..

وفي مساء السبت وصل السيد هديب الى منزلنا واستفسر من والدي عن سر تلك البرقية الغريبة.

فأجابه قائلاً: سيحدث أمر هام جداً خلال الأيام القادمة، وربما ستكلف بمهمة بعد إتمامه، لذا عليك البقاء هنا وعدم العودة الى الشامية.

قال له هديب: هل بإمكاني العودة ليوم أو يومين كي إنهي التزاماتي ثم أعود متفرغاً لذلك الأمر.

لكن والدي أصر على بقائه وأنهى الحوار.

في مساء اليوم الثاني من وصوله والذي صادف الاحد 13 تموز/يوليو 1958 عاد السيد (هديب الحاج حمود) لوالدي وسأله بقلق شديد عن وقت وقوع ذلك الحدث وماهيته، وفيما اذا كان بإمكانه الذهاب لمدة قصيرة جداً الى الشامية لتصفية بعض الامور والعودة من جديد الى بغداد؟!.

لكن والدي لم يجبه بخصوص الأمر وأصر على مكوثه في بغداد لحين وقوعه.

ثم عاد وسأله عما اذا كان ذلك (الأمر) سيتأخر حدوثه.

فرد عليه:

اذهب إلى نادي المحامين واسترخِ به فأن وقت ماسيحدث سيكون أقرب من خيال تصورك.

وفعلا ذهب السيد (هديب الحاج حمود) الى النادي، وفي صبيحة اليوم الثاني طُرق عليه باب غرفته في الفندق وابلغوه بأن هناك ثورة قد اندلعت واصبح وزيراً في حكومتها حسبما أعلن عبر المذياع.

عن مذكرات نصير الجادرجي الصادرة عن (دار المدى)