ذكريات في ميناء الفاو سنة 1954

ذكريات في ميناء الفاو سنة 1954

هشام المدفعي

صدر امر نقلي الى ميناء تصدير النفط في الفاو الذي يقع جنوب البصرة بنحو مئة كيلو متر،ويطل على الجزء الجنوبي من شط العرب،ويبعد نحو سبعة كيلو مترات عن ملتقى شط العرب مع الخليج العربي. ويقع ميناء الفاو لتحميل النفط شمال المدينة بنحو ثلاثة كيلومترات، وتفصله عن المدينة غابات النخيل التي تتخللها العديد من الانهر التي تسقي تلك البساتين بمياه المد مرتين في اليوم.

كان عملي في الفاو هو نفسه في الزبير، وكانت من الاعمال الرئيسة هناك، المساهمة في الاشراف على تشييد منصتين للتحميل، تدخل كل منصة الى مياه شط العرب نحو اربعين مترا

، وتنتهي بجزء متعامد مع المنصة لترسو امامه بواخر نقل النفط. والعمل هنا من اعمال الهندسة المدنية المتميزة ، فقد كان الجسم الرئيس للمنصات من هياكل حديدية تحتها انابيب نقل وتصدير النفط الى الناقلات وفوقها منصة لسير الاشخاص من بحارة وعمال وفنيين للقيام باعمالهم .

ومما جلب انتباهي ان الركائز الحديدية التي كانت تستعمل كاسس لبناء هيكل المنصات عليها، مكونة من عمود حديدي صلب ذي قطر عشرين سنتمترا، يربط في اسفله (AUGER)وهو عبارة عن تكوين حديدي بقطر قد يبلغ زهاء المترين يشبه في تكوينه رفاس الباخرة ( PROPELLER )، وهذا عندما يلامس قعر النهر يبرم بواسطة جهاز كبير من الاعلى يقوم بالاتفاف حول نفسه ليخترق طبقات التربة حتى يصل الى العمق المطلوب، وكان هذا الامر جديدا علي، عرفت منه كيف يفكر مصممو الاسس في هذه الحالات.

كانت خزانات النفط في الميناء تستوعب كل واحد منها نحو10000 متر مكعب من النفط الخام، وعددها اثنا عشر خزانا، ويحاط كل خزان بسدة ترابية. غير ان الملاحظ ان هذه الخزانات الهائلة تتحرك يومياً ارتفاعا وانخفاضا بسبب المد والجزر في مياه الخليج. وكان لدىّ هناك مساح لمتابعة ومراقبة هذه الحركة. لقد كانت اعمال نصب الهياكل الحديدية وخزانات النفط، صعبة للغاية في فصل الصيف، حيث تتجاوز درجة الحرارة احياناً اكثر من ( 50 ) خمسين درجة، وتبلغ نسبة الرطوبة في بعض الايام اكثر من 95 بالمئة. وكانت هذه الظروف القاسية مؤثرة بوضوح على بحارة البواخر القادمة من شمال اوربا، ولم تكن سفنهم مكيفة آنذاك.

ومن الاعمال الهندسية الاخرى التي تم تنفيذها في الفاو، انشاء شبكة من الطرق تربط الميناء بالمنطقة السكنية الجديدة التي باشرنا بتشييدها بين اشجار النخيل، ودور هذه المنطقة خفيفة مسبقة الصنع تستورد في صناديق من انكلترا ، ويطلق عليها اسم ( (Super Light، مكونة من هياكل من الالمنيوم والمقاطع الحديدية،وتستورد كاملة مع كل متطلبات البيت من ابواب ونوافذ مع جدرانها المعزولة حراريا. وكان علينا تهيئة مصطبة ترابية بارتفاع معين لتكون اساسا كونكريتياًلكل دار، وتضم جميع شبكة الخدمة بعد ان نصب فوقها الاساس بسمك 25 سم من الكونكريت المسلح ليكون مهيأُلاستقبال هيكل الدار المعدني . وقد شيدنا من هذه الدور عشرين دارا، مربوطة بشبكة الكهرباء والماء والمجاري، وسكنها عدد من الزملاء المهندسين.

كانت تعليمات العمل وتوجيهاته، تصدر من مهندس انكليزي هو المدير العام لدائرة الابنية يقع مكتبه في مقر الشركة في البصرة، وكان خشن الطباع، يطلق عليه Mr.Brabs . اصدر تعليماته مرة بعمل حفرة في الارض بابعاد 3 × 3، وبعمق اربعة امتار بالقرب من منصات التحميل. اجريت اللازم ووجهت العمال بدعم جوانب الحفرة منعا للانهيار، وكان علينا ان نربط انبوب مع انبوب آخر يربط مع منصة تحميل النفط. ولاحكام العمل، كان علي النزول الى الحفرة مع عامل للتأكد من اتقان العمل . وعندما كنت في اسفل التجويف، اذا باشارة بأن هناك من ينظر الينا من الضيوف من الاعلى، وطلب مني احدهم ان اصعد الى الاعلى لأكلمه. سألني: من طلب منكم القيام بهذا العمل ؟، وكانت على محياه علامات السعادة والرضا، اجبته: جاءتنا التعليمات من المستر Brabs، فقال لي: وهل تعرفه، اجبته: كلا، ولكن علي اكمال العمل هذا اليوم. شكرني وذهب مع ضيوفه.

في اليوم الثاني استدعيت الى غرفة المدير.. واذا بي التقي هذا الشخص نفسه ثانية، وعند السلام عليه، عرفني بنفسه وقال: انا المستر Barbs واود ان اشكرك على ما تقوم به من اعمال تصلني اخبارها ، واستمر باطراء جهدي، وقال: انظر.. سأكتب الى ذلك الضفدع الفرنسي الجالس في البصرة لاشكرك كثيرا ويمنحك ترقية مناسبة، ويقصد هنا المدير العام الفرنسي المستر Tissot. اجبته: اني اقوم بواجبي ولا ارى ما يدعو الى هذا الاطراء، قال:ان الشكر يستند الى شعوري باهمية القيام بالواجب ولو تحت ظرف خطر، وكان يقصد عملي تحت سطح الارض في تلك الحفرة العميقة.

كنت اشعر بالزهو والفخر عند وقوفي في منطقة “راس البيشة “ وهي النقطة العليا من الخليج العربي وانا ارى هذه الثروات المستخرجة من ارض العراق، ولعل رؤية هالات النور المتكون من لهيب محطات عزل الغاز في حقول الزبير من الغرب، وحقول عبادان من الشرق، وحقول الكويت من الجنوب، تعطي شعورا فياضا بالسعادة والفخر، فقد كانت مدينة البصرة في اوج تألقها وعظمتها في تلك الايام.

قدمت طلبا الى رئيس المهندسين في دائرتي ان تخصص احدى دورالشركة لسكني مع اسرتي الجديدة،وبعد مداولات ومحاولات ، وافق المدير العام على منحي جازة الزواج لمدة اسبوع وتخصيص دار لي في شارع دينارفي منطقة العشار في مدينة البصرة. كانت البصرة، فضلا عن اهميتها التاريخية، مركزا اقتصاديا رئيسا في جنوب العراق، وفي منطقة الخليج العربي. وكانت السفن المحملة بالبضائع تؤم ميناء البصرة من انحاء العالم كافة، لتفرغ حمولاتها عليه، واذكر ان هذه السفن تقف في صف طويل امام العشار منتظرة دورها للتفريغ. اما مطار البصرة في شمال منطقة العشار، فكان في حينه الميناء الدولي الوحيد في العراق، فتهبط وتقلع عن طريقه جميع الخطوط العالمية للطيران. لقد كانت البصرة، اضافة الى ماسبق ذكره، مركزا تسويقيا كبيرا لابناء الخليج ولاسيما اهل الكويت، حيث كانوا يرتادون البصرة في نهاية كل اسبوع للراحة والاستجمام والتسوق، وكانت بساتين ابو الخصيب مصيفا مهما للكويتيين جميعا. وكانت نواديها الاجتماعية كنادي الميناء ونادي السكك ونادي شركة النفط ونادي الرافدين والمراكز الترفيهية الاخرى مزدحمة دوما بالزوار والضيوف من انحاءالعالم ، من بحارة وطيارين وفنيين ورجال اعمال وغيرهم.

عن مذكرات المدفعي ( نحو عراق جديد )