مع ابراهيم جلال

مع ابراهيم جلال

يوسف العاني

فنان راحل

بدأنا بالتفكير الجاد لتأسيس (فرقة المسرح الحديث) في نيسان عام 1952. بعد ان جمدوا نشاطنا المسرحي في المعهد.. وأبعد ابراهيم جلال عنه.. في دائرة منزوية أخرى.. ثم فصلت انا بعد ذلك من الدراسة لأسباب سياسية ولمواقفي الوطنية وافكاري التقدمية التي عرفت بها. ابراهيم جلال ومنذ البدء.. كنت احبه باعتزاز.. أرقبه..

أتأمله أنصت اليه، حتى حين يهش كالطفل اللاعب.. لكل حالة ابداع او اجادة من أي ممثل، ليشعر المبدع انه جدير بالتقدير والاعجاب والمحبة والفرح.. وعليه المزيد مما يعطي.. ويدعوه الى ابداع اكثر واغزر.. ويدله- دون قصد مكشوف- على سبيل الابداع المطلوب..! كان ابراهيم جلال فيلسوفاً دون ان يدري! وتعددت اعمالنا المسرحية في الفرقة- المسرح الحديث- وتعمقت اللقاءات واختلفت ظروف الحياة.. وابراهيم يكبر في نظري وتتعمق جذوره في نفسي. ويسافر الى ايطاليا لزمن قصير .. ويعود منتشياً بما عرف واكتشف.. ويسافر مرة الى اخرى (طالباً) في معهد Goodman Theatre بالولايات المتحدة ويعود بعد سنوات.. واختصر كلماتي.. وأضعها في مواقع التعامل المباشر بيني وبينه انا الكاتب المسرحي والممثل.. وهو المخرج.. فذاك ما يكشف عن الرؤية الصريحة والدقيقة والتجربة الكاشفة للعلاقة الفنية والانسانية والسلوكية مع (ابراهيم جلال) في اعمالي المسرحية الاولى.. وانا اكتب المسرحية الشعبية ذات الفصل الواحد. واقدمها ضمن النشاط الطلابي في كلية الحقوق، وبعد ان التقينا انا وابراهيم.. بعد تقديم مسرحية.. (مجنون يتحدى القدر) وصرت طالباً بفرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة.. راح ابراهيم يتعامل معي بوضع خاص.. كاتباً وممثلاً: وهذا ما شعر به بقية الطلبة، انه يكن التقدير والاحترام مسبقاً.. وتأتي ملاحظاته او وجهات نظره تجاه النص الذي اكتبه بشيء من التهيب -الناعم- ان جاز لي هذا التعبير- وبقيت أشعر ان ما انجزه كتابة او حتى في المشاهد التي أمثلها أنني في حصانة النقد- نقد ابراهيم- ورغم اعتزازي بهذا الموقف منه احسست انني بحاجة الى الاكتساب منه.. وشيئاً فشيئاً تجرأ وراح يقترح.. ويضيف احياناً ويحذف.. ويهمس في أذني خلال- البروفات- بملاحظات أحس بأهميتها وقيمتها بل انها كانت تدفعني الى ابداعات جديدة كنت غافلاً عنها لولا اشاراته وملاحظاته.. حتى صرنا انا وهو.. في موقف -الواحد- مرة أخرى في اعمالنا المسرحية.. ورحت انا بتشجيع منه اقترح عليه (بعضاً) مما يخطر ببالي في مجال الاخراج الذي هو سيده واستاذ فيه.. وتعددت الاعمال.. حتى كبرت.. وانا افارق الفرقة حضوراً في معسكر للتدريب العسكري في معسكر السعدية.. وابراهيم والمجموعة كلها تعمل.. تارة في النشاط المدرسي.. بأكثر من كلية.. ولاسيما كلية الطب.. وانا عن بعد... أبدي شيئاً مما اتمثله ايجاباً من اجل التواصل.. لكنني اشتاق لأن اكون امام ابراهيم.. ممثلاً او كاتباً.. فالحالة تتحول الى غنى في داخل النفس حين يتأمل (ابراهيم) المشهد ويضع له مقاييس جديدة في مخيلته.. ثم يغير ويبدل ولا يقتنع بالسهل الميسور والعابر دون خلفية بعيدة المدى عميقة الأثر.. فهو بتقديري معلم ومبتكر ومتحد في ذات الوقت.. وحين استعرض (مسمار جحا) مثلاً.. والاعمال الشعبية الآخرى في معهد الفنون الجميلة- وفي بدايات فرقة المسرح الحديث 1952.. واجد كم هي بسيطة تلك الاعمال للوهلة الاولى نصاً مكتوباً.. وكم هي كبيرة حين يصدرها ابراهيم الينا اولاً.. والى المشاهدين بعد ذلك. كان معنا في كل حركة وان لم تكن تلك الحركة منه.. انه يتبناها ويطورها ويبعث فيها فكرة وهدفاً وقيمة تمس المضمون والفكرة والهدف البعيد للمشهد وللمسرحية كلها.. استعرض اليوم.. عودة المهذب، ورأس الشليلة وهي من بدايات اعمال الفرقة عام 1954كما اشرت وموخوش عيشه.. ومسرحية ست دراهم عام 1956.. ثم المسرحية التي ولدت عندي وانا في معسكر السعدية اواسط الخمسينيات (آني امك ياشاكر) والتي ظلت محفوظة في واحد من ادراج (المصرف اللبناني) سنوات وبحوزة المرحوم مجيد الفرادي عضو الفرقة.. ونسخة عندي في صندوق قديم بدار اختي الحاجة ام خليل.. ليتسلمها ابراهيم بعد ثورة 14تموز 1958.. ويتألق فيها مخرجاً.. وتتجلى قدرته في احتضان الروح الثورية.. ويرفع من قدرات الأم –زينب – وابنتها – ناهدة الرماح- وكل من مثل فيها لتكون فتحاً للمسرح الثوري العراقي الأمين والذي أطره ابداع ابراهيم جلال المخرج الحريص على كل كلمة وتعبير لتكون ذات أثر وقيمة لا تخرج عن فنيتها ودلالتها مخاطبة احساس المتلقي بايقاع موسيقي لا يخدش المشاعر بقدر ما يقترب منها من اجل الوصول الى الذهن واقعاً وحقيقة محركة من اجل ما يجب ان يكون.. لا على خشبة المسرح حسب بل في ذهن وفكر المشاهد.. وكل الذين منحتهم القاعة مشاهدين ومشاركين في الاحداث كي يقودهم الى الموقف الصائب الذي يستأهل التأمل والتفكير بل والمناقشة الفكرية العالية. ابراهيم جلال.. كان بتقديري – سابقاً عصره، يقف في طرف وحده قياساً لمن كان في ذاك الزمان.. كان بطرق باب، ستانسلافسكي- تنظيراً لكنه لا يسميه، ويعبر عما يريده برشت ولم يكن يعرفه المعرفة الكاملة آنذاك او يستوعبه الاستيعاب العميق.. كان ابراهيم.. مدرسة وحده جمع كل ما تعلمه وجربه.. ليعيده من جديد برؤية جديدة خلاقة.. واخراج ابراهيم مسرحيات كثيرة، وكان في كل واحدة منها حالة متميزة تخصه هو فناناً ومبدعاً- لكنه وحيد، قدمنا مسرحية (بونتولا وتابعه ماتي) وانتجتها الفرقة القومية للتمثيل في دائرة السينما والمسرح وكان ابراهيم.. بعيداً عن فرقتنا- فرقة المسرح الفني الحديث- والتي سميت (البيك والسائق).. اراد ابراهيم مني ان امثل دور (بونتولا) ومن قاسم محمد تمثيل دور (ماتي) وكان ذاك عام 1974.. وقد حرص ان يضم الى اعضاء الفرقة مجموعة تستوعب من يريده (وتقتنع بالصيغة (البرشتية) التي يحرص على توفرها.. والتي درسها تخصصاً في (جودمان ثياتر) بالولايات المتحدة.. وكان في البدء يصر على ان اكون كما اشرت (بونتولا) فهو يدري انني اعرف هذه المسرحية جيداً وانني شاهدتها في (البرلينر انساميل) فرقة برشت ببرلين خلال وجودي في المانيا متابعاً لمدرسة برشت.. واحلم بتمثيل العديد من شخصيات المسرحية وفي مقدمتها (بونتولا). وافقت طبعاً.. لكنني اشترطت ان يستمع لي بتفسيرات كثيرة في المسرحية.. وكان هذا الشرط ليس تقليلاً من قدراته الهائلة. وانما لاكتشافي ان تدريس برشت في الولايات المتحدة كان يبتعد الى حد كبير عن الفهم (الماركسي) الذي هو جزء من فلسفة برشت في المسرح.. بل ان مسرحية (بونتولا وتابعه ماني) في النص المترجم الى الانكليزية قد حذفت منه مشاهد تتناقض ورؤيتهم -الرأسمالية- والتي يعتبرونها ذات مساس بحالات غير مسرحية!! المهم.. كان ابراهيم في المسرحية مخرجاً استطيع ان اسميه (جباراً) وانه.. وكما ارغب.. حاول التوفيق بين (التغريب) من الجهة.. وصيغة التعامل مع جهمور غريب عن هذه المدرسة الأمر الذي اثار اهتمام المسرحيين الألمان حين شاهدوا العرض في دمشق عام 1974.. كما اثار النقاد والمثقفين في القاهرة عند تقديمها هناك عام 1975. ابراهيم ومهما يطول الحديث.. والحديث هنا عن تجربتي معه وليست كل تجاربه... كمسرحية (الصحون الطائرة) التي قدمتها فرقتنا (المسرح الفني الحديث) عام 1978 اقتباس فيصل الياسري وتقديم فنانين مسرحين كبيرين هما سامي عبد الحميد وقاسم محمد.. فهو حين يعمل مع ارادات قديرة ومبدعة وتلتقي ثقافاتهم الابداعية معه فانه يتحول الى ساحر يعلو ويعلو حد النجوم:- وهو.. أخيراً وليس آخرا لا يعرف شيئاً في المسرح يسمونه (صعباًً).. يتجاوز عليه ويتحداه.. ويقف في الضد مع كل عائق حتى لو كانت – السلطة! حين قطعوا ساقه.. وترك في البيت بلا عمل.. وذهب الى وزير الثقافة والاعلام.. يطالب بتكليفه لإخراج مسرحية وكان رد الوزير (انه مريض وقد قطعوا رجله..) صرخ بوجهه قائلاً. (لقد قطعوا رجلي لكنهم لم يقطعوا رأسي!) واخرج اكثر من مسرحية.. حتى قبل وفاته في 29 آب عام 1991.. ابراهيم جلال .. بطل العراق في الملاكمة نجم السينما العراقية الممثل والمخرج الذي ساح في خدمة المسرح العراقي الرحبة .. غرس وأنبت وأورقت شجراته واثمرت.. لتقيم عبر فضاءاته منطلقات جديدة وعميقة ومبدعة هي مدرسة إبراهيم جلال المسرحية ! إبراهيم جلال مازال أثراً لا يغيب عنا وإن غاب..

عن كتاب شخوص وذكريات

تأليف الراحل يوسف العاني