إبراهيم جلال برشت العراقي

إبراهيم جلال برشت العراقي

فاضل سوداني

كان إبراهيم جلال في بداية عمله الفني مولعا بضخامة الديكورات مما يساعده على تشكيل حركي(ميزانتسين) خارجي للممثل، ولكن في عروضه المسرحية الأخيرة وخاصة مسرحية المتنبي ومقامات أبي الورد لعادل كاظم ومسرحيات برشت استغنى عن كل شيء تقريبا معتمدا

على الفضاء كخلفية للحدث والممثل ومستغلا أجساد الممثلين كجزء من سينوغرافيا العرض المسرحي. وأصبح واضحا ان إبراهيم يتعامل مع الجوقة والمجموعات وكأنها شخص واحد يحركها بما يتناسب مع منطق العمل المسرحي الجدلي.

وبالرغم من انه كان يسمع موسيقى جسد الممثل ويحاول ان يعبر عنها بصورة فنية متكاملة إلا انه حاول دائما وبعناد إلغاء عناصر الايهام في عروضه المسرحية لانها لا تتناسب مع عقله المسرحي الجدلي.

لقد اخرج إبراهيم جلال مسرحية البيك والسايق مثلا من إعداد الشاعر صادق الصائغ عن مسرحية برشت (السيد بونتلا وتابعه ماتي)، فتحولت لديه الى عرض شعبي عراقي فيه الكثير من الشاعرية ، خاضعا النص للبيئة العراقية او العربية، والراوية او الجوقة البرشتية تحولت الى قصخون عراقي (حكواتي) يروي لمستمعيه غناء وشعرا ماحدث من غرائب الدنيا في قلعة (البيك) بونتلا الذي تحول لدى عرض ابراهيم جلال وفي نص المعد شاعرنا الصائغ، الى شبيه بإقطاعي عراقي، كذلك فان مشكلة البطل الاخر (ماتي) أصبحت مشكلة أي عامل عراقي فقير، وحاول المخرج استغلال الاغنية الشعبية العراقية للربط بين المشاهد والتعليق على الاحداث، واستطيع ان اقول بان جلال اخرج المسرحية باسلوب برشتي ـ جلالي.

ان مهمة إبراهيم جلال المخرج قريبة من مفهوم المسرح الملحمي حيث يطالب برشت المخرج لنصوصه المسرحية ان يكيفها لاحتياجات مجتمعه وان يخضعها الى الأساليب الفنية والتراثية لذلك المجتمع.

ومن اجل هذا يعمد إبراهيم جلال الى الحذف والتغيير في النص العالمي.

إضافة الى هذا فهو يحاول أن يحقق رؤياه الإخراجية بكل ابعادها من أجل توصيلها الى المشاهد المعاصر حتى وأن عمد الى أن يعيد بعض المشاهد من الإخراج العالمي ـوخاصة في مسرحيات برشت ـ لمعالجة ذات المشهد، فمثلاً مشهد خطبة بونتلا، في مسرحية السيد بونتلا وتابعه ماتي ولقائه بصاحبة الصيدلية وبائعة اللبن.. الخ، فمثل هذا المشهد معروف ومكرور على خشبة المسرح العالمي وإبراهيم جلال يعتمده حرفيا في إخراجه لذات المسرحية في بغداد.

وكذلك المشهد الاخير عندما يدعو (بونتلا) سائقه (ماتـي) لصعود الجبال، فان تركيبة المشهد والديكور المكون من منضدة وفوقها كراسي وحركة الممثل والميزانتسين معروفة في الإخراج الألماني او العالمي، وعندما يلتزمه جلال في اخراجه للمسرحية فانه لا يعد مثلاً سطوا من قبل مخرج غير مجرب على افكار مخرج اخر، ولا يعني أيضاً ان فناننا ناضب الخيال في تحقيق المشهد ذاته برؤية جديدة، وإنما يعتبره جلال تكاملا للعقل والخيال الفني بين مختلف الفنانين باختلاف المكان والزمان والاساليب فهو قادر مثلا على ابتكار اسلوب إخراجي بعيدا عن التقليد ومتميز بروحية جلال ذاته كما في مسرحية (الصحون الطائرة) او في اعتماده على التراث وأساليبه مثل القرداتي والحكواتي كوسائل لتحقيق العرض كما في (مقامات أبي الورد).

ان المنهج الذي اتبعه جلال في تقريب مسرح برشت من وعي وتقاليد الإنسان والبيئة العراقية أعتمده عند اخراجه لمسرحية دائرة الطباشير القوقازية أيضا والتي اعدها للمسرح الكاتب المسرحي المقتدر عادل كاظم بعنوان (دائرة الفحم البغدادية).

لقد كان هذا العرض متفردا حقا من خلال تمكن مخرجها على تطبيق منهج برشت في مجادلة عقل وعواطف الجمهور، اعتمادا على الحس الشعبي للإنسان العراقي وكذلك استخدام الجو والأساليب الفنية في التراث الشعبي وادخاله واستخدامه للاغنية الشعبية كوسيلة فنية من وسائل الإخراج.

كان يمكن لهذه المسرحية ان تشكل علامة بارزة في تطوير المسرح العراقي او العربي لو قدر للجمهور مشاهدتها حيث عرضت يوما واحدا فقط وبعدها منعت بقرار من وزير الثقافة العراقي طارق عزيز آنذاك بحجج غير مقنعة حتى للممثلين انفسهم، إلا أن سلوك بطل المسرحية(أزدك) (مثله الفنان منذر حلمي) ذلك الصعلوك والسكير والمبتذل والسطحي والمستغل الذي اصبح حاكما وقاضيا على المدينة نتيجة لظروف استثنائية هي ظروف الحرب، كان هو السبب الذي أدى الى منع العرض، أي ان الخوف من ان يربط الجمهور بين وصول أزدك هذا لمنصبه مع الكيفية التي تسلم بها صدام حسين السلطة في العراق في نهاية سبعينيات القرن العشرين التي تعتبر ظروفا استثنائية واضطرابات مشابهة أيضاً.

لكنهم نسوا بان بطل مسرحية برشت هذا حكم بالعدل وهو على كرسي الحكم حيث كان ضميره مرشده بالرغم من انه غير أهل لمنصبه.

ان منع هذا العرض المسرحي من قبل النظام السابق اثبت خوف السلطة من تأثير افكار برشت على وعي الجمهور المعاصر .

كان إبراهيم جلال مخرجا دائم القلق، وهذا يدفعه الى التأكيد ان العرض المسرحي يبدأ من البروفة الأولى ويستمر تأثيره على الممثلين، ومن ثم تأثير العرض والأسئلة الصعبة التي يطرحها على الجمهور حتى بعد خروجه من المسرح لمواجهة حياته من جديد.

إذن أين هوى ذلك الشهاب الناري؟

وما الكلمة الأخيرة التي نطق بها إبراهيم جلال كإنسان وفنان؟

ألا تكون هي صرختنا جميعا لأننا لم نستطع تحقيق مسرحنا العراقي الذي نبغي، سرق زماننا الإبداعي منا منذ أن بدأ التخطيط للويلات والحروب اللامجدية؟ أو قد تكون هي كلمته الأخيرة التي يشكر فيها أحد تلامذته لانه دفع فاتورة الحساب المكلفة عندما رقد الفنان قبل موته في أحد مستشفيات الكويت، وكأن مأساة السياب تتكرر كتعويذة في رقبة العراقيين من جديد، فالنظام السابق كان مشغولا بحروبه عن آلام الفنان.

مات ابراهيم جلال منفيا في وطنه، غير انه بالتأكيد لعن كما هي عادته تلك الهوة بين طموح الفنان وفقر عصره، لقد غبن الفنان لانه عاش في زمن الجهالة، كما غبن المسرح العراقي أيضاً، حقا لقد غادر ابراهيم جلال خشبة المسرح والحياة وهو ينظر الينا بنظرة ذات مغزى بعد أن نسى معطفه الموشى بالحرير متعمدا في ظلمة المسرح العراقي كقدر سيلاحقنا جميعا، نسيه كتركة مقدسة يجب صيانتها من قبل الفنان والمثقف العراقي، عن الفنان والمثقف المتكيف

***

كان فضل المخرج العراقي إبراهيم جلال على المسرح العراقي والعربي هو فرض ملكة الجدل ، بمعنى التحاور والجدل مع النص والممثل والجمهور والواقع ، لانه يفهم التاريخ الإنساني على أنه حلقات مترابطة لايمكن الفصل بينهما، فيعطي أهمية ومكانة للفلسفة في العرض المسرحي . ولقد ساعده فهمه لنظرية برخت على التوصل الى اسلوب شعبي في المسرح ، فتخلص من ذلك المفهوم الذي لم يكن مستندا إلى تبرير درامي ـ فلسفي كما في مسرحياته الاولى.

وقد كان يؤكد دائما على ضرورة إبراز التناقضات الاجتماعية والفهم الصائب للعلاقة الجدلية بين القديم والجديد، اعتمادا على استلهام ودراسة واعية للجذور الاصيلة للقديم من اجل ان يكون الجديد منسجما مع تطور العصر. و هذا هو منطق الحياة القائم دائما على التناقض والصراع ، فكل يحمل نقيضه وعليك ان تبحث عنه من خلال رؤيتك الخاصة للكشف عن الجوهر.

وتأكيد المخرج ابراهيم جلال دائما على هذه المفاهيم يوضح فهمه للجدلية في الابداع الفني ، ويدفعه الى ان ينظر للقضية الاجتماعية من منظور مناقشتها ضمن المفهوم المعاصر للصراع والتناقض والتجديد ، فالواقع يحمل في داخله تناقضه الحاد. ومن هنا جاء حرص ابراهيم جلال على طرح السؤال الصعب في الفن: ماهو الفن ؟ وماهي المشكلة ؟ ومن هو المتلقي ؟

ان مواجهة إبراهيم جلال لهذه الاسئلة دفعته الى عدم الفصل بين مفهومه للفن ومعايشته للواقع والحياة وفهم متناقضاتها.فالمسرح بالنسبة له لا يقدم اجوبة جاهزة بل أسئلة متواصلة تثيرالقلق لكنها تمنح سعادة الاكتشاف.

ومادام وعي المخرج هو حصيلة للوعي الاجتماعي والفكري، لذا فانه حسب راي برخت يأخذ مهمة الراوي لحادثة تاريخية او واقعة معاصرة لها خلفياتها الاجتماعية ولايمكن للمخرج ان يحقق هذا حسب منطق برخت مالم يعمد الى مخاطبة فكر وعقل الانسان ، اضافة الى احترام عواطفه النبيلة .واعتماد المخرج المسرحي البرشتي على هذا المبدأ يمنحه القدرة على ان يكون مفكرا في داخل عمله .

ولهذا كان ابراهيم جلال يحاول الوصول وامتلاك هذا الاسلوب المتميز في المسرح من خلال المزاوجة بين نظرية برشت الملحمية وبين واقعية ستانسلافسكيي العاطفية. وقد اخذ ابراهيم جلال من برشت الجدل العقلي واسلوب الاخراج الملحجمي ومن ستانسلافسكي الاسلوب الواقعي والحس الشعبي. وهو لم يفهم برشت على انه قاموس لمقولات فلسفية وعقلية جامدة ، وانما استوعبه ايضا من حيث ان هذه المقولات لا يمكن ان تصل الى الجمهور في كعاطفة ثرثارة ، حتى لايكون المسرح متحفا للشمع وألا يكون الممثل مهرجا فكهاٌ، لهذا فان المخرج يؤكد دائما على المزاوجة بين الفكر، والعقل وجذوة الروح.

لقد كان ابراهيم جلال في بداية عمله الفني مولعا بضخامة الديكورات مما يساعده على تشكيل حركي(ميزانتسين) خارجي للممثل. ولكن في عروضه المسرحية الاخيرة وخاصة مسرحيات برشت استغنى عن كل شيء تقريبا معتمدا على الفضاء كخلفية للحدث والممثل ومستغلا اجساد الممثلين كجزء من سينوغرافيا العرض المسرحي. واصبح واضحا بان ابراهيم يتعامل مع الجوقة والمجموعات وكأنها شخص واحد يحركها بما يتناسب مع منطق العمل المسرحي. وبالرغم من انه كان يسمع موسيقى جسد الممثل ويحاول ان يعبر عنها بصورة فنية متكاملة إلا انه حاول دائما وبعناد إلغاء عناصر الايهام في عروضه المسرحية لانها لاتتناسب مع عقله المسرحي الجدلي