فاخر الداغري
حكمت الدولة العثمانية العراق قرابة الــ 400 سنة بدءاً من عام 1535 و انتهاءً في عام 1917 وهو تاريخ احتلال الجيش البريطاني للعراق وقد تعاقب على إدارته ولاة كثيرون اغلبهم من ذوي العقليات الصغيرة الضيقة لايمتلكون برنامجا إصلاحيا فيتركون بغداد والولايات الأخرى تصارع الفقر والمرض والجهل وأذاقوا الشعب العراقي ألوانا من الاضطهاد والتعسف وكان همهم جباية الضرائب وجمعها وإرسالها إلى استانبول
ورغم هذا الواقع الاستبدادي كان منهم إفراد قلائل يبذلون جهودا في نشر العلم وتكريم رجاله وكان صوت الشعب مغيبا لان مصير من يدعو للإصلاح والتحرير السجن والنفي فكل المزارعين والملاك والفلاحين والعمال مسخرون لخدمة السلطة الحاكمة ومن بين الولاة الذين بذلوا جهدا استثنائيا قياسا بالولاة الذين سبقوه هو الوالي مدحت باشا فهو الوالي الذي ترك اثارا مادية جمة بقيت ثوابت تاريخية أرخت لحقبة مسؤوليته الإدارية إذ تأتي دوافع الكتابة عنه من باب الوفاء وعرفان الجميل لمن يرتدي الوطنية جلبابا يشيع الدفء شتاء وليتحول إلى رداء ابيض شفافاً صيفا يعبر عن نقاوة سريرته ورجاحة عقله وعلو همته وغزارة نشاطه وحيويته وعليه كانت سنه 1869 الموافق لسنه 1285 هـ بداية لنهضة شاملة وسرعان ما انتشرت في أنحاء العراق وكفاءة الوالي مدحت باشا في أول يوم وطأت قدماه ارض بغداد حيث تسلم سدة الحكم وهو يمتلك رجاحة العقل وبعد النظر والثقافة الواسعة التي حملت معها شروط الإنبات الصحيح . ومن مشاريعه :
1 – إصدار جريدة الزوراء ذلك الحدث الثقافي الكبير الذي يستحق الثناء في وقت لا تتوفر فيه صحافة عراقية . لقد صدر العدد الأول منها في بغداد عام 1869 م الموافق ليوم الثلاثاء الخامس من ربيع الأول سنة 1286 هـ وكانت تنشر باللغتين العربية والتركية وظلت تصدر طوال فترة ولايته وبعدها إلى الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1917 والتي ذهبت عيدا للصحافة العراقية فيما بعد .
2 – طرق المواصلات : الطرق في بغداد وعرة و وسائط النقل بدائية لا تتعدى العربات والحيوانات ومن أولى الإعمال التي قام بها هو تبليط سوق (البلانجية) وهو اليوم شارع المأمون الذي طغى عليه اسم الرصافي حاليا إذا جرى تبليطه تبليطا بارزا بجلاميد من الصخر وسمي في حينه ( عقد الصخر وردا على وسائط النقل الذي رآها الوالي الجديد بأنها ما زالت بدائية ومنها ركوب الخيل والبغال والحمير والعربات التي تجرها الخيول وهي محدودة التداول وبعضها خاص بالأغنياء فبادر إلى تأسيس شركة (الترامواي) والتسمية اصطلاح انكليزي لقضبان حديدية تسير عليها الحافلة داخل المدن وتجرها الخيول أو بمحرك الديزل أو بالكهرباء فيما بعد وقد شاعت في أوربا وأمريكا في القرن التاسع عشر الميلادي وقد جلبها مدحت باشا إلى العراق عام 1870 بعد أن ألف شركة أهلية لمدة تسعين عاماً من كبار أثرياء بغداد من آل جلبي في الكاظمية والخضيري والشاهبندر في بغداد وغيرهم ومكان عملها كرخ بغداد – الكاظمية وظلت تعمل حتى عام 1941 حيث صفيت الشركة وحلت بدلها السيارات .
3 - النقل النهري : وكان يعتمد على السفن الشراعية الكبيرة بين بغداد والبصرة وفي عام 1855 اشترت الحكومة – حكومة الولاية - باخرتين لنقل البضائع التجارية وركوب الأهالي بين بغداد و البصرة . وفي عهد مدحت باشا عام 1869 ازداد عدد البواخر إلى ثماني ارتبطت إدارتها بإدارة المراكب النهرية وكان محلها في جناح من أجنحة المدرسة ألمستنصريه المطلة على دجلة . حدثت في حينه مشكلة بيع البواخر إلى شركة بيت لنج الانكليزية وكانت الدوافع لزيادة النفوذ البريطاني التدريجي في العراق وأعتبرَ أهل بغداد وفي مقدمتهم : الوجيه عبد القادر باشا الخضيري هذا التصرف تدخلا في الشأن الداخلي العراقي وأرسلت برقيات الاحتجاج إلى الباب العالي في الأستانة وجاء الجواب أن الغرض هو توحيد المساعي على شكل شركة لكن الحصص بيعت أخيرا بشكل تدريجي . أما النقل بين الرصافة والكرخ فظل باستعمال (القفف) والابلام الصغيرة .
4 – النقل البري : لم يرد ذكر للوالي مدحت باشا في هذا الجانب وظلت وسائط النقل بدائية هي الخيل و البغال والحمير والإبل وتسمى المجموعة السائرة بشكل موحد . ( بالكروان ) او قافلة والعرب والبدو يسمونه ضعن . والكروان يتألف من مجموعة خيل وبغال وحمير ومن ضمنه ( التخت روان ) و ( الكجاوة ) و ( المحمل ) ويتألف ( التخت روان )من عرش خشبي كالغرفة مجهزة بفراش وأثاث و( الكجاوة ) عبارة عن هودج مستور بقماش يقي راكبه من حرارة الشمس وهطول الإمطار وينصب على ظهر بعير أو بغل ويربط من اليمين واليسار والمحمل مثل الهودج لكنه غير مستور كان السفر بين بغداد والحلة وكربلاء وبعقوبة يتم بواسطة عربات خشبية تجرها الخيول أو البغال تستغرق مدة السفر فيها اثنتي عشر ساعة أو كثر وكان وجهاء بغداد وأغنياؤها يهتمون بتربية الخيول الأصيلة التي يمتطونها في إسفارهم الاستجمامية إلى الريف وكانت لهم اصطبلاتهم الخاصة والسائسون المشهورون ومن النكات التي تروى في هذا الجانب أن وجيها لا يملك غير حصان واحد لكنه اتفق مع حاجبه حين يزمع القيام بسفرة معينة ولديه ضيوف أو أصدقاء جالسون عنده يقول لحاجبه شد على واحد من الخيل فيعدد له الحاجب أنواع الخيول ليختار واحداً فيقول له الأدهم أم الأشقر الأبيض أو عبيان أم المطهم ... الخ فيختار احدهم وهو الوحيد الذي يملكه واسقط في يده ذات مره حين طلب أصدقاؤه التعرف على والده والسلام عليه فنادى الحاجب بأن يتفضل والده الى غرفة الضيوف فقال الحاجب : عمى يا أب ؟ أبو الجراوية أو أبو العكال أو أبو الكوفية أو أبو الكشيدة فضحك الضيوف منه وإحرج المضيف الذي يحب المبالغة للتباهي ليس ألا ..
5 – المنتزه العام : من الإعمال التي تصنف بأنها ترفيهية استجمامية تشعر المواطن بان الحاكم مهتم به اجتماعياً ويعمل على توفير فرص لراحته من متاعب يومية هو انجاز المنتزه العام الذي سمى بحديقة البلدية والذي كان بستاناً لنجيب باشا يسمى ( النجيبية ) وقد أطلق عليها ( المجيدية ) وتقع على الشاطئ الأيسر من دجلة من محل أبنية مدينة الطب حالياً حيث اعتنى بها اعتناء تاماً وأصبحت متنزهاً لأهل بغداد يستمتعون بنسيمه وهوائه وإزهاره النضرة وصاروا يقضون عطلهم وأعيادهم في هذه الحدائق التي كانت تقع خارج بغداد في زمانهم .
6- مصنع الغزل والنسيج :رغبة من الوالي مدحت باشا في زيادة الرغبة في الخدمة العسكرية ومن باب الترفيه عن الجنود هو توفير ملابسهم فهياًً مقادير من الأقمشة والنسيج لخياطتها فأستورد المكائن الحديثة للغزل بدلاً من الحياكة اليدوية بطريقة ( الجومه ) فأسس معملاً ينسج أقمشة ملابس الجنود وسمي هذا المعمل ( العبخانة ) وهي محلة العبخانة الحالية والتي يرددها البغداديون في أحاديثهم ولقاءاتهم ..
7 – مدارس التعليم للأيتام : عام 1865 انشأ الوالي مدحت باشا مدرسة النجارة والحدادة والنسيج ( الحياكة ) وغيرها من المهن التي تؤهلهم للاعتماد على أنفسهم مستقبلاً في كسب الرزق الحلال وقد عين لها أساتذة ومعلمين أكفاء وظلت هذه المدرسة قائمة تؤدي غرضها الإنساني الاجتماعي الذي بنيت من أجله إلى عام 1917 وهو تاريخ احتلال بغداد ومكانها في البناية التي اتخذت مقراً للبرلمان في العهد الملكي في منطقة الميدان كانت تطل على نهر دجلة .
8 – المدرسة الرشدية : أسس الوالي مدحت باشا هذه المدرسة عام 1869 وبقيت قائمة تؤدي هدفها التعليمي حتى إعلان الدستور العثماني ( المشروطية ) عام 1908 ثم صارت بنايتها كلية الحقوق وهدمت في ما بعد وشيدت في مكانها متصرفية لواء بغداد في محلة جديد حسن باشا المجاورة لسراي الحكومة باتجاه شارع المتنبي اليوم . وفي سنة 1925 اتخذت البناية مقرا للمجلس التأسيسي العراقي ثم أصبحت مقراً لمجلس الأمة ثم نقل مجلس الأمة إلى بناية مدرسة الصنائع العثمانية التي بناها مدحت باشا بالقرب من دار الضباط في منطقة الميدان وعليه : يظل الوالي مدحت باشا متميزا بانجازاته العمرانية كشواخص مادية على نهضته الحضارية التي شهدتها بغداد إبان ولايته .