جعفر العسكري كما يصفه توفيق السويدي..كان قتله خسارة للجميع

جعفر العسكري كما يصفه توفيق السويدي..كان قتله خسارة للجميع

توفيق السويدي ــ رئيس وزراء

في العهد الملكي

بدأ جعفر يلعب الدور المهم في السياسة العراقية فعين وزيرا للدفاع في وزارتي النقيب المؤقتة والدائمة، وصار اسمه يأتي على الافواه بصفته مرشحا لرئاسة الوزارة التي ستخلف وزارة النقيب، وقد استخلف بالفعل النقيب ووضع نفسه تحت عناية الملك فالملك كان يقود سياسة ذات وجهين يشجع الوطنيين على المطالبة بتوسيع السلطات وانتزاعها من الانكليز من جهة،

ومن جهة أخرى يحاول ان يفهم السلطات المذكورة بأنه يقوم بوجه المتطرفين، ويقاوم اندفاعهم في سبيل التفاهم ما بين القوى الشعبية والسلطات الحكومية، وجعفر لا يحيط دائماً بكل هذه المناورات فصار يفشي سر الملك عند الانكليز عن مناوراته مع المواطنين.

وطورا يظهر بالمظهر المتضايق من السياسة الانكليزية فيشجبها علنا وكحصيلة لجهوده هذه اضاع اعتماد الملك، كما اضاع اعتماد الانكليز، فخسر الطرفين، ما دفعه، إلى التخلي عن المسؤولية بعد مدة قصيرة من اضطلاعه بها. الا ان تباعده عن رئاسة الوزارة لم يباعده عن وزارة الدفاع، لانه كان من حاشية الملك ومحاسبيه، فليس من الممكن ابعاده تماما عن عمل ذي مسؤولية مهمة في الحكومة.

ولما انتهت حرب اليونان وتركيا بظفر تركيا وتحقيقها انتصارا حاسما على الحلفاء من وراء اليونان، اجتمع مؤتمر لوزان لاقرار الصلح ما بين تركيا واخصامها، وكان ضمن البرنامج قصة الحدود الشمالية العراقية وقضية الموصل ومطالبة تركيا بها، فارتأى الانكليز وجود ممثل عراقي ليست له صفة العضوية في المؤتمر، بل يبقى مستمعا لما يدور فيه، في عين الوقت يكون خبيرا يقدم ما يلزم من المعلومات للوفد البريطاني عندما توضع قضية الموصل موضع البحث. فانتخب جعفر العسكري ممثلا للعراق، ولما كانت مؤهلاته الحقوقية والدولية لا تمكنه من القيام بهذه المهمة على الوجه الاتم فقد تم تعييني مشاوراً حقوقيا له بناء على طلبه.

وقد قام بمهمته على قدر ما تسمح له ظروف العراق الدولية آنئذ.

فتركيا التي كانت غير معترفة بالعراق واستقلاله لم توافق على دخول وفد يمثل العراق ويشترك في اعماله ما ادى إلى قيام جعفر ورفيقه باعمال فردية للاتصال بارباب العلاقة بالمؤتمر واعماله منهم عصمت اينويف، رئيس الوفد التركي الذي لعب دوراً جوهرياً في حياة مؤتمر لوزان، ومماته.

كان الغرض من الاتصال بعصمت محاولة لافهامه بأن مقاومة تركيا وترددها في حل قضية الموصل لا يعود وبالها على انكلترا كما تظن تركيا، وان العراق ليس لقمة سائغة في فم الانكليز يسهل ابتلاعها، بل ان شعب العراق مستعد لحماية نفسه من اطماع الانكليز حالما تنتهي قضية الموصل ويستكمل العراق كيانه الدولي. وان كل تساهل من تركيا نحو العراق يقدم قضية استقلاله إلى الامام ويجعله مدينا لها في المستقبل لمساعدتها له وقد اثر هذا الاتصال تأثيرا كبيراً حتى ان الطلب الاول الذي كان يتضمن نص تحديد الحدود الشمالية للعراق هو الاعتراف بحدود العراق فقط ما يترك الامر بيد الانكليز دون اعتراف بحق العراق نفسه. لذلك عندما وضعت معاهدة لوزان احتوت نصا يقول أن تركيا تركت الاراضي التي تقع وراء الحدود المعنية في هذه المعاهدة وبروتوكالاتها إلى اهل تلك الاراضي اصحاب العلاقة.

ولما فشل مؤتمر لوزان في شباط سنة 1922 وتفرق شمله، رجع جعفر إلى لندن ومن هناك عين ممثلا دبلوماتيكيا للعراق في لندن، وبقي هناك مدة قام خلالها بدراسة الحقوق في غريز ان (Grays inn) للحصول على اجازة في الحقوق غير انه استدعي إلى العراق لتأليف الوزارة في سنة 1927 فحضر وفي أثناء وزارته اقترح الملك عليه ان يطلب تعديل المعاهدة المعقودة في 1924 وتعديلاتها في 1926 فلم يمانع هذا الاقتراح مع علمه انه قليل الفائدة وصعب القبول من قبل الحكومة البريطانية، فصدع بالامر وهو لا يعتقد بصحة ما يقوله في تبرير اقتراح التعديل المذكور.

ولما ذهب الملك في صيف 1927 إلى لندن استصحبه وكان له موقف طريف عندما اتصل بالمسؤولين في وزارة المستعمرات مطالباً بالتعديل بحجة واهية، ولما سأله زملاؤه عند رجوعه من المفاوضة قال لهم ان كل ما كان يقوله بصدد التعديل يلقى موافقة شكلية يرافقها نوع من الاستخفاف فكلمة (of Course) ومعناها بلا شك بلا شك التي كان يكررها له (شكبره) وكيل الوزارة بعد كل جملة يقولها كانت تعني في نظره (هراء، هراء) لذلك كان لا يأمل من وراء هذا العديل شيئاً مفيدا، ومع ذلك فقد عقد معاهدة جديدة مع انكلترا لا تفرق في امر جوهري عن المعاهدة الاصلية، ما حمل وزارة السعدون على رفضها.

لقد استقال جعفر من الرئاسة بعد عقده المعاهدة المذكورة ورجع توا إلى لندن وزيرا مفوضاً، وكان يتوق للعودة إلى لندن لوجود اولاده في كلياتها، وهو مشغوف شغفاً عظيما بهم.

لقد كان مقامه في لندن كوزير مفوض امراً اعتيادياً له الا اذا طلب لتأليف وزارة ولم يوفق او طلب اليه الدخول في وزارة ارتأى الملك ان وجوده فيها لا يخلو من فائدة، فعندئذ يترك منصب الوزير المفوض شاغراً، حتى اذا سقطت الوزارة ولم يدخل الجديدة، رجع إلى قواعده سالما في لندن.

ولما الف ياسين الهاشمي وزارته في سنة 1935 جاء من لندن للدخول فيها وزيرا للدفاع مع صهره نوري السعيد الذي اصبح وزيرا للخارجية، ومعهم رشيد عالي وزيرا للداخلية، وصلة رشيد بياسين اقوى من صلتهما به، وهذا ما ادى إلى تزعزع الثقة ما بينهما وبين ياسين، فبدأ جعفر بالصخب من اعمال رئيس الوزراء ووزير داخليته، ولم يكتف في هذا الصخب بالقول بل زاده باتصالات مشبوهة مع رجال الجيش للتفاهم معهم على قلب وزارة ياسين.

ولما نضجت الطبخة ما بين حكمت سليمان وبكر صدقي تحت علم الملك غازي، وتوجه الجيش في ديالى إلى العاصمة بعد ان القت الطائرات بعض القنابل الصغيرة، كان من مفهوم جعفر ان الامر سيتم وفق رغبته بالتخلص من رشيد وياسين، فسعى لدى الملك وفي مجلس الوزراء إلى ان يحمل كتابا خاصا من الملك إلى الجيش الزاحف لوقفه قبل دخوله العاصمة، هذا ما كان يظهره شكلا وقولا، لكنه كان ينوي في الحقيقة ان يلتحق بالجيش ليتقلد قيادته، ويدخل معه العاصمة ويعمل ما يراه بعد ذلك، وقد خاب ظنه، اذ فاته ان يعلم بان بكر صديقي القائد كان قد استحوذ على برقية اصدرها جعفر بصفته وزيرا للدفاع يطلب بها من المناطق العسكرية التابع له اتخاذ كل الاجراءات لمناهضة الحركة التي يقوم بها بكر صدقي، فكانت لعبته ذات الوجهين قد قربت من اجله.

ولما توجه إلى ديالى، والتقى بالجيش الزاحف الذي وصل نقطة (البير)، استوقفوه، وساقوه مخفورا إلى القائد الذي امر بعض الضباط بمرافقته إلى محل ناء واعدامه رميا بالرصاص، وهكذا تم اعدامه وتركت جثته مكشوفة في العراء اكثر من يومين.

وقتل جعفر بهذا الشكل مهما كانت دوافعه وعواقبه، قد زعزع حركة بكر صدقي من اول يوم تسلمه الحكم في البلاد، لما اوجدته من عداوات وردود فعل اضافية حصلت من اتباع جعفر ونوري، فوق الاستنكارات التي قامت في كل مكان لتلك الحركة الطائشة والاعمال الخالية من الفطنة والتعقل.

كان المرحوم جعفر العسكري رجلا ذكيا ومثقفا ثقافة عسكرية، مؤنسا في مجالسه، ومؤدباً في حديثه، يميل إلى النكتة وكان يتقن من اللغات الانكليزية والالمانية والتركية ويفهم الفرنسية والفارسية وكان ضياعه في ذلك الوقت الذي تحتاج البلاد إلى امثاله خسارة للجميع .

عن كتاب

( وجوه عراقية ) الصادر في لندن سنة 1987