كيف أصبح الجمالي رئيسا للوزراء .. وكيف أستقال ؟

كيف أصبح الجمالي رئيسا للوزراء .. وكيف أستقال ؟

احمد مختار بابان

ألف الدكتور محمد فاضل الجمالي أول وزارة له، وفي الواقع كانت هي أيضا أول وزارة تؤلف في عهد الملك فيصل الثاني إذا استثنينا وزارة جميل المدفعي السابعة التي ألفها في السابع من أيار 1953، وهي كانت استمرارا لوزارته السابقة التي اقتضى تبوأ الملك فيصل الثاني استقالتها بموجب الدستور.

أتصور أن العرش كان يفضل في ذلك الوقت أن يكون رئيس الوزراء شيعيا، وهذا أدى دوره في اختيار الدكتور الجمالي، لأن بعض الناس كانوا ينتقدون عدم تكليف زعما ء الشيعة بتأليف الوزارات العراقية المتعاقبة إلا ما ندر.

ولكن بغض النظر عن كل ذلك فإن العرش كان مقتنعا تماما بشخصية الدكتور الجمالي لشخصيته لا بسبب انتمائه الطائفي، وكان الملك والأمير كلاهما يقدرانه، ويرغبان في أن يكون هو رئيس الوزراء المقبل بعد استقالة المدفعي. وكنت أحسن أن الأمير عبد الإله يرغب في أن يعرف الملك فيصل الدكتور الجمالي عن قرب لأنه، أي الملك، كان لا يزال شابا، غير ملم بأمور السياسة، وغير متدرب على مسؤوليات الحكم. إن الدكتور الجمالي كان طيب القلب، حسن النية، مثقفا ثقافة عالية، وعالما بنفس الوقت، هذا الذي لمسته منه بسبب علاقتي الشخصية به، وعملي معه في المسؤولية، وأنه كان يفضل بطبعه أن يكون رئيسا للجامعة أكثر من أي منصب آخر، وأستطيع أن أقول عنه بأنه كان ديموقراطيا أصيلا، مؤمنا، متشبعا بقيمها بسبب ثقافته، ودراسته.

جاء الدكتور فاضل الجمالي إلى الحكم في بلد ملئ بالصعوبات، والمشكلات، وأراد مخلصا أن يبذل كل ما في وسعه من أجل وضع حلول عملية للأمور تلك، وبالاستناد إلى قناعاته الديموقراطية، فإنه أعطى الحرية للصحافة مثلا، فبدأت الجرائد تكتب، وتنتقد بأسلوب تجاوز ما عهده العراقيون من قبل، ودبت الحياة في نشاط الأحزاب بصورة واضحة، وألغيت الرقابة على المطبوعات، وأعيدت جميع الطلاب المفصولين بسبب أحداث سنة 1952 إلى مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم، وألغت وزارته الأحكام العرفية التي أعلنت في عهد وزارة نور الدين محمود، ولم تلغها وزارتا جميل المدفعي مع العلم أنهما تزامنتا مع انتقال العرش إلى الملك فيصل الثاني، فكان من المفروض إلغاءهما بهذه المناسبة.

وكان الدكتور فاضل الجمالي يتحمل الانتقادات، ويعقد بين الحين والآخر مؤتمرات صحفية على الطريقة الأميركية، هذا الذي لم يفهمه الكثيرون، ولم يقدروه حق قدره لأنهم لم يعهدوه من قبل، فمعظم ما قام به الجمالي كان شيئا جديدا، وبادرة جديدة لم يألفها العراق، بل إنها لم تكن مقبولة لدى طبقات معينة.

في رأيي كان على الدكتور فاضل الجمالي، الذي تولى الحكم لأول مرة، أن يأخذ بالحسبان كل أوضاع السياسة الداخلية، وكذلك التقاليد والعادات والأفكار السائدة على الأقل إلى إن يثبت مركزه في الحكم، فلا يكشف عن كل أوراقه بالشكل الذي أدى إلى ظهور طبقة قوية معارضة له. ظهرت بوادر المعارضة في مجلس النواب، فإن المجلس كان مجلس نوري السعيد، وكان من سلامة نيات فاضل الجمالي أنه طلب الإبقاء على المجلس. لكن الأحداث لم تبرر ثقة الجمالي، فقد أصبحت المعارضة قوية ضده داخل المجلس.

لم تختلف سياسة الجمالي الخارجية عن سياسة نوري السعيد الخارجية مطلقا، فلم يظهر أي خلاف بين الرجلين في هذا الصدد، لكنهما اختلفا في نظرتهما للأمور الداخلية، فكان نوري ينتمي إلى المدرسة التقليدية، إذا جاز التعبير، أما الجمالي فكان ينتمي إلى مدرسة حديثة متنورة، وكان مقتنعا بآراء لم تكن صالحة في رأي نوري السعيد.

أخذ الدكتور فاضل الجمالي حزب نوري السعيد " حزب الاتحاد الدستوري " بنظر الاعتبار حين تأليفه لوزارته، لكنه لم يدخل فيها العناصر الأكثر طموحا وقربا من رئيس الحزب من أمثال خليل كبه وضياء جعفر، بل أدخل فيها أربعة أعضاء آخرين، كان جميل الأورفلي أمين صندوق " حزب الاتحاد الدستوري " أحدهم، وقد عهد إليه وزارة العدلية. والجمالي كان يبحث عن العناصر الشابة، المثقفة النزيهة. على أي حال تحولت تشكيلة الوزارة، وكيفية تأليفها إلى مبعث أمل لدى الكثيرين، فإن الشعب رحب بوزارة الجمالي، وعلق آمالا كبيرة عليها.

ارتاحت طبقة واسعة من الشباب المتنور بصورة خاصة من وزارة الدكتور محمد فاضل الجمالي، ولا سيما، شباب الشيعة، بينما أنها لم تكن مقبولة عند بعض الطبقات الأخرى، فبدأت المناورات والشائعات ضد الوزارة القائمة، وبدأوا يتهمون الجمالي بالطائفية في حين أن الرجل لم يكن يعرف روح الطائفية مطلقا، أنه كان عراقيا مخلصا، وكان عنده سعة صدر يتحمل الانتقاد.

في اعتقادي كان على الجمالي، وهو أصبح رئيسا للوزراء لأول مرة، أن يكون محيطا بكل أوضاع السياسة الداخلية، وكذلك التقاليد والعادات والأفكار حتى يثبت مركزه في رئاسة الوزارة، ولا ينكشف هذا الشكل الغريب، فيجعل المعارضة له قوية. وقد بدأت المعارضة في مجلس النواب الذي كان أعوان نوري السعيد يمثلون الأكثرية الساحقة من أعضائه. وكان من سلامة قلب فاضل الجمالي أنه طلب الإبقاء على المجلس، ولم يأخذ باقتراح حله لأنه كان يعتقد أن المجلس يؤيد أي رئيس وزراء يختاره الملك، ولكن يبدو لي أن ثقة الجمالي بالمجلس لم تكن في محلها، فبدأ المجلس يخلق له المشاكل. وعادة عندما يكون رئيس الوزراء غير مؤيد من المجلس فإنه يصعب عليه امرار بعض التشريعات أو القوانين، وكان البعض يتعمدون إحراج الجمالي الذي كان عليه، تجاه هذا الوضع، أن يتلمس معرفة رأي الملك ويرى إذ كان قد كسب ثقته إلى درجة أنه يستطيع أن يطلب حل المجلس، ويجري انتخابات جديدة ليأتي بمجلس آخر يكون إلى جانبه في سياسته الجديدة. كان على الجمالي أن يعمل ذلك، لأن استمرار الحكومة مع مجلس غير مؤيد له شئ غير طبيعي.

لكن الدكتور الجمالي كان من رأيه أن المجلس لابد أن يكون معه على أساس أن الملك اختاره، وأن من سياسة نوري السعيد التقليدية أن يكون هو وحزبه وأنصاره دائما مع العرش. لهذا لم يطلب الجمالي حل المجلس، وإجراء انتخابات جديدة، وعندما شعر بعدم تعاون المجلس معه فضل الانسحاب من الوزارة، مع العلم أن نوري السعيد كان يتنصل دائما من معارضة المجلس للجمالي، ولكني أعتقد شخصيا أنه لو كان نوري السعيد قد فرض تعليماته على أعضاء حزبه فإنهم كانوا يغيرون موقفهم من الوزارة، لأنهم كانوا لا يخالفون تعليماته.

كان يرأس المعارضة لحكومة الدكتور فاضل الجمالي في مجلس النواب أقرب الناس إلى نوري السعيد، وأعني به خليل كنه الذي كان نوري يثق به كثيرا، ويعتمد عليه إلى حد كبير. وهكذا بدأت بسرعة حملة واسعة ضد الوزارة داخل المجلس: بلغت الحملة أوجها في نيسان 1954، إذ بدأ النواب يحاولون عرقلة أعمال الوزارة ومشاريعها بصورة علنية. وحدث في ذلك الحين أن عرضت على المجلس ميزانية مديرية الأوقاف العامة للمصادفة عليها، فبدأت المناورات، حتى أن بعض أعضاء المجلس من النواب أعلنوا أشبه ما يكون بتمرد عندما خرجوا من المجلس وجلسوا في إحدى الصالات وكأنهم يقاطعون الجلسة، بل بدأ بعض النواب من الشيوخ بمغادرة المجلس، فأقنعتهم بصعوبة ليعودوا إلى أماكنهم حتى لا يختل الاجتماع.

عندما بلغت الأمور هذا الحد اقتنعت شخصيا بضرورة أن يقدم الجمالي استقالة وزارته، وكنت نائبا للرئيس فيها، وقد أيدني في ذلك كل من وزيري المالية علي ممتاز، والعدلية محمد علي محمود. وكان الجمالي نفسه مقتنعا بذلك، فهو لم يكن من النوع الذي يجب الدخول في المهاترات، وخلق المشاكل، لذا فإنه قدم استقالة وزارته دون أي تردد، وكان ذلك، على ما أتذكر، في أواسط نيسان (إبريل) سنة 1954

من ( مذكرات احمد مختار بابان) وهو من رؤساء الوزرات في الخمسينيات