نص نادر ...أول لقائي بالشاعر الزهاوي

نص نادر ...أول لقائي بالشاعر الزهاوي

عباس محمود العقاد

من اللمحة الأولى تمثل لي كل ما في طوية هذه الشخصية القلقة من نقائض التفكير.حماسة تختلج لها كل أعصاب جسده ويتهدج معها صوته وتتلاحق فيها كلماته ونبراته،وفيم هذه الحماسة؟

في النداء بالعقل وحده، دون أن تخامره سَوْرة من حماسة العاطفة والخيال.في صفحات كتبه ودواوينه. ذلك هو الزهاوي في حديثه، وذلك هو دعوة إلى برهان الواقع والمنطق، وصرخة من صرخات الشعور، كأنها فقدت كل برهان وكل وسيلة من وسائل الإقناع.
وكان لقائي الأول له في مجلس الآنسة مي بمسكنها الأول عند ضريح الشيخ« المغربي وهو من مزارات القاهرة في حي من أحيائها .وقد ساقنا الحديث عن الضريح المعترض في غير مكانه إلى الحديث عن الخرافات التي تروى عن كرامات الأولياء، واستطرد به هذا الحديث إلى ذكرياته عن مجلس الأعيان يوم كان عضوًا من أعضائه العرب في عهد السلطان عبد الحميد بالعاصمة التركية، إن قطعة من قطع الأسطول العثماني احترقت، فقام أحد زملائه في المجلس وقال :

يقترح على الوزارة أن تشتري من كتاب البخاري نسخًا بعدد قطع الأسطول، تودعها فيها، أمانًا من الحريق وضمانًا للسلامة ، فوثب الزهاوي ليرد على الزميل، وليقول له:إن السفن الحربية لا تسير في هذا الزمن بالبخاري، وإنما تسير بالبخار !

وقد وثب الزهاوي وهو يعيد هذه القصة ما استطاع الوثوب.

وداعبته قائلًا :

وهل سلمت من عاقبة هذا التجديف ؟

قال في غير تمهل : إن لم أسلم فإنني لم أندم

وأعجبت الآنسة مي بحديثه، فأولعت به تستثيره لمناقشتي في مسألتين لم يكن بيننا قط وفاق على واحدة منهما: مسألة الألم، ومسألة المرأة.

فقد كانت تدين بأن الألم طبيعة الحياة، وكنت أعود بقضية الألم إلى قضية المرأة كلما سمعتها تردد هذه العقيدة، فما هي إلا طبيعة الشكوى التي تحلو لبنات حواء،وطبيعة الحنان الذي يسرها أن تعطيه كما يسرها أن تتلقاه.

أما الخلاف على قضية المرأة، فقد كنت فيها مع السيدة والدة الآنسة طرفًا واحدًا تنفرد أمامه الآنسة وحدها كلما اختلفنا على كفاية المرأة للنيابة وللانتخاب، في إبان معركة الدستور.

ورأيت بقية النقائض في هذه الشخصية التي لا تعرف التوافق بينها وبين نفسها — يوم زرته بمسكنه في حجرته المفروشة إلى جوار صحيفة الأهرام، فقد كان نصيرالسفور الأكبر يخاطب زوجته من وراء ستار كثيف يحجبها عن النظر، ويكاد يحجب صوتها الخفيض لو لم نجتهد في الإصغاء إليه!

ولم أكد أفرغ من التحدث إليه في جملة عقائده حتى تحققت أنها وثبات كوثبات اللاعب الرياضي في ساعة واحدة: صعود وهبوط ثم هبوط وصعود، ثم عود إلى الصعود وعود إلى الهبوط، كأنما كان كل وقت من أوقاته نموذجًا مختصرًا لأدوار التطور في العمر كله، لولا أنها أدوار لا تتسلسل على اطراد.

وعلمت بسفره في اللحظة الأخيرة، فأسرعت إلى محطة العاصمة أودعه، وتمنيت أن أراه مرة أخرى في القاهرة فقال:ذلك ما أرجوه، وأحب إلي أن أراك في بغداد .

ثم تمت النقائض جميعًا بعد سفره ببضعة أشهر، إذ سألني أحد قرائه في تونس عن رأيي في أدبه، فأبديت ذلك الرأي كما اعتقدته، وقلت إنه في بحوثه الفكرية أرجح منه في معانيه الشعرية.

وكان من الحق أن يغتبط نصير العقل على العاطفة بهذا الثناء الذي لا غنى فيه،من وجهة نظره، لو استقام على السواء في إيمانه بالعقل دون الشعور والخيال، ولكنه غضب مما كان خليقًا أن يرضيه، وجاءني البريد من بغداد بخطاب عليه توقيع مستعار، يقول كاتبه: إن مجلة لغة العرب للاب الكرملي تنوي أن تتناول ديوانك بالنقد اللاذع ،في لفظه ومعناه ، وان الزهاوي صديق للكرملي في وسعه أن يثنيه عما ينتويه! الزهاوي »دلالة على طيبة في غضب الرجل أظرف وأطرف من البريئة .

إن في هذه المناورة دليل على طيبته في رضاه، وإنها — ولا ريب — لن تصدر من قلب يضمر الكيد، أو يكون له من الكيد حظ أوفر من حظ الطفل البريء!

اطلعت في مجلة المكتبة البغدادية على مقال للسيد أكرم زعيتر عن ذكرياته لشاعر العراق الزهاوي، قال فيه من حديث جرى بينه وبين الشاعر في آخر لقاء له قبل سفره من بغداد ، قال ــ أي الزهاوي ــ : هل اطلعت على الأوشال ؟ قد كنت أظن، وقد رق عظمي، أن زمني لن يمتد بي كثيرًا، فسميت مجموعة قصائدي الأخيرة الاوشال ثم نظمت بعد ذلك قصائد أخرى، أعتقد أنها آخر ما أنظم في حياتي التي أراني مغادرها قريبًا، وقد جمعتها في ديوان سميته الثمالة ليكون آخر ما يطبع لي .قلت : وهل للأستاذ شعر لم يطبع غير الثمالة.

أجل، إنه ديوان لا ينشر في : قال : وهل للأستاذ شعر لم يطبع غير الثمالة ، قال : أجل، إنه ديوان لا ينشر في القرن العشرين .وكنت قد علمت من الزهاوي نفسه أن له شعرًا كثيرًا لا ينشره، وأنه سيوصي بنشره بعد وفاته، وفارق القاهرة

وهو يكرر لي حديثه عن الشعر المطوي الذي يعتقد بنشره بعد وفاته، أنه إذا نشر في يوم من الأيام فلن يتسع لنشره بلد غير القاهرة بين البلدان الشرقية.

وقد سمعت أخيرًا أن كتابًا ظهر في القاهرة باسم ( الزهاوي وديوانه المفقود ) فاعتقدت لأول وهلة أنه هو مجموعة الشعر الذي تحدث عنها الأستاذ الزهاوي الى الاستاذ اكرم زعيتر ببغداد ، واوما الي بنشره في القاهرة واطلعت على الكتاب لمؤلفه الأديب هلال ناجي ، فصدق ظني في موضوعه، وإن كان المؤلف الأديب قد توسع في أبوابه وما كتبه وما كتب عنه غير ديوان « الزهاوي النزغات » وما كتبه وما كتب عنه، غير ديوان « الزهاوي وهو اسم الديوان المفقود. وحرص المؤلف على تحقيق نسبة النزغات الى الزهاوي واستقصى الشواهد لجملة القصائد والمقطوعات والقرائن التي احتواها ديوان النزغات التي تدل على صحة هذه النسبة، وكلها مقنعة، بل قاطعة في إثبات نظم الشاعر كما تركه الزهاوي عند تسليمه الى سلامة موسى ثم انتقاله الى الدكتور ابي شادي بغيرزيادة فيه، وهو مرقوم على الآلة الكاتبة غير مصحوب بالأصل المخطوط.

عن كتاب : رجال عرفتهم