شمس الدين الحيدري صاحب المكتبة الاهلية كما رأيته

شمس الدين الحيدري صاحب المكتبة الاهلية كما رأيته

جواد عبد الكاظم محسن

في منتصف تسعينيات القرن الماضي دخلت زقاقا مغلقا في منتصف شارع المتنبي ، ووقفت أمام مكتبة صغيرة ، يجلس فيها رجل كبير السن في غاية الوقار والأناقة ويضع نظارة طبية غامقة اللون على عينيه ، حييته أولا ، فرد بهدوء بأحسن منها ، وراح ناظري يجول على عناوين الكتب ، فسألني الرجل :

- هل تبحث عن كتاب معين؟

فأجبته بالنفي ، وأضفت أني أبحث عما يفيدني ..

قال :

- وماذا يفيدك من الكتب؟

قلت : أقرأ كتب الأدب والتاريخ والتراث عامة ..

سألني :

- من أي مدينة أنت؟

قلت : من مدينة المسيب ..

سألني : ومن تعرف من أهالي مدينة المسيب؟

ابتسمت ، وقلت : أنا من مدينة المسيب ويفترض أني أعرف أغلب أهلها إن لم أقل جميعهم .. لكن حضرتكم من يعرف من أهلها؟

قال : من أصدقائي اليوم عبد الهادي الصالح وهو يأتي لزيارة من حين لآخر..

قلت : هو عمنا النائب الوطني الحر في العهد الملكي والمتصرف في العهد الجمهوري ، وهو من عائلة كريمة وفيها زعامة قبيلة ربيعة في المدينة ..

قال : إذن تفضل بالدخول والجلوس لنتحدث..

فلبيت دعوته لأنها الأولى على الرغم من ضيق الوقت ..

سألته : ومن تعرف من أهل المسيب بعد ؟

فأجاب : كان لي صديق عزيز منهم هو المرحوم عبد الجبار العلوش ..

قلت : هو أيضا عمنا ومن عائلة كريمة ووجيهة وأولاده اليوم من الفضلاء ، ويسكنون بغداد ، وهم : الأستاذ غالب والدكتور سعد والمحامي أياد والدكتور عماد.

رأيت أمامه على المنضدة كتاب (رياض الصالحين) ليحيى النووي ، قلت :

- لدي نسخة منه في مكتبتي الخاصة ، فما رأيكم به ؟

فأثنى عليه ، وقرأ لي ما بلغه فيه ، ومازلت أذكر ما قرأه لي وهو الحديث رقم 1406 المروي ((عنْ أبي مسْعُود الْبدْريِّ ، رضي اللَّه عنْهُ ، قالَ : أَتاناَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، وَنَحْنُ في مَجْلِس سعد بنِ عُبَادَةَ رضي اللَّه عنهُ ، فقالَ لهُ بَشِيرُ بْنُ سعدٍ : أمرَنَا اللَّه أنْ نُصلِّي علَيْكَ يا رسولَ اللَّهِ ، فَكَيْفَ نُصَّلي علَيْكَ ؟ فَسكَتَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، حتى تَمنَّيْنَا أنَّه لمْ يَسْأَلْهُ ، ثمَّ قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، قولُوا : اللَّهمَّ صلِّ عَلى مُحَمَّدٍ ، وَعَلى آلِ مُحمَّدٍ ، كما صليْتَ على آل إبْراهِيم ، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّد ، وعَلى آلِ مُحمَّد ، كما بَاركْتَ عَلى آل إبْراهِيم ، إنكَ حمِيدٌ مجِيدٌ ، والسلام كما قد عَلِمتم)).

وتكررت زياراتي لمكتبة السيد الحيدري والجلوس عنه وتبادل الأحاديث معه ، وكانت بيننا مودة عالية كما أخبرني قلبي بذلك ، وهو أصدق المخبرين ، فقد أنس ووثق بي الرجل ، وحدثني بمقدار ما سمح به الوقت عن ذكريات عزيزة على نفسه ، أذكر منها :

قال إن المرحوم محمد رضا الشبيبي كان من أصدقائي وزبائن مكتبتي ، وحينما استوزر ، اتصل بي عند استلامه لأول راتب ليذكرني بوجود دَين بذمته للمكتبة يبلغ سبعة دنانير ، وخيرني بين زيارته لي أو زيارتي له فاخترت الثانية ، فذهبت إليه واستقبلني أحسن استقبال ، وسدد لي ما بذمته من دَين.

وقال أن وراقا مصريا زار العراق في منتصف الستينيات وحل في ضيافتي ، وذات مساء بعد تناولنا العشاء ، دعوته لجولة ليلية في بغداد ، ففرح بذلك ، وبدأنا جولتنا بالذهاب إلى مرقد الإمام الأعظم إبي حنيفة النعمان في الأعظمية حسب طلبه ، فوجدناه مقفلا ، ورأيت الوجوم على وجه الضيف المصري ، فقلت لا عليك ، الأمر ، وسألت عن بيت السادن ، وقصدناه وشرحت له مطلبنا ، فرحب وصحبنا مسرعا إلى المرقد ، ودخلنا معا ، وأدينا الزيارة ، وجلسنا قليلا قبل أن يودعنا السادن بمثل حفاوة ما استقبلنا به ، ولما خرجنا دعوت الضيف المصري لعبور جسر الأئمة وزيارة الإمام موسى الكاظم ، فسره ذلك ، ودخلنا المرقد فكان مزدحما بالزائرين ، وأدينا الزيارة ، ولما خرجنا من الحرم ، رأيت في الصحن المرحوم الشيخ محمد حسن آل ياسين يؤدي الصلاة المستحبة ، فقلت لصاحبي : إذا لم تلتق ِ هذا الشيخ وتتحدث معه فكأنك لم تزر الكاظمية ومرقدها !! فتعجب من قولي ، وقال لنذهب إليه ، ووقفنا قريبا منه ، فخفف من صلاته ، لكي يستقبلنا مرحبا ، وأجلسنا على سجادته ، ودار بينه وبين الضيف المصري حوار هادئ في العقائد ، وفي ختامه سأل الضيف الشيخ آل ياسين قائلا: ألا ترى هناك مبالغة في تعظيم المراقد حيث القباب الذهبية ولا يوجد مثلها في بيت الله الحرام ، فأجابه الشيخ والابتسامة تملأ وجه : أعطنا بيت الله وأنظر كيف سنكسوه بما هو أثمن من الذهب!! وودعنا الشيخ بحفاوة بعد أن أثار إعجاب الضيف بأخلاقه وعلميته ورقة حاشيته .

وحدثني المرحوم الحيدري عن ذكرياته في معرض الكتاب العراقي الذي أقامه في القاهرة سنة 1965 ، وكان حافلا ، ونقل لي إن الوزير المصري قال له ملاطفا : لقد جئتنا بكتب النجف التي لم نرها من قبل !! ويقصد ما طبعته المطابع النجفية يومذاك وكانت في عز ازدهارها .

وحدثني عن زيارة له إلى الشيخ أغا بزرك الطهراني في داره بالنجف الأشرف ؛ قال طرقت الباب من غير موعد فخرج الشيخ واستقبلني فرحا ، وأدخلني الدار ، وغاب قليلا عني قبل أن يعود لي وقد ارتدى زي الوقار والعلم ، فقلت له : لِمَ اتعبت نفسك شيخنا وكلفتها ونحن في عجلة ورغبنا في السلام عليك فقط ، فقال : لا وجود احترام الضيف أن أكون في هذا الزي.

وحدثني عن ذكرياته الجميلة مع شخصيات عديدة منها عبد الرسول الخالصي ومواقفه في الوزارة والشيخ محمد حسن آل ياسين قبل اجتهاده وبعده وأخيه السيد كاظم الحيدري وآخرين ، وأخبرني مرة أنه يأتي يوميا إلى المكتبة ليس من أجل البيع والربح ، وهذا لا يحصل والكتاب كسد سوقه بسبب الحصار، وإنما من أجل الاستئناس بوجوده في المكتبة وهي عالمه الذي لا يعرف سواه ، ولقائه بالأصدقاء وكلهم من المثقفين ووجوه المجتمع ؛ وكم كنت أشعر بالارتياح لأحاديثه الجميلة ، وطيبته المتناهية وصراحته ، وقال لي ذات مرة إنه يتمنى أن يحدث تعارف بيني وبين أبنائه أو أحدهم على الأقل لتستمر العلاقة الطيبة معهم بعد رحيله ..

وهكذا استمر الحال بيننا ، كلما جئت شارع المتنبي قصدته ، وجلست معه ، وكان يسألني عندما أتأخر عن زيارته له ، حتى زرته ذات يوم فلم أجده والمكتبة مقفلة ، وتكرر الأمر في زيارة ثانية وثالثة ، فأصابني القلق ، فسألت خياطا يقع محلة قبالة المكتبة ، فأخبرني أن السيد مريض وقد أصيب بالشلل ولا يستطيع الحركة ، فتألمت كثيرا ، وسألته عن عنوان بيت السيد ، فدلني ، وفي الحال استأجرت سيارة ، وقصدته ، وطرقت الباب ، وفتحت الباب امرأة شابة أظنها من كريماته ، فسألتها عن السيد وصحته ورغبتي في لقائه ، وذهبت إليه لتخبره وتهيؤه ، وعادت لي مسرعة ، فدخلت عليه مسلما والدمعة تملآ عيني ، وانكببت على يده مقابلا ، وكانت فرحته بزيارتي له كبيرة وبادية على وجهه ، وقال لي :

- هل تصدق إنني أمس ذكرتك مع نفسي واشتقت للقائك ، وسألت نفسي : أين صار صديقي المسيبي ؟ وها أنت اليوم أمامي !!

وبقيت عنده أكثر من ساعة في حديث متواصل ، حتى جاء المعالج الطبيعي ، فكان علي المغادرة ، فودعته ، وكان وداعي الأخير له ، إذ قرأت نعيه في الصحافة بعد ذلك إذ توفي رحمه الله يوم السبت 29 نيسان 2000م ..