عندما تولى نوري السعيد رئاسة الوزراء لاول مرة

عندما تولى نوري السعيد رئاسة الوزراء لاول مرة

د . حميد حسون العكيلي

ثمة حقيقة تاريخية, وهي, إن إنتحار السعدون كان سيفاً ذا حدين كما يقال, فهناك بعض الساسة فقدوا بريقهم السياسي, وهناك بعض الساسة بدأ يسطع بريقهم السياسي, من ضمن هؤلاء نوري السعيد، وهذا ما كان يتوق له الملك فيصل الأول منذ وقت ليس بالقصير، ناهيك عن أن نوري السعيد لم يحض بتأييد الملك فقط، وأنما تأييد واضح من قبل دار الاعتماد البريطاني،

وبالنتيجة تسطيع القول، إن تأليف نوري السعيد لوزارته الاولى، كان استجابة لرغبة الملك فيصل الذي أراد أن يصبح ملكاً ورئيس وزراء على حد تعبير السيد علي الشرقي

على أية حال، صدرت الإرادة الملكية في 23 آذار 1930، وبموجبها تكونت الوزارة الجديدة، حيث احتفظ نوري السعيد بالإضافة إلى رئاسة الوزراء، بمنصب وزير الخارجية، وعيّن كل من جميل المدفعي وزيراً للداخلية وعلى جودت الأيوبي وزيراً للمالية. بالإضافة الى, جمال بابان وزيراً للعدلية وجعفر العسكري وجميل الراوي، وزيرين للدفاع والمواصلات والأشغال على التوالي، أما عبد الحسين الجلبي، فقد شغل وزارة المعارف، وكانت السمة الغالبة لأعضاء الوزارة توضح، بأن معظمهم من الذين عمل معهم نوري السعيد في الوزارات السابقة، وأنهم جميعاً من العسكريين السابقين، ما عدا وزير المعارف عبد الحسين الجلبي.

وبقدر ما يتعلق الأمر، بموضوع المصاهرات وصلات القربى، ودور الأسر المعروفة في هذه الحكومة، نجد أن لهذه الصلات الحصة الأكبر في هذه الوزارة، وتجلى ذلك من خلال سيطرة نوري السعيد و صهره جعفر العسكري، على أبرز المناصب السياسية في الحكومة، وهي رئاسة الوزراء ووزارتي الخارجية والدفاع. فضلاً عن, استخدام جعفر العسكري كوسيلة مهمة لتمرير المعاهدة، وهي مهمة الحكومة الرئيسة، عندما جعل منه رئيساً لمجلس النواب، أما بقية المواقع، فذهبت إلى ذوي الأسر المعروفة دينياً وعلمياً، كما هو الحال بتولي جميل الراوي وزارة المواصلات والأشغال، وذوي الشهرة والنفوذ كما هو الحال بوزير العدلية جمال بابان، الذي ينتمي إلى أسرة عريقة ومتنفذة في شمال العراق.

ومن المفارقات الغريبة في هذه الوزارة، والتي تؤكد بدون أدنى شك، حجم المصالح الشخصية للنخبة السياسية التي تدير دفة الحكم في البلاد، هو تولي جميل المدفعي وزارة الداخلية، بالرغم من أن رئيس الوزراء نوري السعيد، قد وصفه بأنه "طبل فارغ لا يصلح لأن يكون مدير ناحية"، ولم يكتف نوري السعيد بجعله وزيراً فحسب, بل شغل وزارة المالية أيضاً، قبل أن يعود لحقيبة الداخلية مرة أخرى.

أما بقية الوزراء، أمثال علي جودت الأيوبي، فقد أصبح وزيراً للمالية، بعد أن أصبح متصرفاً لعدد من الألوية العراقية، لكونه من الضباط الشريفيين السابقيين، ومن الموالين للملك فيصل الأول، وعبد الحسين الجلبي، الذي ينتمي إلى أسرة معروفة بثقلها التجاري والأقتصادي في البلاد، فلا غرابة أن يكون وزيراً دائم العضوية في مجلس الوزراء، أغلب وزارات عهد الأنتداب.

وفي الواقع، إن الوزارة السعيدية الاولى قد تكللت جهودها بالنجاح عندما استطاعت في الثلاثين من حزيران عام 1930, توقيع المعاهدة الجديدة مع بريطانيا, أمدها (25) عاماً, تبدأ بدخول العراق عصبة الامم, وليس من باب الصدفة, أن يكون إعلان توقيع المعاهدة مع بريطانيا في يوم الثلاثين من حزيران عام 1930, وانما جاء مدروساً ليخفف عن البريطانيين شعور الهزيمة في ثورة العشرين, والذي عانوا منه طويلاً. فضلاً عن, رغبتهم في جعل يوم الثلاثين من حزيران, ليس رمزاً للثورة على الاستعمار البريطاني بقيادة المرجعية الدينية, وانما رمزاً يدل على تبعة العراق لبريطانيا بموجب المعاهدة المذكورة.

بالمقابل, استطاع نوري السعيد أن يتعامل مع المعارضة القوية التي وقفت ضد المعاهدة الجديدة، حيث استطاع أن يكسب إلى جانبه أحد أبرز وجوه المعارضة، وهو مزاحم الباجه جي، وقد أدت صلات القربى دوراً محورياً في هذا الموضوع, حيث تمكن حمدي الباجه جي من التأثير على إبن خاله مزاحم الباجه جي، واقنعه بترك المعارضة والتوجه صوب التيار الحكومي بزعامة نوري السعيد، على الرغم من كونه من أشد المعارضين له ولحكومته، وقد وصف المعاهدة بأنها مؤامرة، لكنه سرعان ما تغير موقفه، وبالتالي تمكن نوري السعيد، بواسطة حمدي الباجه جي، من توجيه ضربة قوية للمعارضة، عن طريق كسبه لمعارضٍ نوعي, وهو مزاحم الباجه جي، ولم يقف نوري السعيد عند هذا الحد، بل قرر إدخاله إلى وزارته، حيث استحدث له منصب وزارة الاقتصاد. ويبدو، ان السبب الرئيس في تحول مزاحم الباجه جي من معارض بارز إلى مؤيد قوي للحكومة، هو شكوكه في ان أقطاب المعارضة كانت لديهم رغبة الوصول إلى كرسي الوزارة، وهذا ما شخصه الشاعر حسن احمد الاسدي,عندما تحدث شعراً فقال :

أيــا شـعــب لا تـعجب لفـــــعــــل مزاحـم فــكـلـهــــــم عـــــــنـد الـكـراســي مـــــزاحــــــم على أية حال, سارع الباجه جي لإغتنام الفرصة التي لوّح بها نوري السعيد، دون أن يعرف أن قصد الأخير هو توجيه ضربة للمعارضة. مع العلم، ان دخول مزاحم الباجه جي إلى وزارة نوري السعيد الاولى، قد أثار كثيرٌ من اللغط، لاسيما بعد سفر الأخير الى تركيا, وتسنم الباجه جي رئاسة الوزراء بالوكالة, الامر الذي شجع المعارضة على النيل منه، من خلال تحريك الشارع، والخروج في تظاهرات وإضرابات، شملت معظم مناطق العراق، ظاهرها بسبب رسوم البلديات لعام 1931، غير ان حقيقتها، هو وجود صراع سياسي خفي، تديره مجموعة من محترفي السياسة، لغايات شخصية.

بالمقابل, كان للملك فيصل الاول يد خفية، وراء ما حدث من موقف متشدد تجاه مزاحم الباجه جي، الذي وصف بأنه معارض للملك، لاسيما بعد قضية الرسائل السرية، التي كان فيها هتك للأعراض، ومس للكرامات لاسيما شخص الملك فيصل الأول. ومع ذلك, لم يتخل نوري السعيد عن الباجه جي، لاسيما عندما تعرض لانتقاد شديد في مجلس الوزراء، ورفض قبول استقالته التي قدمها في 13 تشرين الأول 1931. فضلاً عن, رغبته في حفظ ماء وجه زميله، بعدما تعرض لإحراج شديد، نتيجة إضراب رسوم البلديات، وما رافقه من أحداث وملابسات، لذلك قدم استقالة حكومته الى الملك في 19 تشرين الأول 1930، ليشكل وزارة جديدة بدون مزاحم الباجه جي، حيث تمّ تشكيل الوزارة السعيدية الثانية في 19 تشرين الأول 1931، وضمّت كل من ناجي شوكت وزيراً للداخلية ورستم حيدر وزيراً للمالية وجمال بابان وزيراً للعدلية، وجعفر العسكري وزيراً للدفاع بالأصالة والخارجية بالوكالة، فيما شغل محمد أمين زكي وعبد الحسين الجلبي، وزارتي الاقتصاد والأشغال والمعارف على التوالي.

وبعد تمرير المعاهدة، واستقالة صهر نوري السعيد من رئاسة مجلس النواب، حل محله جميل المدفعي وزير الداخلية، وبالتالي حدثت تغيرات وزارية شغل من خلالها مزاحم الباجه جي وزارة الداخلية، في الخامس والعشرين من نيسان1931، وأدار نوري السعيد وزارة الأقتصاد والمواصلات بالوكالة.

وفي إطار سعي رئيس الوزراء نوري السعيد الى أن يسلم منصب وزارة الخارجية، وزيراً بالأصالة، بعد أن بقي هذا المنصب يدار بالوكالة لمدة طويلة، حيث وقع الاختيار على عبدالله الدملوجي، في 18 تشرين الأول1930، وهو الخبير بالشؤون الخارجية، نتيجة عمله في البلاط الملكي السعودي لمدة طويلة ، ولا يخفى على أحد، في ان أسرة الدملوجي من الأسر السياسية العريقة، والمعروفة بالوجاهة الاجتماعية، ليس في الموصل فقط، وإنما في أنحاء العراق كافة.

عن كتاب (المصاهرات الإجتماعية وصلات القربى وأثرها السياسي في العراق الملكي 1921)