حوار بين المفكرين الفرنسيين ادغار موران وريجيس دوبريه

حوار بين المفكرين الفرنسيين ادغار موران وريجيس دوبريه

ترجمة: حسونة المصباحي

ادغار موران المولود عام 1921 ، وريجيس دوبريه المولود عام 1940 ، هما الآن الأكثر حضورا في الحياة الفكرية والثقافية الفرنسية. الأول يسمي الثاني “أخي الكبير الصغير”. أما الثاني فيسمي الأول “أخي الصغير الكبير”.

ورغم أن جيلا كاملا يفصل بينهما، فإنهما يتقاسمان هموما وقضايا فكرية وسياسية وفلسفية ونظرية ونضالية. وكان ادغار موران في العشرين من عمره حين انتسب إلى حركة المقاومة ضد الاحتلال النازي. وفي عام 1954، تم فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي بسبب مقال مناهض للهيمنة الاستعمارية، ومناصرا للثورة الجزائرية. ومنذ ذلك الوقت، ركز اهتماماته على البحوث الاجتماعية، مبتكرا ما سماع ب”الفكر المعقد”، به استعان لمعالجة العديد من القضايا المتصلة بالعصر الحديث. ومع رولان بارت أسس مجلة “االبراهين” في أواسط الخمسينات، ، ثم مجلة “اتصالات” في مطلع الستينات. وفي التسعينات من القرن الماضي، أصبح ادغار مروان مناصرا للخضر المدافعين عن البيئة مؤلفا كتاب بعنوان “الأرض-الوطن”.

وكان ريجيس دوبريه في سن العشرين أيضا لما انطلق في مطلع الستينات إلى كوبا ليساند فيدال كاسترو وتشي غيفارا. وعندما شنّ هذا الأخير حرب عصابات في بوليفيا، التحق به فقامت السلطات باعتقاله وسجنه على مدى ثلاثة أعوام. ومن وحي تلك التجربة المريرة، أصدر كتابا بعنوان” الثورة داخل الثورة” ليصبح انجيل العديد من الحركات الثورية المسلحة في مناطق مختلفة من العالم. وعندما انتصر الاشتراكيون في انتخابات ربيع عام 1981، أصبح ريجيس دوبريه مستشارا للرئيس فرانسوا ميتران. وخلال العقود الماضية، أصدر العديد من الكتاب الفكرية والأدبية التي أثارت جدلا واسعا داخل الأوساط الفرنسية.

وفي عددها رقم 2875 الصادر في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر 2019، أصدرت الأسبوعية الفرنسية “لوبس” حوارا مسهبا دار بين ادغار موران وريجيس دوبريه حول العديد من القضايا الحارقة . هنا ترجمة لمقاطع هامة من هذا الحوار الشيق والمثير للجدل:

-هل بإمكاننا أن نبدأ بمطالبة كل واحد منكما أن يوضح ما يمكن أن يضعه خلف كلمة “ثورة”؟

- ادغار موران: في قاموس “لاروس” تعني الثورة” تغييرا فجئيا وعنيفا في التركيبة السياسية والاجتماعية للدولة. وهذا التغيير يحدث حين تتمرد مجموعة ضد السلطات القائمة وتستحوذ على السلطة وتحافظ عليها”. تلك هي الثمرة في معناها العام. لكن بالنسبية لي ، كانت الثورة بأحرف غليظة تعني حين انتميت إلى الشيوعية، توليد عالم جديد، ينتفي فيه استغلال الانسان للإنسان. وكانت تحمل من دون وعي مني معنى صوفيا، ودينيا، ونبوئيا. وكانت تدخل ضمن تشكل لاهوتي مسيحي فيه يكون المسيح البروليتاريا الصناعية ونبيّها. أمّا ماركس المحمّل بقوة العلم الخارقة فهو اسحاقها الجديد. وقد كانت الثورة تلك اللحظة التاريخية الحاسمة حيث يقوم المعذبون في الأرض بتقويض هيمنة المحتلين والمعتدين، ويُعَجّلُون بقيام سلطة تحررية بالنسبة للإنسانية جمعاء. وهذا الجانب الصوفي في الثورة كان يُبهجني، وليس العنف رغم أنني كنت أرى أنه ضروري. تلك الكلمة المقدسة والمُنْقذة كانت :”بهذا الإشارة سوف تنتصر” كما في المعنى اللاتيني.

من يستطيع اليوم أن يدرك ما حملته كلمة “ثورة” للقرن العشرين من مُطْلَق، ومن حقيقة، ومن حماس، ومن ما يقارب الانتشاء بالنسبة للملايين الذين انجذبوا للديانة الكبيرة للخلاص الأرضي، والتي كانت الشيوعية. وقد انتعشت الشيوعية مع ثورة ربيع 68 الطلابية ، ومع أنصار ماوتسي تونغ لكنها انطفأت في نهاية عام عندما انجلت الأوهام الكبيرة لتكشف حقائق عن الصين، وعن فيتنام، وعن كمبوديا وكوبا. واليوم احتفت هذه الكلمة حتى لدى الأكثر عداء للمجتمع الرأسمالي، بما في ذلك الحزب التروتسكي الذي رفع على مدى سبعين عاما علم الثورة العالمية. وبما أن الكلمة أفرغت من شُحْنَتها المتفجرة، فإنه بالإمكان أن تصبح في خدمة الرأسمالية، بل في خدمة أيّ شيء.

ومع التفكير في أن الثورة ليس بإمكانها أن تحقق الانسجام الكامل، ولا أن تزيل كل النزاعات ( التي هي نفسها ضرورية للديمقراطية)، كنت قد سُحرت بهذه الكلمة الأسطورة حتى أنني خلت نفسي أشاهد بطريقة ملموسة ثورة “بيتروغراد” في فيلم “أكتوبر” لانشستاين ، وخلال أول إقامة لي في لينينغراد، أظهرت اعجابا شديدا بالمدرّع “السّحَر” وبقصر الشتاء. وحتى وإن أصابتني الستالينية بخيبة، ثم اللينينية بعدها، فقد واصلت اعتبار ثورة أكتوبر كما لو أنها محاولة خارقة وملحمية ونبوئية لتوفير الخلاص للإنسانية- أذكر بأن لينيبن كان قد قرر السيطرة على السلطة لكي يفتح الطريق للثورة الأوروبية والعالمية. واليوم، حتى في فشلهم ذاته، والذي كان شهيدهم أيضا، أعتبر تروتسكي كما هو الحال بالنسبة لتشي غيفارا، آخر مبشريْن وآخر بطليْن للثورة العالمية.

الأناشيد الثورية كانت تفتننا حتى أننا كنا نرقص على أنغامها. وقبل أن أصبح ثوريا، وقبل الحرب، كنت قد فتنت بمجموعة موسيقية صغيرة كانت قد غنت “الفرسوفية”، و”الجبهة الحمراء”، و”الكومينتارن”. ولا زلت أحب مثل هذه الأناشيد خصوصا “الفرسوفية” (التي تنتهي بأنغام تكاد تكون دينية)، و”نشيد الأنصار الروس”، و”الأنتارناسيونال”. وقد ظلت هذه الفتنة قائمة الذات حتى بعد أن فقدت العقيدة

-ريجيس دوبريه : صديق راهب بندنكتي أسرّ لي أن اخوته لا يتكلمون أبدا عن الله في الدير من دون أن لا تكون باستطاعتهم أن يطلبوا منه المغفرة خمس مرات في اليوم الواحد. على مدى السنوات التي كنت “أتدرّب” فيها على الثورة، لا أتذكر أبدا أني سئلت عن المعنى الدقيق لهذه الكلمة. وعندما “بضْت” بالاشتراك كع فيدال كاسترو عام 1966 كمصحح للمخطوط، كتاب “الثورة داخل الثورة”، كانت مشكلتنا كيف نقوم بالثورة، وليس القيام بها. وبإمكاننا أن نجيب دائما بأن الثورة هي” الفعل العنيف الذي يهدف إلى تغيير لا شكل الحكومة وإنما الوضع الاجتماعي”. والتعريف ليس كافيا خاصة وأنه عملي وغامض. لا بد أن نكون ملحدين لكي نعرّف بالله الواحد.

الكلمات المكتوبة بأحرف غليظة مثل الحرية والسعادة لهما الفضل بأنها تُغَنّى أحسن مما تتكلم. الثورة تبدأ ب” الحلم”. ما هو حلم يستبق ما هو منطقي. والسؤال الحقيقي يمكن أن يطرح على النحو التالي :”ما الذي يُغنّي لنا في آذاننا حين نكون في سن العشرين؟، ويُدْمعُ عيوننا؟”. وأنت يا ادغار موران تصور ذلك بشكل بديع في مذكراتك في عام 1944. ذات مساء، في غرفتي المظلمة، ولمبة على مكتبي، والراديو مفتوح، سمعت النداءات الرائعة لافتتاح ” السفينة الشبح” التي استحوذت على وجداني بشكل كامل. وبأكثر تواضع، كانت “زمن الكرز” بالنسبة، والتي كنت أعتقد خطأ أنها من أناشيد “الكومونة”. أما الرعشة الحقيقية فتعود إلى جوقة الجيش الأحمر. ينضاف إلى هذا كله “السينماتاك”، ونوادي السينما. “بوتمكين”، “ألكسندر نيفسكي”، “لمن تقرع الأجراس؟”، …الشاشة الصغيرة ليست لها القوة الساحرة للشاشة الكبيرة بالأبيض والأسود. نحن لنا ميزة …أنت تعرفت على السنوات الأولى لعصر السينما، وأنا على السنوات الأخيرة. بل الأفضل أن نقول أن ميزتنا هي أننا تفاعلنا معها. القاعة المظلمة، وليس أريكة الصالون المنزلي، يمكنها أن تمنحنا الرغبة في أن نتوق إلى المشاركة، وإلى حماس مشترك، وإلى “نحن متحدون” المؤملة والمرجوة. أسطورة الثورة تأخذ الفرد إلى المجموعة بقوة. وكان الجنرال ديغول يقول بإن فكرة فرنسا هي “أن الشعور يوحي إليّ أكثر من العقل”. يا له من غباء أن نقلّصَ انتفاضات الأمل، مثلما يفعل المحافظون، إلى غيرة انتقامية حقيرة. تفسير بائس.

الأسطورة ليست الكذبة التي نفتعلها لأنفسنا. إنها اسم نمنحه استعاديّا إلى مُعْتقد ما. ولا تكون الأسطورة ناجعة إلاّ حين يتحتم عليها ألاّ تحمل اسمها. “نحن اعتقدنا”، أو “عندما كنا نعتقد هذا أو ذاك” . ليس هناك سوى المسيحيون الذين يقولون في الحاضر وبصوت عال :”أنا أعتقد”. القرن التاسع عشر آمن بالجمهورية، أما القرن العشرون فقد آمن بالثورة. لكن القرن الواحد والعشرون لا يؤمن لا بهذه ولا بتلك، بل هو يؤمن بالاقتصاد. واليوم نحن نعلم أن نسبة النمو هي مبدأ لكل شيء. مع ذلك هي للأسف معتقد مثل المعتقدات السابقة.

-لكن ماعلاقة الانتفاضات التي تشهدا فرنسا بالثورة؟

ادغار موران: حركة الاضراب الهائل التي تشهدها فرنسا راهنا تندرج ضمن انتفاضات على المستوى العالمي: الجزائر، العراق، لبنان، الشيلي، الاكواتور، هونكونغ. وهذه الموجة كانت قد سبقتها حركة” الصدريّات الصفراء”. في الخارج، بقطع النظر عن خصوصيات كل حركة، تشترك تلك الانتفاضات في أنها شكلت تمردا على الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة. من جانب آخر، وفي حالات كثيرة، كانت الانتفاضات معادية لايديولوجية الليبيرالية الجديدة التي فرضت هيمنة جنونية للربح وحطمت الطبقات العاملة والمتوسطة. وليس بإمكان المؤرخ ألاّ يستعيد ذكرى ” ربيع الشعوب” في عام 1848 الذي زعزع أركان النظام المحافظ القائم في أوروبا بين الأنظمة الملكية في مؤتمر فيينا. وفي صقلية، وسويسرا، وفرنسا، وألمانيا، والنمسا، والمجر، حدثت موجة من الانتفاضات الثورية حاملة فكرة الاستقلال الوطني، والديمقراطية، بل والاشتراكية أيضا. ورغم أنه تمّ قمع تلك الانتفاضات، فإن تلك الحركات المتمردة كان لها دور كبير في تحرير الشعوب.

اليوم تعبر الموجة العالمية عن تمرد وعن طموح، لكنها ليست ثورية بالمعنى الحقيقي للكلمة. وفي حين كانت لانتفاضات عام 1848 هدف واضح ألا وهو الديمقراطية ضد الأنظمة الاستبدادية، نرى أن انتفاضات عام2019 تندرج ضمن الأزمة التي تشهدها الديمقراطية في الوقت الذي تبرز فيه أنظمة سلطوية جديدة.

-ريجيس دوبريه: نحن لم نعد في سنة1848. وهذا أفضل. وفي فرنسا لا يقتل الغاز المسيل للدموع العشرات، ومن المشهد اختفى أمثال ميشلي، وبرودون، ولامرتين مع الثقافة المكتوبة. وربما يجدر بنا أن نغير الثابتة. إلى حد الآن كان هناك غضب أفضى إلى تمرد، وفكرة قد تفجر ثورة. وكان هناك تحالف بين فكرة ميدانية، وبنية ثقافية، متطلعة إلى المستقبل، وبين انتفاضة بؤساء في الحاضر. وقد يكون هناك اليوم المنطلق التاريخي الثالث على المدى الطويل لحتمية المساواة التي لا يمكن التراجع عنها. وفي القرون الوسطى كانت هناك انتفاضة المزارعين القرويين برعاية الانجيل. ثم في العصر الحديث، ثورة أصحاب السراويل القصيرة برعاية من الأنوار. واليوم ، في عصر ما بعد الحداثة، هناك انتفاضة المدن التي بلا أمل تحت رعاية فراغ أيديولوجي خاص بالحقبة التاريخية. قد يأتي المشروع، لكن في الوقت الراهن، الرفض قائم. وهذه نقطة جيدة لا للانسحاب وإنما للتقدم إذا ما أنا تجاسرت على قول ذلك.

-العنف في السياسة …إلى أيّ مدى بحسب رأيك يمكن أن نبرّره؟

-ريجيس دوبريه: باستثناء الإرهاب، يمكن أن نبرر العنف. الدول المهيمنة لا تمتنع عن ذلك ، وعلى مجال واسع مستعملة الطائرات الصواريخ التي تحدث أضرار جسيمة على المستوى الكوني. أما الطليعة الثورية فهي تقتل نفسها حالما تركن إلى العنف والقتل. والمقاومة المسلحة ليست شرعية إلاّ عندنا تكون موجهة ضد نظام استبدادي أو ضد محتل. وفكرة الركون إلى العنف لم تراودني مطلقا حين عدت من أريكا اللاتينية لأن الحقوق الأساسية مضمونة في ظل الديمقراطية. واليسراوية الراديكالية في فرنسا كانت دائما تشعرني بالنفور والتقزز منها. واليوم أنا أؤمن مطلقا بالقوة ذلك أن ضعف القوة هو الايمان بأنه ليس هناك سوى القوة كما يقول بول فاليري. كما أني لا أؤمن بالانقلاب العسكري إذ أن هذا الانقلاب يوحي لوحده أنه ماض إلى السقوط والفشل. الاقتراع المباشر وعمليات سبر الآراء يمكن أن تطفئ النار في زمنين وثلاث حركات. العصيان المدني، والاضرابات والاحتجاجات والشلل والانتفاضات والدفاع السلبي وكل هذا يبدو وسائل ملائمة حتى وإن كانت المقاومة السلمية بطريقة غاندي تحتم التضحية وانكار الذات والشجاعة الجسدية والجرأة الأخلاقية أكثر مما نحتاجه لتكسير واجهة بلورية أو سرقة بنك(…)

-ادغار موران: العنف السياسي لم أبرره بل أنا مارسته كما لو أنه الجزء القذر (الأيدي القذرة لجان بول سارتر) لكل نبيل. وأنا أزداد شغفا بكل الحركات الرافضة للعنف الموروثة عن غاندي ،وعن “أفعال اليقظة” مثل بعض “الألتارناتيبا”، أو “انطفاء التمرد”. مع ذلك أنا رأيت ان الانتفاضات السلمية في سوريا قُمعَت من قبل الجيش لتصبح عنيفة ، إلاّ أنني لم أدنْ هذا العنف رغم أن هذا العنف تحول في الظروف الخاصة بسوريا إلى حرب أهلية دينية وعالمية بتدخلات أجنبية غير مباشرة، ومباشرة. كل قرار هو رهان، وكل فعل هو محتمل ومرهون بردود الفعل، بحسب المجال الذي يحدث فيه. أغلب القرارات التاريخية اتخذت من قبل مطلقي جن مثيرة قوى غير متوقعة.

وكثيرة هي الثورات التي تثير ردودا سلبية ورجعية. وفي البعض من الحالات، يمكن أن يحدث فعل سلمي عنفا غير متوقع. وفي حالات أخرى يمكن أن يفضي فعل عنيف إلى السلم. التاريخ في تظري ماركسي-شكسبيري مرهون بمنطق يختلط مع الهذيان، وفيه يمتزج الصخب والعنف بعقلانيات ملتبسة. وهذا مبرر آخر لكي أكون معاديا للعنف، ورافضا له.

عن موقع الحكمة