من ذكرياتي الصحفية سنة 1948

من ذكرياتي الصحفية سنة 1948

سليم طه التكريتي

وسقطت وزارة صالح جبر، الاولى والاخيرة، والتي تبرع خلالها بعقد معاهدة بورتسموث الاستعمارية، نتيجة الوثبة الشعبية الوطنية في شهر كانون الثاني سنة 1948، حيث اخفقت كل تشبثات صالح جبر وعبد الاله واسيادهما الانكليز في فرض تلك المعاهدة على الشعب العراقي بالحديد والنار، ووقوع المئات من الشهداء والجرحى وغالبيتهم من الطلبة والعمال.

ولقد اقتضت "الحكمة" ان يعهد بتاليف الوزارة الجديدة الى الشخصية السياسية المعروفة السيد محمد الصدر، الذي استطاعت وزارته تلك ان تتملص بكل هدوء وتسلل من تنفيذ مطالب الشعب الوطنية التي قامت الوثبة في سبيل تنفيذها، والتي لم تقتصر على الغاء معاهدة بورتسموث بعد.

وتولى المرحوم مصطفى العمري منصب وزارة الداخلية في وزارة الصدر تلك، واطلق العنان لاصدار امتيازات الصحف والمجلات. وعن هذا السبيل حصلت على امتياز باصدار صحيفة يومية سياسية باسم "العصور" الشهيرة التي اصدرها المفكر العربي الكبير المعروف المرحوم اسماعيل مظهر في منتصف سني العشرينيات.

وبعد ان اعددت الترتيبات اللازمة التي كان يتطلبها "قانون المطبوعات" في تلك الايام اصدرت "العصور" مسائية باربع صفحات، فلقيت منذ عددها الاول اهتماما ورواجا كبيرين من لدن القراء، ساعدها على تحمل النفقات، اذ كان ذلك الرواج يمثل المورد الاول لها بعد ان امتنعت "مديرية الدعاية العامة" عن تزويدها بالاعلانات الحكومية التي كانت تؤلف المصدر الرئيسي لايرادات الصحف المحظوظة من لدن الحكومة في تلك الاعوام.

* كان يحيى قاسم احد المتظاهرين باليسارية والتقدمية ايام زمان قد "انقلب" على رفاقه الذين خططوا لانشاء حزب باسم حزب "الشعب" وحصلوا على امتياز باصدار جريدة بهذا الاسم تنطق بلسانه، حيث كان يحيى قاسم هو صاحب الامتياز وعبد الامير ابو تراب هو مديرها المسؤول، ولذلك اخذ يحيى قاسم بصدر "الشعب" بالصفة التي يريدها هو، لا كما كان يريدها اليساريون او التقدميون، وبالتدريج تحولت "ألشعب" الى لسان قوي يدافع ليس عن الحكم القائم حسب، بل وعن مصالح "شركة النفط العراقية" الي اختارت يحيى قاسم محاميا لها!

* ترددت الاشاعات عن قرب استبدال وزارة الصدر بوزارة اخرى، كنت انذاك ازور يحيى قاسم في ادارة جريدته في بعض الامسيات وكم دهشت كثيرا اذ كنت اجد في كل مرة مزاحم الباجه جي يقبع في ادارة الجريدة ويناقش في العديد من الامور ولم تمض ايام حتى رشحت الاشاعات مزاحم الباجه جي لرئاسة الوزارة الجديدة. وهو الذي طرد من عضوية مجلس الاعيان اخر مرة باحدى "الحيل" القانونية.

ومالبثت الاشاعة ان تاكدت فنشرت الصحف الموالية للحكم، ومنها جريدة الشعب اختيار الباجه جي لمهمة تأليف الوزارة وان حفلة الاستيزار سوف تجري في الساحة العامة امام مجلس الوزراء في بناية "السراي". في ذلك المساء صدرت "العصور" وهي تحمل في صدرها افتتاحية بعنوان مثير، هو "هل يستطيع الباجه جي النهوض باعباء الحكم؟".

كان فحوى ذلك المقال الذي كتبته هو ان الباجه جي من طراز الساسة القدماء، وانه لامجال لسياسي من طرازه ان يدير شؤون الحكم في ظرف جديد جاء في اعقاب ثورة شعبية عارمة لما تزل مطاليبها غير منفذة رغم دماء الضحايا التي سالت مدرارا، وعلى هذ فان وزارة مزاحم الباجه جي محكوم عليها بالفشل.

في صباح اليوم التالي توجهت مع بعض الزملاء لكي نشهد حفل استيزار الوزارة الجديدة وقبل ان تحل الساعة العاشرة صباحا جاء الباجه جي بقامته المديدة، وهو يرتدي بدلة بيضاء ومعه بعض الشخصيات الاخرى الى ساحة مجلس الوزراء، انتظارا لوصول الارادة الملكية من البلاط بتعيينه رئيسا للوزراء.

ولست ادري كيف استطاع مزاحم الباجه جي ان يلمحني بين صفوف الواقفين في الساحة، وان ينادي احد رجال الشرطة ويوجهه نحوي بعد ان اشار الي بيده، تقدم الشرطي مني وقال لي "تفضل الباشا يريدك" عرفت السبب حالا فاسرعت في التوجه اليه وبعد ان حييته وباركت له قال لي "لماذا ياولدي تستعجل الامور؟ من الذي قال لك انني لا استطيع تمشية امور الدولة كما ذكرت ذلك في مقالتك التي نشرتها مساء امس؟ اعطنا فرصة ودعنا ناكل.. ومن ثم حاسبنا كما تريد في امان الله!.

من اوراق سليم طه التكريتي ( ذكريات ضاحكة)