الموعِظة.. أو مسألة رشدي العامل

الموعِظة.. أو مسألة رشدي العامل

ياسين طه حافظ

كتبت هذه المرثية لرشدي قبل وفاته بشهر واحد وإثر زيارتي له. كان يسكن في بيت أخيه أو عمه خلف مستشفى اليرموك، وفيما كان يشبه الغرفة بين باب البيت وباب السياج. وهذا ما أشارت له القصيدة.

اتصل بي هاتفياً إثر قراءته للقصيدة في الأقلام. شكرني باعتزاز كبير وأجهش في البكاء.

الخُطا عَجِله

من يُصدّق أن وراء تسارع إيقاعِها

همسُ صافرةٍ

أو صدى سلسله ؟

الفتى الذهبي

يتوهجُّ في الانتقال من الظل للشمسِ

فتنبهرَ امرأة في الطريق

وتكْسِرَ عن وجهِهِ نظرةُ خَجِله.

أوشك أن أُصدِّقَ الحلمَ ،

فهذا الاشقرُ المسرعُ في الطريق يدخل الجريدة

نارُ الرعاةِ في عيونِهِ ،

فوضى سماوية

تدفعُهُ في ظلمةِ المبنى الذي أحاطه السحابْ

يقولُ: "كي أصنعَ شمساً ، أو يقول كي أسمعَ

موسيقى زمانٍ آخر يجيءُ أو يقولُ كي أصطادْ

غزالةً للعيدِ،

هكذا يضطرب المسيح بين الحلم والمكيدة

وهكذا يضيع جيلٌ كاملٌ في ضجّة المكائنِ المعتسراتِ

كلَّ ليلها تدورْ ،

تصيحُ كي تُسقِطَ حرفاً ،

والفتى استهواهُ ذاك الحلُمُ الغائبُ مثلها يدورْ

يمتصُّهُ الظلامُ

يمتصُّ ذاك النورْ

يمتصُّ ذاك الولدَ البلَورْ

مستسلماً وساهمَ العينين يطفو في مياه الليلْ

يأخذه الضوءُ الذي يلوحُ في المرايا ،

تأخذهُ زخارفُ الماس التي تُخبّئُ البهجةَ والمنايا،

تأخذه السحائبُ المُذَهباتُ والطيورْ .

رأيتُهُ في شارع الرشيد

يُشرق فوق شعره قمحُ سهولٍ ساطعاتْ

والخطوةُ الحلوةُ مثل قبّره.

رأيتُهُ في آخر الحديقة

وجهُهُ للشبّاك

ينامُ والمسجّل الصامتُ والجريدة:

ظهيرةٌ وديعةٌ نائمةٌ في الظلْ

تعبُهُ وخوفُهُ

ناما الى جانبهِ عكّازهُ من خشَبٍ ،

تيبّسَ الشرطيُّ ،

عند رأسه!

رشدي الجميلُ اختطفَتُهُ "ساحراتُ سالمٍ"

أبقى قميصاً أبيضاً ، وضيّعَتْهُ الريحُ والظلالْ

ممدّدُ يغفو على فراشِهِ ، نامَ و "أحلام الشتاء"

وحدها تدورُ في الغرفةِ ، نامَ ، بقيَ المصباحُ ،

ما أطفاهُ أحَدْ ،

يحرسُ وجهَ رشدي .

هذا صباحٌ آخَرٌ . يدخلُ في الضجيج ،

يدخل في المطبعة ، المعتَقَلِ ، الحقائق المُرَّةِ والكَذِبْ،

يدخل في الظلام .

يُرى و لا يَرى

منخذلاً ، أضاع بالضِحْكَةِ ما لاحَ على خاطِرِهِ

- "نَهْرٌ بلا إيابْ"

- "كان فتيّاً لفّهُ العُبابْ "

أمُّ عليّ وجهُها يدورُ قُرْصاً أبيضاً

يطوف في حياتها الغائمة الكبيرة:

البابُ للطريقْ

والرجلُ الآتي من المخزن كان طيّباً وناعماً

أمُّ عليّ قالت " الحياةُ خبزَةٌ وبيتْ" .

ذاك الفتى النبيلُ راحَ ، انقطعت أخبارُهُ

أضاعت الظلالُ روحَهُ ، غيّبَهُ المُحالْ

لا أحد يعرفُ بعدُ أيمّا مدينةٍ خفيّةٍ يُريدْ .

تماسَكَتْ

وأفلتَتْ من الصدى

وسكَنَتْ مدينةً

يعرفها التلميذُ في كتابِهِ ، يعرفُها موزّعُ البريدْ .

انتهت القصيدة :

وضّاحُ لا يجري وراء شَمْسْ

وضّاحُ في سريره ينامْ .

تكفيكَ هذي الغرفةُ الصغيره :

هُمْ لهُمُ الشمسُ وأُفقُ الماءْ

هُمْ لهُمُ التذاكِرُ ، العواصِمُ ، الاضواءْ

أنتَ لك العكَازةُ الخشَبْ

تليقُ بالفتى الذهَبْ .

تكفيك هذي الموعظه !

الأسطرُ التي كتبتها

موجوعة ، نامت من التَعَبْ

ونهضَتْ ناحلةً تكاد تستريح عند البابْ

لفَفْتُ بالجريدة

خبزي ، وحينما

وصلتُ بابَ البيتْ

ألقيتُها ، نسيتُ ما كتبتْ .

تكفيك هذي الموعظة !

أمُّ عليّ غادَرَتْ

للجهة الأُخرى ،

الحياةُ غادَرتْ

للجهة الأُخرى

الحياةُ

غادرَتْ !

فهل فهمتَ الموعظة ؟

انتهت القصيده :

رشدي ينامُ في سريره

عكَازه تلامس الوسادة .

انتهت القصيدة

فخلِّني مُتَكِئاً على الجدارِ

أرقب المدى :

تتبعثَرُ أسماؤنا في الرياحِ ، تدورُ بها حولنا

كلُّ شيءٍ هنا

غرفةٌ بابها للحديقة

الضياءُ مضى

والجفافُ أتى الشفتَين

إن رشدي ينامْ

وجهُهُ بين بابين مفتوحَينْ

وجهُهُ بين مسألتَينْ

وجهُهُ شاحِبٌ

وجهُهُ شاحِبٌ

والشموسُ تنام

في مدى روحِهِ واليدَينْ .