مع عبد الكريم قاسم في جولة في بغداد..كيف أختمرت فكرة نصب الحرية والجندي المجهول؟

مع عبد الكريم قاسم في جولة في بغداد..كيف أختمرت فكرة نصب الحرية والجندي المجهول؟

د. احسان شيرزاد
تم اللقاء مع الزعيم في جامع أبي حنيفة، حيث كنت انتظر مجيئه وعند اللقاء به وضحت له ان التصميم الجديد سوف لن يؤثر على التكوين العام للجامع، اكد لي من جانبه وجوب مراعاة عدم تأثر المعالم. وبعد انتهاء هذه المهمة استدعاني إلى مكتبه في وزارة الدفاع وطلب مني ان أرافقه للكشف والاطلاع على سير العمل في المشاريع التي كانت قيد الانشاء ومنها مواقع الجسور الخاصة بقناة الجيش.

كان هذا اللقاء في شهر رمضان أواخر آذار 1959 في يوم ممطر ويبدو ان الزعيم انتبه أخيراً إلى موعد الافطار، حيث أمر بالرجوع إلى وزارة الدفاع للافطار، ومن ثم متابعة الجولة الميدانية كان معنا امين العاصمة ومهندسو الامانة والاوقاف، وقد اندهشت عندما أمر الزعيم ببقائي معه دون الاخرين لمتابعة جولته الليلية المعتادة في بغداد، واشار لي بالجلوس إلى جانبه في السيارة، استغرقت الجولة زهاء تسع ساعات متواصلة ابتدأت في الساعة السابعة لتنتهي في الرابعة فجرا .
وأتذكر انه كان شديد الغضب، عندما رأى منسوب الامطار وهي تغطي بعضا من الجسور تحت الانشاء في قناة الجيش، فأمر مرافقه بالاتصال بأمين العاصمة، وعند مخاطبته لأمين العاصمة استغربت لأنه لم يذكر له ما شهدناه من واقع حال المكان ، قال له روح اكشف مناطق الجسور وقدم تقريرك حول الوضع هذه كانت عبارات الزعيم، واعتقد كان يحاول دوما ابقاء القرار إلى صاحب الرأي والمسؤولية ، وفعلا يبدو ان امين العاصمة ادرك مبتغى المكالمة واتجه ليلا إلى الموقع، وتم سحب الماء ليلا وتجفيف الموقع بالكامل .
في السيارة كان الزعيم يحمل معه راديو ترانستر صغيراً يتنقل بمؤشره بين حين واخر إلى الاذاعات المختلفة ليستمع اليها، ويسألني عن أمور تتعلق بمشاريع الاعمار التي تدخل ضمن اختصاصي الهندسي، خاصة ما يتعلق بانشاء جسور قناة الجيش التي تساعد على تطوير الاتصال، وبأساليب هندسية جديدة حيث كنت المصمم لهذه الجسور عندما عملت مستشاراً فنياً لمديرية الاوقاف العامة، وأنا أجيب عن استفساراته عرض علي فكرته في اسناد منصب وزاري لي، لكني اعتذرت عن قبول ذلك مقدما له تبريراتي ان أكون وكيل وزارة، وليس وزيراً، وذلك ليكون الاشراف على المشاريع بمستوى عال اكثر من تولي المنصب الوزاري.
وفي الصباح صدرت الصحف المحلية وهي تحمل اخبار جولته الليلية تلك، مع الاشارة إلى ان مهندساً مدنياً معروفاً قد رافقه فيها، وكنت المقصود بذلك، ثم عادت الصحف في اليوم التالي لتنشر خبرا مفاده بان المهندس المدني المعروف، الذي سبق ان اشير اليه بأنه رافق عبد الكريم قاسم في جولته الليلية قبل يومين، مرشح لتولى منصب وزير الاسكان، حيث كانت النية متجهة يومها لاستحداث تلك الوزارة .
كان السيد محمد حديد وزير المالية آنذاك قد اقترح على عبد الكريم قاسم ترشيحي لتولي ذلك المنصب، بعد ان عرف برغبته في اسناد المنصب إلى شخصية كردية، وسبق ان عرف بكفاءاتي من خلال زمالتي للمهندس رفعة الجادرجي الذي كان والده كامل الجادرجي رئيسا للحزب الوطني الديمقراطي، وكان السيد حديد احد ابرز قادة الحزب المذكور آنذاك.

نصب الحرية
بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 اختمرت فكرة انشاء نصب الحرية في ساحة التحرير، ليجسد واقع الشعب العراقي قبل الثورة وبعدها، وقد وضع المهندس المعماري رفعة الجادرجي التصاميم المعمارية للنصب، مستلهما الفكرة من اللافتات التي يرفعها المتظاهرون. وضعت التصاميم الانشائية لهذا العمل الضخم، واشرفت على تنفيذه، اما المقاول فكان المهندس حسيب صالح وقد صمم المنحوتات البرونزية ونفذها الفنان جواد سليم .
يعد هذا العمل الضخم من اهم الاعمال في تاريخ النحت العراقي والعربي، ثم تقسيم الجدارية إلى ثلاث اقسام قبل الثورة، يوم الثورة، بعد الثورة، يستحضر العمل امجاد الماضي وحضارته باسلوب معاصر، وتظهر الاهمية الاستثنائية لموقع النصب، حيث تتصدر حديقة الامة. يمتد اللوح المعلق خمسين متراً بارتفاع ثمانية امتار عن مستوى الارض، وتعمل دعامتان كبيرتان، يمينا ويسارا على رفع الجدار المعلق.
وقصة انشاء النصب لاتخلو من المفارقات، اذكر منها انه في المراحل الاخيرة من العمل هبت رياح قوية ادت إلى هدم القالب الخشبي الذي كانت عملية ربطه قد استغرقت شهرا كاملا واتذكر انه في ليلة العاصفة، وعندما كلمني المهندس حسيب صالح هاتفيا، ذهبت مسرعا إلى موقع النصب ليلا، وقد تطلب الموقف مضاعفة الجهود لانشاء قالب خشبي جديد، وتقوية اسس اعمدة الركائز على طول الجسر المعلق، لتأمين تحمل القالب الخشبي للقوى واذكر ايضا انني لم انم في الليلة التي سبقت نهار فك القالب، خشية عدم تحمل النصب لثقله الكبير، والجدير بالذكر ان هذا النصب قد حظى باهتمام الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان حريصا على متابعة العمل شخصيا وفي فترات متعاقبة .

نصب الجندي المجهول 1959
اقترح المهندس المعماري رفعة الجادرجي فكرة انشاء نصب للجندي المجهول حيث لم يكن هناك نصب تذكاري يخلد تضحيات الجندي العراقي. وضعت التصاميم الانشائية لهذا النصب واشرفت على تنفيذه، الذي تألمت كثيرا عندما جرى تهديمه عام 1981 لانشاء نصب جديد في موقع اخر صممه الفنان خالد الرحال، فالى جانب شكل النصب البسيط كان موقع النصب متميزا، حيث كنت أقرأ شكل النصب كبوابة مفتوحة على امتداد شارع السعدون وقد كان المهندس حسيب صالح المقاول الرئيسي والاسطة عبد حسن العزاوي، مقاولا ثانوياً.
كان نشاط العمل في الميدان مستمرا طول الليل من دون انقطاع حتى الفجر احيانا وقد استعمل عقدان طرفيان وانشئ الباقي من المنشأ كبلاطة لتحمل القوى وضغط الريح كما استخدمت في تثبيت الرخام كلابات خاصة لتحمل ثقل القطعة .
افتتح النصب خلال احتفال اقيم في موقعه بالعلوية حضره عبد الكريم قاسم القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء والوزراء، ووفود الدول العربية والاجنبية التي قدمت إلى بغداد للمشاركة في احتفالات 14 تموز 1959 والقى رئيس لجنة احتفالات 14 تموز علي غالب عزيز كلمة بالمناسبة تضمنت الاشادة بجهود المهندسين، ثم قام عبد الكريم قاسم فاقتبس لهباً من الشعلة التي جيئ بها من معسكر المنصور، وأوقد شعلة النصب التذكاري ايذاناً بافتتاحه .

قصة منارة جامع سوق الغزل
أتذكر في عهد الزعيم قاسم عام 1961 انه كلف د. محمد مكية بتصميم جامع يرتبط بمنارة جامع سوق الغزل، الذي تعود عمارته إلى زمن الخليفة العباسي المكتفي بالله، وقد كان مكية مترددا في قبول العرض، بحكم ضيق المكان المحاط بالدكاكين وقلة المبالغ المخصصة، وقد كنت مستشارا لدائرة الاوقاف في حينها، فحاولت اقناعه بقبول العرض لانقاذ الموقع بدلا من تحويله إلى دكاكين وفعلا تم اقناعه، وكتب مكية رسالة باسم الاوقاف إلى الامانة موضوعها منع الامانة من بيع قطع الاراضي المحيطة بالمناورة، وقد حدث بعد ذلك الحصول على موافقة مدير الاوقاف بزيادة المبلغ المخصص للمشروع.
عن: مذكرات الدكتور احسان شيرزاد