سهيل سامي نادر: المثقفون ليسوا جزءا من قاعدة النقاش الاساسية بشأن حالة الوطن

سهيل سامي نادر: المثقفون ليسوا جزءا من قاعدة النقاش الاساسية بشأن حالة الوطن

عبد الجبار العتابي
بغداد: ما زال سهيل سامي نادر، الكاتب والناقد العراقي الكبير، يعيش الغربة،لكنه لايدري ان كان يشكو منها ام من جسده وقد تجاوز السبعين عاما، اطال الله في عمره وعافاه، الا انه يعترف ان الغربة لا تمنح الامل، وما زال يحمل لقب (شيخ اليائسين) لكنه لا ينصح باليأس ولا بالأمل،

بل بالاجتهاد والمعرفة، فهو يرى ان طائر الحرية في العراق حلق وراح يرسم دوائر فوقنا، لكن يشير الى ان طائر الموت كان ينقض ويعيد تشكيل نفوسنا واقلامنا، موضحا ان النخب السياسية العراقية لم تستطع بناء دولة طوال عشر سنوات مرت فكيف يمكن ان يشير ببنان التوقع الى الثقافة.

حيث انه يجد ان المثقفين ليسوا جزءا من قاعدة النقاش الاساسية بشأن حالة الوطن، وان كان يرى ان السياسيين العراقيين ما زال يعالجون بناء الدولة بإخفاق مجلجل لانهم ليسوا مؤهلين لها.

* عشر سنوات مرت من عمر العراق بعد التغيير الكبير، اي تغيير شعرته في ثقافته؟
- حتى بعد عشر سنوات من التغيير لم يستطع النظام السياسي، والنخب السياسية الحالية، بناء دولة، فما الذي نتوقعه عن الثقافة؟
إن هذا يعني أن جميع الانظمة المرتبطة بحياة الناس، كالتعليم، والصحة، والاقتصاد، والخدمات الاخرى من كهرباء وماء، لم تكتمل، وهشة، إن وجود دولة يعني وجود تداول معلوماتي وحتى معرفي ما بين المجتمع والمؤسسات التي تدير العمليات الانتاجية في مختلف الفروع..، إنه العقد الاجتماعي في حالة فعل وتفاعل
إن الحياة الثقافية، هي صورة من صور الانتاج الاجتماعي السياسي .
والاخيرة إما متوقفة او تدور حول نخب سياسية طائفية، او هي سطحية في مجملها، والحال أن السلطة التنفيذية التي كانت فيما مضى ملحقة بالنظام السياسي، والحزب الواحد، بقدر ما هي اليوم بلا انجاز، لم تتحرر من هيمنة النظام السياسي وقرينه المحاصصة، لعل وزارة الثقافة الحالية هي نتاج محاصصة تجمع في حياتها الداخلية كل سيئات المحاصصة على المستوى الثقافي والسياسي، التطور الأسوأ هو أن الحياة المدنية باتت أفقر، ويجري افقارها، وأنا أرى أن هذا الإفقار في الظروف الحالية هو افقار للحياة الاجتماعية التي هي اطارات التجربة الفردية وتحفيزات لها، ويؤثر على أفق الحياة الثقافية ويحد من نموها الانساني الحر،ازاء ذلك عليك الا تنسى أن ما دعوته انت بالتغيير الكبير، لم يبطل حلم عودة آلاف الكفاءات العراقية الى بلدها فقط، بل وانتهى بهجرة أخرى أفرغت البلد مما تبقى من الكفاءات المهنية ايضا.
* ما اللافت للانتباه اكثر في احوال المثقفين العراقيين في السنوات الاخيرة؟
- اللافت هو التقدم الحاصل في كتابات الرأي والمواقف وتنوعها، واشتراك مجاميع من المثقفين خارج الاطار الادبي بها، وقدرتها على اثارة موضوعات مهمة، ووجود عدد من نقاط اللقاء ما بينها، والحال أن الصحافة ظلت كما كانت معينا للجماعات الادبية والثقافية،هذا التقليد واصل العمل مستفيدا من اجواء الحرية النسبية وتنوع مصادر النشر، صحافة، مواقع النشر الالكتروني، مواقع التواصل الاجتماعي. أعتقد أن هذه الكتابات عززت من مكانة النثر العراقي وفتحته اكثر على التجربة الاجتماعية والسياسية .

* هل شعرت،بصراحة، أن المثقف العراقي نزع كل جلابيب العهد الماضي وتوجه للجديد بصدر رحب لاستنشاق هواء نقيا ام ظل في دوامة الماضي؟
- ما الجديد؟ لا شيء مهم. طائر الحرية حلق وراح يرسم دوائر فوقنا، لكن طائر الموت كان ينقض ويعيد تشكيل نفوسنا واقلامنا. هناك حرية.. نعم.. لكنها غير مضمونة، لا سند قانوني لها بعد الان، في حين أن مصادر الخراب والفوضى والاعتداء زادت. إن استبدادية الانظمة القمعية مستمرة في الحاضر متخذة طابعا دينيا وطائفيا. لقد استبدلنا فاشية سافرة بفاشية مستترة، وإمكانية ان تسفر عن وجهها عندما تتقوى متوفرة. يجب الا نجعل المثقف مجرد نازع اردية، أو مطالب أن ينزعها. الثقافة عملية انتاجية كاملة.. هي من تمزق اردية،وتشير الى آفاق اوسع. أنا اتحدث عن بنى، وشروط، وليس افعال بطولية تصدر عن أشخاص واقعيين. المثقفون لا يمتلكون حتى ضمانات العيش الكريم. المثقفون يصنعون ثقافة في شروط معطاة يصارعونها، لكن في بلداننا التي لم تعتد الحرية، تنتصر الشروط ومعها مخالب النظام السياسي. الطوائف والتيارات المتأسلمة هي التي تغطي بلدنا والمنطقة كلها بأردية التاريخ الثقيلة، وهي، على وجه التحديد، تسحب الماضي الى الحاضر وتجعل الناس يضعون قواهم في خدمة الاموات.

* لماذا يتفوق السياسي على المثقف دائما؟
في الشروط العراقية غالبية السياسيين حمقى وفاسدون. كيف يتفوق هؤلاء على المثقفين؟
ــ لقد سبق أن كتبت عن علاقة المثقفين بالسياسيين وأشرت الى إن انجازات السياسة العراقية الحقيقة هي موضع تساؤل وليس انجازات مثقفين لم يتلقوا دعوة ابدا لأية طاولة نقاش جدية تأخذ بآرائهم وحساباتهم. ما زال السياسيون العراقيون يعالجون بناء الدولة بإخفاق مجلجل لانهم ليسوا مؤهلين لها، كما أن هدفهم تمثيل طوائف وقوى محلية وأثنية وليس بناء الدولة الديمقراطية. هناك العشرات من خيرة التقنيين العراقيين، ومن مختلف الاختصاصات، الذين عادوا الى الوطن للاسهام في عملية اعادة البناء اكتشفوا أن الآلية السياسية تعتمد على تمثيل الطوائف، أي أنها مغلقة بوجوه المستقلين والمتحررين والتقنيين الكبار، ومفتوحة للادعياء والكذابين والحمقى وسماسرة المال والسياسة. في العراق ليس المثقفون جزءا من قاعدة النقاش الاساسية بشأن حالة الوطن، فهم لا يستشارون، كما ان السياسيين عندنا يحتاجون الى الإعلاميين (وليس المثقفين ) في ظروف هم يقررونها، هذا إن لم يسهموا بقتلهم. السياسيون ليسوا سياسيين حقا، الكثير منهم دربوا في احزاب غير ديمقراطية، وغالبيتهم جاؤوا الى حقل السياسة مصادفة. السياسة في العراق لا يصنعها المثقف ولا السياسي بالمعنى الفردي، بل تصنعها هيئة اركان الطائفة، تلك التي جعلت من طبيب وزيرا للمالية، ومن اختيار وزيري للدفاع والداخلية عملا يشبه سرا من الاسرار الماسونية.

* لنذهب الى رواية (التل)، ما الذي دعاك الى كتابتها وانت الذي لم نعرفك روائيا، الا تعتقد انك فاجأت الجميع بها؟
- هناك مصادر واقعية شكلت خبرتي في الآثار التي استعدتها في رواية التل، وهي عن تل اثري كما تعلم. في عام 1976 قضيت عشرة أيام بصحبة الآثاريين في الحملة العالمية لإنقاذ آثار حمرين، وهناك تعرفت على نحو تأملي على خط الملامسة الرهيف ما بين أرض وسماء، وعلى خط الحياة الذي يتابع خط المياه، وعلى خط الموت الموازي لهما. إذن التقيت هناك بالعمودي والأفقي، اللقاءات والمصاحبات، المتوقع واللامتوقع. هناك أيضا جدّدت صداقتي بزهير رجب وبرهان شاكر (الذي توفي مؤخرا) الذين عرفتهما من كلية الآداب ثم تسللا الى روايتي باسميهما. ولقد خرجت من هذه التجربة بأربع مواد صحفية تقع بين التحقيق والتأمل، نشر ثلاث منها في جريدة الجمهورية، أما المادة الرابعة فلم تنشر لأنني كنت غادرت العمل الصحفي نقلا بقرار من مجلس قيادة الثورة بعد الهجمة الفاشية على الديمقراطيين.إن مادة روايتي كلها من تلك التجربة. لقد صنعت حفرياتي الخاصة في تل متخيل. بيد أن حفريات اخرى كانت تجري في خط مواز الا وهي حفريات الروح. من جهة وعي بطل الرواية، هي حفريات فاشلة على الجهتين.هناك عشرات الاشارات الى الفشل السياسي العراقي. الرواية تحلل المشروع الصوفي للقرن الرابع الهجري، وترى فيه مشروعا سياسيا فاشلا، بالرغم من شرفه وثروته الروحية والتعبيرية.منذ نحو عشرين عاما صغت فكرة غامضة التقيت بها وأنا أتأمل لوحة لشاكر حسن تمثل شرخاً في جدار، سميتها خط هرب. كان شاكر حسن واحداً من المعلمين الكبار في صدوع القلب والجدران والمعارف المقلوبة على رأسها. في رواية التل تجد خطوط هرب مثل هذه، مع شوق كبير للحرية. هل فاجأت الاخرين؟ سألني صديق لماذا الرواية؟ قلت لانها تعوض عن درس السوسيولوجيا. لكن هذا مجرد كلام. تكتب رواية لتبسط براهينك واشتباكك بالحياة، وليس مهما أن تفاجئ بها الآخرين.
* هل تعتقد أن الفن التشكيلي خلال السنوات الاخيرة تميز على مستوى الاسماء او الاعمال الفنية؟
- الانجازات الكبرى للفن التشكيلي العراقي في الشروط الحالية تجدها في الخارج لا في الداخل للاسف. لكي تقيّم هذه الانجازات تحتاج الى البحث عنها في مدن العالم الذي هاجر اليها العراقيون، وبعضها تحظى بالتقدير من النقاد والمتاحف العالمية.

* قلت ذات مرة انك فقدت الايمان بما كان يسمى بالنقد الفني المنشور في الصحافة.. لماذا؟
- لانه نقد لا يقول أي شيء ذكي. إنه نص يختلط بنصوص اخرى، ادبية، شعرية، مع صياغات لغوية مصدرها التفاهة.

* هل تعتقد أن النقد الفني مات فعلا أم أنه ما عاد مهما لقراءة اللوحة؟
- لم يمت النقد الفني، بل تخلف عن التغير الحاصل في الفن. العمل الفني لم يعد مجرد لوحات في معرض. في كل الاحوال الظواهر الفنية في العالم تختلف تماما عما هو سائد في منطقتنا. إن كلا من الفنانين والنقاد بحاجة الى تجديد تدريبهم.

* الفوضى أو الخراب أو سمه ما شئت الذي حل في العراق، هل تراه انتج طاقات هائلة على مختلف الاصعدة الادبية والثقافية؟
- الخراب لا ينتج عنه غير الخراب. لكن هناك وعيا عظيما ظهر من تجربة الخراب الحاصل في انظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن العنف، والارهاب، والطائفية، والخطابات القاتلة، والوعي الزائف الذي تنشره القوى الطائفية. الخراب هو الخراب. دور المثقف هو معرفة ما جرى ويجري. إنه يقوم بعملية انقاذ الروح، انقاذ الانسان. بيد انه لا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة بطريقة فعالة الا من خلال ملاحقة الانهيارات ووصفها من الداخل. إن المثقف لا ينظف المكان قبل ان يعمل، بل يعمل في المكان المخرب والمقوّض، المنحط، المليء بالفساد والتفاهة. هناك لا تنبعث الروائح القذرة وحدها، بل وأفضل صبوات الروح والارادة والشوق الى عالم عادل. لقد قدر لي ان أقرأ كتابات المبدعين العراقيين الذين ما زالوا في الداخل في سياق الرواية وأدب المحاولات : احمد السعداوي، ومحمد غازي الاخرس، وعبد الكريم العبيدي، وناظم العبيدي، وضياء الخالدي، وآخرين. وفي حقل الشعر كعبد الزهرة زكي، وعلي وجيه، ونصير غدير، وأعترف لك أن كتاباتهم الملهمة، الذكية، المعقدة، المقوضة، التي تخلط المتخيل بالواقعي، تقويني على هذا الزمن السيء وتعلمني. إنها كتابات تستخدم هشيمنا العراقي مع طاقة هائلة من المرح واللعب والتعاطف البشري .

* ما الذي دفعك الى أن تتغرب وتقتلع جذور نفسك من وطن احببته كثيرا؟
- انها نفس الاسباب التي جعلت الالاف من العراقيين يتغربون. هل تريد تفاصيل؟ هذا يعني ان اكتب رواية .!

* ما الذي تشعره الان بعد سنتين من الغربة؟ وهل استطعت أن تتفادى أوجاعها؟
- ليست سنتين بل سبع، فقد غادرت العراق في الشهر الثالث من عام 2006. لقد تجاوزت السبعين ولم أعد اعرف إن كنت أشكو من الغربة أم من جسدي .!

* هل ما زلت تشعر باليأس يا شيخ اليائسين أم ثمة أمل منحته لك الغربة؟
- من يبني املا على البطرياركيات العربية لا يعرف شيئا : هذا ما اتذكر انني قلته مرة. يأسي قديم، لكني لا انصح باليأس ولا بالأمل، بل بالاجتهاد والمعرفة. الغربة لا تمنح الامل. في الغربة انت لا ترى ما تراه بل ما انت تعتاده او انت تصارعه. وقد لا ترى شيئا ابدا .!

* هل ترى أن العراق يستطيع ان يتغلب على اوجاعه وفوضاه وينهض ليواكب الانسانية؟كيف ولماذا؟
- أكذب عليك إذا ما قلت لك أنه يستطيع. وأكذب اكثر إذا ما قلت أنه يستطيع (بشرط أن..) أو اية صيغة أعتقد انها قادرة على خروج وطننا من الوهدة العميقة التي سقط فيها إذا ما اعتمدها. لست بصارا. هل تعرف أن هناك روحا كلبية سائدة تقول أن الدول العربية ليست أفضل من العراق، وبعضها أسوأ. فهل هذا تقدم أم هو المزيد من العار؟;

* بين ليل بغداد وليل كوبنهاكن أين يستريح فؤاد سهيل سامي نادر؟
ــ ليل بغداد كله تهديد وليل كوبنهاجن يدعني أعتقد انني في مكان فضائي، وأنني لست.. لا أدري ما هو.. لست.. إنك لا تعرف ما هو هذا الذي يضعك في حالة نفي أو تبدد أو عدم يقين.. لعله هو نفسه النفي والتبدد وعدم اليقين .!