في ذكرى رحيله..من طرائف الشيخ جلال الحنفي في رحلاته

في ذكرى رحيله..من طرائف الشيخ جلال الحنفي في رحلاته

انوار ناصر حسن
كانت رحلتالشيخ جلال الحنفي الأولى إلى القاهرة في اوائل عام(1939) للألتحاق بالأزهر ولكن في العام نفسه إندلعت الحرب العالمية الثانية ، لذا عطلت الدراسة في سائر الجامعات المصرية ومن جملتها الأزهر فعاد الـحنفي هو ومجموعة من الطلبة إلى العراق في تموز من عام (1940) .

يقول الحنفي في مذكراته " أن البعثة الدينية هذه كانت على نفقة الملك فاروق وكانت الأوقاف تمنحنا شهريا ً ثلاثة دنانير والحكومة المصرية تدفع لنا مثلها كل شهر والواقع أنه راتب ضئيل لا يسمن ولا يغني من جوع ، وكنت أخرج في الصباح أنا وزميل لي فنفطر أفطارا ً بسيطا ً معلقا ً على رغيف عيش وقطعة صغيرة من الجبن الهولندي وكأس من الشاي ثم نتجه مشيا ً إلى كلية الشريعة فنبلغها بعد ما يقرب من ساعة " .
أما عن الدراسة في الأزهر فذكر الحنفي أن العلوم الدينية هنا وهناك أي في العراق واحدة وكانت " تسمى عندنا في العراق ( الجادة ) ولكنه في الأزهر أدق تنظيما ً أو أكثف تعليما ً وأغزر عطاء أو أعلى في خريجيه عددا ً " .
وخلال وجوده القصير في القاهرة زار معالمها التاريخية وفي المقدمة منها منطقة الأهرامات والحارات والمقاهي حيث الأنسان المصري على طبيعته فهل وجد الحنفي أختلافا ً بينه وبين العراقي آنذاك نعم " فطبيعة المصري تختلف عن طبيعة العراقي فــــي شيء وتتشابه في شيء كالذي هو كائن بين البشر من التشابه والأختلاف" .
كما شاهد الحنفي في شوارع القاهرة مشاهد اجـراءت الاحتفال بالمحمل الذي يحمل الكسوة إلى الكعبة ورأى تقاليدا ً واعرافا ً هناك في مثل هذه المناسبة . والمراد بالمحمل هودج أو ما يشبه الهودج تكون فيه الكسوة المحمولة إلى الكعبة . وتابع الحنفي على الرغم من وجوده القصير في القاهرة ، إحتفالات الناس هناك وعاصر أعيادها وطقوسها وكتب فيها فصولا ً في مذكراته ومن هذه الأحتفالات تلك التي تقام في العباسية بذكرى المولد النبوي حيث شاهد الملك فاروق ويسير على جانبه الأيمن الشيخ ( مصطفى المراغي ) وهو شيخ الأزهر في الثلاثينات .
في كراجي أيضا ً زار الحنفي أسواقها وساحاتها التي يعرض فيها الناس بضائعهم وقد وقف على مجموعة من الصور الأجتماعية تشرح حالات الناس بعضها غريب وبعضها يدعو التساؤل لكنها جميعا ً صورٌ تصور مجتمعا ً شرقيا ً كانت مآسي الجوع والخرافة تنهش في الناس ، وتطرق إلى وسائل النقل من جمال وثيران وحمير تسير في الشوارع الرئيسة يُسيرها رجال وأطفال نهكت عظامهم . ولعل من غرائب الأمور في كراجي أنه شاهد بعض الناس على الأرصفة ممن يعمل في حرفة تركيب الأسنان " وكل منهم قد وضع أمامه مجموعة من الاسنان المقلوعة للدعاية إلى حرفته " .
ودخل أحد الأيام إلى ساحة قائمة على أزقة متفرعة لا يدري إلى اين تفضي به واذابه يشاهد " أناسا ً بلحى ملونة يرقصون الأفاعي بالعزف على النايات والتقطت له يوما ً صورة مع بعض هؤلاء الـحواة للذكرى" . وكتب الشيء الكثير عن السحر والخرافات التي كانت منتشرة في مجتمع كراجي مما يعكس صورا ًللحياة الأجتماعية هناك.
وفي العام نفسه أي عام (1956 ) زار الكويت،قبل هدم سورها القديم وفي هذه الزيارة قابل أميرها الـشيخ ( عبد الله سالم الصباح )في مقره بقصر السيف . ونظرا ً لأهتمامه بالقضايا الأجتماعية أبدى رغبته لدائرة الشؤون الأجتماعية في زيارة بعض دور أيتام الاطفال البنات فقيل له لا يمكن بحال من الأحوال لرجل أن يغشى هـذه الملاجئ لأن دخولها محظور على غير النساء فحرم بذلك من هذه المهمة الأجتماعية .
وفي عام ( 1959) عاد الحنفي لزيارة الكويت ثانية ، وجاءت هذه الزيارة بدعوة من دائرة الأوقاف في الكويت حيث كلف بأمامة جامع ( العوضي ) نظرا ً لسفر أمامه إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج . وقد أنجز الحنفي حينها تأليف كتاب ( المعجم للعامية الكويتية ) حيث أمضى ثلاثين يوما ً في جمع مفردات هذا المعجم .
وكان برنامجه اليومي في الكويت يتضمن التجول صباحا ً في الأزقة يبحث عن أسماء ما تقع عليه عينه من الاشياء ، وعند الظهر يتغذى غذاء يسيرا ً ثم يشرب الشاي في ( جايخانة ) عراقية ليعود إلى الفندق ليرتاح وبعد ذلك يغادره لأداء فرائض الصلاة .
وفي عام ( 1960 ) رجع إلى الكويت ليتثبت من ألفاظ أضطرب عليه تفصيل حالها ، كما أنه قام بتسجيل أحداث التغير التي أنتقلت بها هذه الدولة من أحوال البداوة إلى الحضارة . ثم عاد إلـى العراق . وفي عام ( 1964 ) طبع كتابه ( معجم الألفاظ الكويتية ) ببغداد من خمسمائة نسخة فقط .
وكـــان للحنفي رحلات عدة إلى الصين ، فكانت الأولى عام ( 1966 ) وأستمرت أربع سنوات ، والأخرى عام ( 1975 ) واستمرت نحو عامين ، وأخرى ثالثة عام( 1987 ) وكانت هذه الرحلات بتكليف من الحكومة العراقية حيث ذهب في مهمة علمية غرضها تدريس اللغة العربية في معاهد اللغات الأجنبية في كل من بكين وشنغهاي .
في رحلته الأولى التي أستمرت أربع سنوات غادر الصين بعد قيام الثورة الثقافية هناك وخلال وجوده في الصين عكف على دراسة اللغة الصينية وتفهمها عن طريق السماع والأختلاط والدراسة. ووضع نتيجة ذلك قاموس صيني / عربي وهو أول قاموس في هذا الأطار وكانت طريقته في أستخدام هذا القاموس يقوم على مساعدة الناطقين باللغة العربية على نطق المقاطع الصينية مــن خلال حروف تكون مشابهة للأصوات الصينية ، حيث جعل على سبيل المثال أربع نقاط لحرف النون في حالة أشباع هذا الحرف بشكل واسع وثلاث نقاط في حالة أخرى ونقطتين وهكذا جرى العمل على حروف أخرى .
ولكن هذا القاموس لم ير النور حيث تعرضت السفينة التي تقله وتحمل أمتعته إلى الغرق . فضاع مع ما أستجمع لديه من كتب وأوراق ضمت أصولا ً لكتب ومقالات مع ما تراكم لديه من أمتعة ، حيث تسرب اليها الماء في مستودع الباخرة ماحيا ً كل ما كتب فكان ذلك الحادث فاجعة حقيقية لا للشيخ الحنفي وحده وأنما للطلبة الصينيين الذين كانوا ينتظرون طبع ذلك القاموس في صيغته النهائية بعد أن صرف فيه الحنفي قرابة سبع سنوات من البحث والمتابعة والتدقيق وصولا ً إلى وضع المعنى الصحيح . ولم ينقذ من ذلك القاموس سوى شيء يسير وهو موجود حاليا ً في مكتبة بيته الخاصة . واكتفى فيما بعد بوضع نموذج مصغر له لكي يكون دليلا ً للآخرين ولم يتمكن من أعادته لصعوبة الأمر.
وقـــد سرد الحنفي قصة هذا القاموس في مقالة له عنوانها " الخط الصيني ومحاولة كتابته بالخط العربي " إذ ذكر قائلا ً " وقد هممت يوم كنت في الصين أن أقحم الحرف العربي بشكله المعروف في الكتابة الصينية"وأضاف قائلا ً"حيث إشتغلت بهذه المهمة زمنا ً غير قصير راجعت دور مسابك الحروف في بيروت ولبنان لأضع الحروف المتممة في الة الطابعة التي امتلكها.وان تلك المسابك طلبت من المال القدر الكبير الذي لا أملكه".وحتى يحصل على دعم مالي لأتمام مشروعه راجع شركة كولبنكيان " لتساعدني ماليا ً على هذا الجهد فأعتذرت بان ذلك ليس من أختصاصها،وراجعت الدولة العراقية فوعدت بوعود تعد إلى آمال جد بعيدة،وأخيرا ً غرقت الباخرة التي تحمل صناديق المعجم واتلفت مادته المخبوءة فيها وضعفت قوة الأبصار في عيني كذلك فتوقف الأمروالتقطت المسودات من البحر وعـدت بخفي حنين ولرب راج ٍحيل دون رجائه ومؤمل ذهبت به الآمال " .
وعـلـى الرغم من ذلك فقد بقي أسمه يكتسب شهرة بين دارسي العربية من الصينيين ولم يكن يزعجه منهم تحويل ( الحاء ) إلى ( خاء ) عند تلفظ كنيته ( الحنفي ) بل كان يقابل هذه التسمية بأبتسامة كبيرة .
كتب عن بعض مشاهداته في الصين بمقال عنوانه :الأزقة الصينية والهواتف وما إلى ذلك " ذكر فيه " كنت أمشي المسافات الطويلة وأنا أغادر منطقة الأسواق الصينية المعروف بـ (وان فوجين) قاصدا ً إلى السفارة العراقية في أقصى الشارع وقد يستغرق مشيا ً على الأقدام ساعة فلكية ، وفي طريقي أرى أطفالا ً صينيين صغارا ً وصبيانا يلعبون على جانب الطريق والى جنبهم جهاز هاتف معلق بالجدار غير اني لم أجد صبيا ً منهم مد يده إلى ذلك الهاتف ليقلبه أو ليمعن النظر فيه أو ليحاول الأستماع اليه فذاك مما لا يمر ببال أي منهم ولا يعن عليه ، وعندنا في بغداد عندما وزعت دوائر الهاتف أجهزة الهواتف على بعض المراكز هنا وهناك قال لي مسؤول الهاتف أنهم وجدوا حصى وقطعا ًمعدنية في داخل الهواتف ، هذا أمر كان يحز في نفسي أن أرى الأطفال في الصين لا يمس أحدهم جهازا ًيعلم أنه وضع لمصلحة من يمر من هناك فيحتاج اليه فيستعمله من دون سكان ذلك الحي من صبيان ومن كان من نمطهم ان يمد أحدهم يده اليه" .
عن: رسالة (جلال الدين الحنفي وأثره الثقافي في المجتمع العراقي)