تأملات سعدي الحديثي.. عميقة.. ساحرة ومتماسكة

تأملات سعدي الحديثي.. عميقة.. ساحرة ومتماسكة

جاسم المطير
حين انهيت قراءة آخر كتاب، عن قيم غنائية وحقائق موسيقية وحكايات شعبية ، وجدتُ نفسي في أثناء الكتابة عنه، انني امام مهمة شاقة لا يمكن النفاذ الى اصولها او اصالتها إلاّ من خلال النفاذ الى أصول واصالة كاتبها ومدونها . ظهر لي ان مؤلف كتاب (جذور الغناء في الثقافة العراقية) الدكتور سعدي الحديثي لم يقدم معارف دائبة، يقظة، متحركة ، لتحقيق وجود تراث عراقي غني بمجال الموسيقى والغناء، فحسب،

بل انه ابتغى مصارعة قضية من قضايا ( الجذور) بالتعمق في حراثة البيئة والارض والزمان والمكان لاكتشاف جزء من اجزاء الحياة الثقافية العراقية وتفسيرها على وفق وجود الابعاد الثلاثية التالية :
1. الغناء ابجدية فردية ناطقة مع الجماعة الشعبية ولها.
2. الموسيقى حركة مادية روحية تخلق طاقة انسانية.
3. الحكاية الشعبية مهمة زمنية- مكانية لمعالجة نظام حب وعدل وفرح.
هذه الثلاثية كانت منطلق كتابة 150 صفحة بقلم أدبي - علمي قدير لتأدية مواكبة ، عميقة، سلسة، عبر موضوعات متممة لثقافة اجيال متعاقبة قادمة الى ساحة الضرورات الموسيقية والغناء والحكايات الشعبية العراقية بصور عدة ، مدنية وبدوية وريفية. اعترك فيها الباحث عن الواجب الاصيل سعدي الحديثي تناول فيه اغلب القضايا الحيوية حول الوعي العميق بجوهر الاغنية الشعبية العراقية.
ليس مستغربا على سعدي الحديثي قدرته البالغة على متابعة زمنيات الاغنية وانواعها فقد ارهق نفسه، طيلة حياته، بمواكبة تطور اشكالها المتنوعة: ( المقام.. الاوبرا.. اغاني الصحراء ..الجوبي - الدبكة ..غناء الملاحم) كما تعاقبت مواهبه في هذا الكتاب على سرد الكثير من حكايات الحب والعدل الصحراوية – البدوية .
ربما يسأل البعض من قراء الكتاب أو من اجيال الغناء العراقي الجديد : كيف استطاع سعدي الحديثي تنمية معارفه الغنائية بهذا الجانب من الفن العراقي غير المدون..؟ كيف استطاع سعدي الحديثي ان يقوى في البحث بالطاقات البدوية الكامنة ..؟ كيف لبى دعوة التاريخ الى تدوينها قبل ان تندثر.. كيف استطاع هذا الباحث العميق الذكاء أن يتجاوز كل ابعاد الزمن والمسافات ليكون عنصرا من عناصر تدوين بعض اصول الاغنية العراقية..؟
لم يتعالى سعدي الحديثي المقيم في العاصمة البريطانية ولم يتراجع عن المسير في دروب الباطن الثقافي الصحراوي لكشف مداه وتأثيراته على الانسان البدوي والحضري ، معاً، في الزمنين الحاضر والقادم.
لم يكن سعدي الحديثي مدونا نظريا منعزلا، بل هو من نوع الباحثين المضطلعين بهكذا مهمة منذ نعومة اظفاره. خاض معتركاً من نوع فريد مع الحياة الثقافية ، مع الحياة الشعبية بالذات. اوجد لنفسه غاية من غايات الحياة الانسانية ادى فيها معانيها اوفى تأدية . توجه منذ أكثر من نصف قرن الى غايته الغنائية عن طريق التفاعل مع كل مصادر ومعاني الخير الثقافي، متوحدا مع رؤى حقوق الانسان، متقدما بالحب التام للعدالة، متجها ( إلى امام) مرحلة بعد اخرى. لم يشترط على نفسه الصعود (الى فوق) كما يطمح غالبية البحاثة في العادة، بل التوجه بنشاطه وكتاباته ومحاضراته ، دائماً، الى امام . اعتمد على منهج الصدق الماركسي في كشف كل المفارقات الاجتماعية والسياسية التي مرت بالعراق خلال فترة حياته، جعلته مواكبا تطور كل الظروف وتغيراتها من النظام الملكي الى النظام الجمهوري الى النظام الدكتاتوري الى النظام الطائفي، ظل فيها يدرب نفسه ويرتقي بعلومه الى مهارات الرؤية والاستنتاج حول الثقافة الغنائية – الموسيقية باعتباره دارساً وباحثاً وشاهد عيان بالرغم من سيطرة الرعب والخوف وانعدام الامن بكل المراحل التي مر بها الفنانون العراقيون خصوصا والمثقفون عموما.
في بداية حياته ، في تخوم الصحراء من بوابة مدينة صغيرة بغرب البلاد اسمها ( حديثة) ادرك بوعي عال وذكاء فطري مسند بقراءاته وثقافته ومتابعته ، جوهر التناقض التعددي، الذي تقوم عليه تركيبة الفرد العراقي بين الصحراء والناعور المطل على نهر الفرات. ادرك منذ صبابته ان (البدو) بالأساس هم مجموعة من الناس الاقدمين كانوا من زرّاع الارض.. جفت اراضيهم فهاجر قسم منهم الى حيث الاستقرار بجانب مصادر المياه والزرع مما نشأت معه حضارة المدينة. اما الجماعة الاخرى الباقية فقد وجدت نفسها مجبولة على تربية الابل والاغنام والرعي في الصحراء. ترسخت بعينيه وفي ذهنه اول تعددية اجتماعية بين الحضر والبدو، كل له اسلوب معيشته.
حاز على رؤية جديدة حين انتقل من اعالي الفرات الى وسط دجلة لرؤية معنى العيش في مدينة واسعة مثل بغداد يقوم على تعددية من نوع جديد، يقوم على العلاقة بين المالك والمملوك، بين العامل ورب العمل. ازداد وعيا بهذه الحقيقة المجسدة من خلال انتمائه الى الحزب الشيوعي والى التفكير الحر بعد ان اصبح وضعه بالمدينة اكثر تعقيدا .
تعددية الحياة في الصحراء انتجت بعينيه ورسخت بأذنيه العلاقة بين الرجز والحداء ، بين القصيد والاشعار، بين الشعراء والرجّاز، بين العنف والقوة ، بين الهيبة والكبرياء، مما مهد له التفكير بمتابعة كل من اعطى رأيا بالبداوة وفنونها وحكاياتها بدءا من ابن خلدون وليس انتهاء بالدكتور علي الوردي و بروكلمان.
قراءاته الاولى ودراساته الاولى اجلت امام عينيه بوضوح تام ازمة صراع اجتماعي كان واقع الاغنية الشعبية احد وسائل التعبير عنها.
تركزت عنده ارتباطاته الذاتية بــ(الآخر)، بــ(المجموع)، بادئاً بمغامرة الابداع في زمان النظام الثوري الصعب بعد تموز 1958 حين تعيّن معلما بالمدرسة الابتدائية ، متجها الى تعليم تلاميذ الصف الخامس والسادس الابتدائي سيرة الكلمة الانكليزية بطرق مبتكرة نالت رضا واعجاب معلمي المدرسة ومديرها. كان هذا الاعجاب دعوة روحية مباشرة وغير مباشرة، دافعة طاقاته لتطوير لغته الانكليزية مؤهلا نفسه لدراسة الادب الانكليزي اولا والسوفيتي ثانيا والعالمي ثالثا .
لأنه استخدم وسائل النظر الماركسية في التحليل والتركيب بجميع ما يتعلق بالمتضاربات والمتناقضات فأنه نال نصيبه من قهر وعدوان مخططي ومنفذي انقلاب شباط الاسود عام 1963 ليكون احد سجناء نقرة السلمان ، حيث دخل الى عهد جديد من ملء نفسه بثقافة الاغنية البدوية . اصبح سجيناً سياسياً يوالي دراسة اصولها ، من وراء القضبان، متجها الى معرفة موسيقاها وتفاصيلها حتى استقرت ارض السجن وسنواتها تحت قدميه او بدت كأنها مستقرة، لتطويع حنجرته واستكمال وجوده القائم على مقولته : ( أنا اغني إذاً أنا حي).
فترة الغناء في السجن كانت اضافة مهمة لمواهب تفتحت اول مرة في البيت وبعدها في المدرسة الابتدائية والمتوسطة حيث كان يشارك بالاحتفالات والمسرحيات مما زوده بقدرة ضبط الاداء الصوتي واللغوي، كما استطاع من خلال وجوده بمدينة حديثة اداء بعض الايقاعات الموسيقية على الدفوف بالمناسبات الدينية وتعلم من خلالها الفرق بين موسيقى الطريقة الرفاعية والطريقة القادرية . كما ان طلعاته الى البادية المحيطة بمدينة حديثة مكّنته من بلورة ملكته الشعرية والغنائية حتى اصبح قادرا مثل البدو على غناء الطرب السامري مع الربابة بعد أن أكمل ، ذاتياً، دراسة فنون الشعر والغناء الفلكلوري واساليب الاداء الفعلي لقراءة وغناء المادة الشعرية ،خاصة شعر وغناء البوادي والارياف القريبة منها.
كان صوته منذ كان طالبا بالمدرسة ومن ثم مشاركاته في الحفلات العامة خلال المرحلة الاكاديمية قادرا على الخلق وتأدية وجوده بما يتقنه عن حكايات البدو والبادية وطورهما الغنائي . ثم تقدم بالصعود الى اعلى داخل سجن النقرة امام آلاف متعاقبة من السجناء استطاع بها معالجة قضايا الحب والعدل والصراع والنضال، مرة بصوته المنفرد – بلا موسيقى – ومرة بالتنشئة الصوتية الثنائية مع الشاعر السجين مظفر النواب. استطاع هذا الثنائي الشعري – الغنائي ان يؤثر تأثيرا كبيرا على وعي وسيكولوجية السجناء. كما استطاع سعدي الحديثي من التأثير المباشر على وعي وسيكولوجية البدو القاطنين في قضاء السلمان باعتبارهم سجّانة متميزين بالبساطة وعدم معرفة حدود ما لله وحدود ما لقيصر. لكن زمنيات الاغاني البدوية جعلتهم يتطلعون بارتباط تام مع اغنيات وقصيد وازجال السجين السياسي سعدي الحديثي حيث كانوا يتجمعون بربايا السجن وحوله وداخله للاستمتاع بصوته المتدفق بقوة لا يعيق وصوله اليهم أي جدار رغم انعدام وجود مكبر الصوت.
كان واثقا من نفسه ، واثقا من قدرته في التعبير بواسطة الاداء البدوي المنغم حيث تدخل الكلمة الطيبة الى قلوب البدو السلمانيين المتجمعين حول السجن ليدركوا الطرب الحقيقي ومعانيه المتميزة بالصدق والعمق الداخلة مباشرة الى القلوب .
المعنى هنا ان سعدي الحديثي ما زال موصول العطاء سواء كان سجينا في وطنه او باحثا اصيلا يعايش الحرية في غربته، باحثا عن الاصول او محاضرا في جامعة غربية ايطالية او امريكية او شرقية او استاذا بالجامعة الامريكية بالشارقة او كاتبا صحفيا ليبلغ مديات كلمته الحرة الى ابعد الناس المعنيين بالموسيقى والغناء واصول ومعاني الحكايات الشعبية وقد ارتقى تركيز هذه القضية بكتابه الجديد الصادر اخيرا ليبلغ مشارف السمو الثقافي مؤكدا حضوره الفعلي بالثقافة العراقية التي تعاني بيئتها انحدارا مؤسفاً.
تجربة الكتاب الجديد محاولة انقاذ لجانب من جوانب الاغنية العراقية واصول حكاياتها الشعبية كي لا يستمر الدوار في رقاد الواقع الفني الحالي. الكتاب محاولة مضى بها سعدي الحديثي الى مواصلة امس مع اليوم وانقاذ فنون الغناء والحكايات الشعبية من السذاجة او التمزق لتطوير مستقبلها وتمديده .
لغة الكتاب من ذات النوع الذي تميزت به كل محاضرات الدكتور سعدي الحديثي، التي حضرتُ بعضها ببغداد وعمان وبروكسل ولاهاي بما تحمله من عمق مركّز واصوات واشارات شعرية وتعبيرات قصصية باحاديثه عن الغناء والموسيقى، مما يساعد على وصول علمه ومعلوماته الى القراء والمستمعين بسلاسة تامة ومن دون اية صعوبة.
اظن ان اول من يحتاج الى قراءة هذا الكتاب والاستئناس بمضامينه هو الجيل الجديد من المغنين والمطربين والموسيقيين العراقيين ، مثلما يحتاجه الدارسون الباحثون في طبيعة واصول المجتمع العراقي.
ذات يوم من ايام صيف العام 1997 قدم الدكتور سعدي الحديثي محاضرة متميزة في المركز الثقافي الملكي بالعاصمة الاردنية وقد تهيأت لي فرصة تقديمه بتكليف من مدير المركز. قلت بكلام التقديم ان سعدي الحديثي يمثل ائتلاف الاغنية العراقية التراثية وعناصر انتقالها وتطورها وعلوها. ها هو ، اليوم ، بكتابه الجديد يبرهن قدرته الفعلية على ذلك الائتلاف والانطلاق بحركة فكرية غنية المعنى والمبنى.
في الواقع، عاش سعدي الحديثي بعض الوقت من طفولته في قرية ركزت عنده انطباعات الحياة الريفية في أرض عمقها صحراء ، من خلال ، الأغاني، التهويمات، والحكايات الخُرافية والواقعية وقد بقيت في ذاكرته وكانت باستمرار مصدرا للإلهام في كتاباته اللاحقة . كما كانت معطيات حاسمة متطورة خلال دراسته الاكاديمية العليا وخلال تدريسه الطلبة بجامعة لندن والجامعة الامريكية بالشارقة.
أنا واثق بحقيقة جهوده المتواصلة ،التي لا تتوقف في جمود ولا ضلال .. إنه بهذا العمر الطويل يحيا بالعمل الثقافي، لكي يحقق وجوده، كما كان شابا يافعا طالبا من طلاب المعرفة وهو الان يتوخى ان يضع جميع معارفه وتجاربه في الابجدية الفنية والثقافية ، في هذا الكتاب وغيره ، امام عيون وعقول اليافعين من المغامرين العراقيين المحبين للغناء والموسيقى من منطلق جذورهما .
انطباعاته الحميمية خصوصية جدا، إنها نتاج تجربة حسية وعصبية تفاعلية. تجربة الانتقال من مدينة صغيرة ريفية – صحراوية ذكية (حديثة) الى مدينة كبيرة بارزة في التاريخ القديم ( بغداد) ترغب بالتحول الى التكنولوجيا بسرعة ، فيها بعض مظاهر الثقافة الحديثة . في هذا الانتقال انتمى سعدي الحديثي الى حركة اليسار العراقي مشككا بقدرة التحول الاجتماعي على تقويض الثقافة القديمة الناتجة عن العلاقات العشائرية شبه الاقطاعية ، وانغمر في العمل اليومي لضمان هيمنة الثقافة الوطنية – الديمقراطية بتفاعلها الحي المعتمد على ممارسة الحرية كشرط اساسي في العلاقات الاجتماعية والثقافية .. لذا فإن نقل انطباعات سعدي الحديثي إلى خارج تجربته يكون ، في الغالب، أمر بغاية الصعوبة ، لأنها قد تخسر أهم مواصفاتها: الخصوصية وزاوية الرؤية الشخصية. لكنه نجح بكتابه الجديد مثلما نجح بكتاباته ومحاضرات سابقا في نقل تجربته وفائضها بنوع آخر من الخصوصية الساعية لجعلها تجربة حميمية ، موضوعة تحت تصرف الجميع، تحت تصرف الجاهل والمتعلم والمثقف، فقد وجد نفسه دائما في صلب التعددية التي يراها دائما جزءا اساسيا من تكوين الانسان.
افكار الباحث الفنان سعدي الحديثي في كتاب جذور الغناء في الثقافة العراقية ليس مجرد فعل حضور وليس كيانا متجردا ، بل هو خلاصة تاريخية متجسدة بمجتمع سريع الانقلاب والتقلب ، خلاصة تمس قوة وفعل ورهبة الثقافة العراقية لتجديد تراثها من اجل مستقبل فني – ثقافي – عراقي متنوع السبل، متعدد الاتجاه، قادر على المشاركة بمنطق التاريخ العراقي ،كله، في المستقبل الديمقراطي الحر بتكوينه وبنائه .
أبى سعدي الحديثي إلا ان يكون له دور، مهما كان بسيطا ، مخلوقا او خالقا ، للمساهمة في مستقبل الحداثة الغنائية – الموسيقية القائمة على توليد فن جديد من اصول واصالة الفن البدوي والريفي على وفق اشكال تجارب عميقة اوردها بكتابه عن غناء الملاحم والقصيد البدوي .