سعدي الحديثي المسافر بالفرات إلى جنته الأبدية

سعدي الحديثي المسافر بالفرات إلى جنته الأبدية

فاروق يوسف
التقط الإيقاعات كما لو أنه يقبض على جمهرة من الأعشاب التي يصنع تنوعها خريطة لعاطفة شعب. سكب في مياه نهريه دموعه التي تمتزج من خلالها أفراحه وأحزانه. لحظات سعادته وقرون تعاسته وهو في ذلك كان وفيا لانتمائه لشعب لا يجد في البكاء نقيضا للضحك بل مكمّلا له. ضحك ليس كالبكاء، بل صاحبه الوفيّ.

ما فعله وهو يعيد سباكة الأصوات الرعوية والريفية في قوالب تحفظ لها مادتها الأصلية جعله أشبه برواة الشعر العربي القديم وجامعي الأخبار النفيسة والمنقبين في الأمثال عن أصولها الحكائية التي تلحقها بالخرافات المنسية. هو ابن لحظة إشراق لا تتكرر.

الأكاديمي يتبعه صوته الشجي
هو حارس الذاكرة أكثر من كونه باحثا وهو باحث أكاديمي رصين أكثر من كونه مؤديا مفعما بأنغام تكاد تكون هاربة. يمكننا أن نقلب التسلسل، فيكون سعدي الحديثي مطربا من طراز فريد أهّله بحثه الأكاديمي ليكون حارسا للذاكرة، منفيا في متاهتها.
لكن الرجل الذي خبر طرز الغناء العراقي كلها غنى حبّا في الغناء لا رغبة في أن يكون فنانا. صوته المشحون بالتعبير يقول ذلك. لربما حلم يوما ما، كما قال أن يكون نوعا من داخل حسن أو حضيري أبو عزيز، وهما من رواد الغناء الريفي في العراق، غير أنه لم يسع إلى تحقيق ذلك الحلم، بل فعل العكس تماما حين انكب على الدراسة. دراسة الغناء كما لو أنه علم.
أن تكون دارسا للغناء غير أن تكون مشتبكا به عن طريق الفطرة. الحنجرة شيء والأذن شيء آخر. لذلك لم يحاول الحديثي بالرغم من ملكته الصوتية أن يكون الاثنين. كان لديه ما يفعله ليكون رجل القدر الذي سيتصدى وحده للقيام بمهمة، قد لا تنجح مؤسسات ثقافية كبيرة في القيام بها.
كان قدر الحديثي أن يكون راعيا لجمال وزّع ناياته بين ضفتي الفرات، من غرب العراق إلى جنوبه. لقد قضى ابن حديثه الجزء الأكبر من حياته وهو يمشي، تتبعه الأغنيات فيما تنصت أذنه لرفيف أجنحة نغم لا يزال عاكفا على فطرته.
ولهذا كان رائدا لنوع بحثي لا يزال حتى اللحظة يكتنفه الكثير من الغموض.

من تكية جده إلى الأفراح العائلية
ما وثّقه الحديثي، وما سجّله بصوته وما لم يسجّله هو واحدة من أعظم الشهادات على ذلك التنوع الجمالي العجيب الذي تنطوي عليه الشخصية العراقية في لحظات تأملها الداخلي العصيّ على الفهم. هناك شعب استفهامي صنع من الغناء مادة يفسر من خلالها وجوده أمام الطبيعة.ولد سعدي الحديثي في مدينة حديثة، غرب العراق. في عائلة عرفت بزعامتها الدينية وكان لجده خيرالله تكيّة هناك. وهي المكان التي شهد تألقه في مجال الإنشاد الديني منذ أن كان طفلا وكانت شهرته في الأداء الصوتي قد أهّلته لأن يعتلي المسرح أثناء دراسته الابتدائية ليؤدي الأدوار الغنائية وهو ما شجعه على الغناء في الأفراح العائلية.
أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة لندن كانت بعنوان "أغاني الجوبي في أعالي الفرات" عام 1984 قدمته باعتباره منقبا في تاريخ الروح غرب العراق، وكان إخلاص الباحث فيه قد دفعه إلى أن يمد نظره إلى الجنوب ليلتقط تلك الأصوات المنداة بهسيس البردي في أهوار الناصرية والعمارة
وبالرغم من تلك البيئة المحافظة التي نشأ فيها يضاف إلى أن الميل إلى الفكر القومي كان هو السائد في بلدة يجمعها نهر الفرات بسوريا فإن الحديثي انفرد بهوى شيوعي قاده عام 1964 إلى مواجهة عقوبة السجن، في واحد من أسوأ السجون العراقية، نقرة السلمان. ذلك المنفى الصحراوي الذي كان الدخول إليه بمثابة تلويحة وداع للحياة. هناك التقى الشاعر مظفر النواب الذي كان هو الآخر مسجونا للسبب عينه، ليشكلا ثنائيا، أثرى أحدهما الآخر بالأصوات والكلمات والإيقاعات.
عام 1966 وبعد أن غادر السجن بدأ بدراسة اللغة الإنكليزية في كلية الآداب ببغداد وكان أكبر سنّا من زملائه بسبب انقطاعه الاضطراري عن الدراسة. غير أنه كان متفوقا عليهم في تمكّنه اللغوي وهو ما تشهد عليه النصوص التي ترجمها عن الأدب السوفييتي التي نشرها في كتاب، صدر عام 1968.
ولأنه لم يكن سياسيا محترفا، بعكس ما يشيعه البعض عنه فقد أخلص إلى شغفه في تتبع نهر الفرات في مجراه العراقي، لكن من خلال الغناء. فكان أن أضاف إلى معرفته الأصيلة بالغناء البدوي معرفة فريدة من نوعها بالغناء الريفي.وإذا ما كانت أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة لندن “أغاني الجوبي في أعالي الفرات” عام 1984 قد قدمته باعتباره منقّبا في تاريخ الروح غرب العراق فإن إخلاص الباحث فيه دفعه إلى أن يمد نظره إلى الجنوب ليلتقط تلك الأصوات المنداة بهسيس البردي في أهوار الناصرية والعمارة.
سعدي الحديثي يغني. هذه معلومة يمكن التأكد منها بيسر. لم يبخل الرجل بصوته. هناك العشرات من الأغاني العراقية لا يمكن استعادتها إلا من خلال أدائه الممتع. شيء من صوته سيظل راسخا في الأذن العراقية.
لو لم يكن هناك سعدي الحديثي لكنا في حاجة إلى أن نخترع كائنا بجناحين مثله. جناح المعرفة وجناح الموهبة. كان لا بد للقدر أن يجود برجل مثله من أجل أن يحفظ لأمّة، هي على وشك الضياع، غناءها العظيم.

العراقي في كل أحواله
كما أرى، وهي وجهة نظر خاصة يمكن أن تكون محل اختلاف، فإن الحديثي الذي آثر الفن على السياسة، كان قد وضع العراق نصب عينيه. كان شيء من العراق، شيء نفيس في عهدته الشخصية. ولم يكن أمامه سوى أن يكون أمينا في تعامله مع تلك العهدة. لذلك فأن يغنّي المرء شيء، وأن يكون ذلك المرء حامل السر الذي تبوح بين يديه الأغاني بأسرارها هو شيء آخر. كان الحديثي مالك السر. العراقي في كل أحواله الشعورية، معذبا ومـسرورا. مترفا وتعيسا. متأنقا ومشردا. غير أنه في كل الأحوال يظل في حالة يقين من أنـه كان قد رأى كل شـيء.
لم يكن الحديثي يغنّي ليكون مطربا. لم تكن لديه رغبة في أن ينافس المغنيين أو يزيحهم عن مواقعهم. فهو يعرف أن مكانه ليس بينهم. إنه يقيم في مكان آخر. ذلك المكان الذي يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا، لكن من خلال آلة موسيقية تبدو فقيرة في عناصر تكوينها، غير أنها استطاعت أن تختصر كونا من الأسئلة.
لقد فرشت الربابة سجادة أنينها على طرق صحراوية، كانت خيوط الحرير تمد ذرات رملها باللمعان. لم يكن سعدي الحديثي مطربا. هو لا يريد أن يكون ذلك المطرب، غير أن صوته كان أشبه بخيط حرير.
“ما يبقى للعراقيين” ذلك ما أظن أن سعدي الحديثي يفكر فيه اليوم. للرجل حصة كبيرة في ذلك الخزين العاطفي الذي سيحفظ للعراقيين مكانتهم في تاريخ العاطفة البشرية. لقد بذل جهدا استثنائيا في توثيق أغاني شعب، لم يكن يرى في ما يعيشه إلا نوعا من تجليات لحظة الخلق. لذلك لم يكن التواضع من شيمه وهو الذي عبر ببطله جلجامش سياج الحياة بسؤال الخلود.
الأغاني التي وثّقها الحديثي بصوته وكتابته هي مرايا ذلك الصوت الذي اخترق بادية الشام ليصل إلى المتوسط. ومثل الفرات كان الحديثي حشدا من القرى، جمعا من مغنيها. هو فرد قرر في لحظة إلهام غنائي أن يكون الآخر، الذي هو صورة عنه. تقدم محاولة سعدي الحديثي عبقرية العراق في وحدته بطريقة تنسف كل المحاولات التي تسعى إلى تمزيق ذلك البلد الذي كان يستخرج من وتر واحد أصواتا تذكّر بلحظات البركة الأبدية.