أمين معلوف من الذاكرة إلى صراع الهويات

أمين معلوف من الذاكرة إلى صراع الهويات

علي حسين
كان قد نشر خمس روايات وكتاب عن الحروب الصليبية حين جعلته الأوساط الادبية والثقافية الفرنسية عام 1993 ثاني عربي بعد الطاهر بن جلون يفوز باكبر جوائزها الادبية " غونكر " عن روايته " صخرة طانيوس – كان بن جلون قد فاز بالجائزة عام 1987 عن روايته ليلة القدر – .ففي صخرة طانيوس يستعيد الراوي طفولته في جبل لبنان عندما كان يتسلق الصخور مع رفاقه، ويتجنبون صخرة طانيوس خوفاً من لعنتها.

قال معلوف إنه اراد الكتابة عن بلده لبنان في " صخرة طانيوس " ، بعد ان مضى على مغادرته له ما يقارب العشرين عاما – غادر لبنان عام 1975 - فركّز على إنسانية الشخصيات ولا سيما النساء :" اعتقد من رغبتي في كتابة شيء عن لبنان، عن جو لبنان، وهي رغبة تساورني منذ زمن بعيد.
بعد خمسة كتب لم اتعرض في اي منها مباشرة للمسألة اللبنانية، اتصور ان رغبة حارّة تملكتني، في شكل او في آخر. الحقيقة انني ترددت كثيراً قبل ان اختار المرحلة التي سأتحدث عنها، والشخصيات التي ستملأ الرواية. وفي نهاية الامر وجدت نفسي اعود الى مناخ القرية، المناخ الذي حدثت عنه كثيراً، من اشخاص كثيرين. وحسمت أمري اخيراً فاتخذت كنقطة انطلاق، حادثة حقيقية وقعت في محيط عائلتنا " .
راى النقاد ان " صخرة طانيوس " استعادة لحكاية لبنان ، حيث يقدم لنا معلوف باناروما اجتماعية سياسية ، نتعرف على القرية التي يحكمها الشيخ فرنسيس حكما مطلقا ، تبدأ الرواية بوصف دقيق للشيخ فرنسيس، ، حيث يصوره لنا بملامح الأب، الحنون والقاسي في آن واحد ، الذي يستغل رعاياه ويعاملهم كأبنائه ويحميهم، يذلهم وفي نفس الوقت يدافع عن كرامتهم. صورة الاب هذه يقول عنها معلوف انها :" صورة الماضي. وفي هذه النقطة بالذات كان واضحاً همّ الكاتب التعبير عن امر مهم: هم الصورة التي ترتبط بحنينه الى الماضي، الحنين الممتزج ببعض التحفظ ، فانا لدي حنين معين للماضي على علاّته. وربما لو كان عليّ ان اوجز ما يعنيه هذا الشيخ بالنسبة اليّ، سأقول انه يرمز الى علل الماضي" .
يستعير امين معلوف من " اشراقات " الشاعر الفرنسي رامبو الذي شدد على اهمية استعادة الماضي ، أو اللحظات التي نستعيدها خلال حياتنا :" اية سواعد طيبة ، أية ساعة عذبة ستعيد لي هذه المنطقة التي ياتي منها رقادي وادنى حركاتي " .. تبدأ الرواية بوصية الجد للراوي " كل الصخور إلا تلك الصخرة " ،صخرة طانيوس الذي يثير اسمه الفضول ، ولان الجد لم يشأ ان يخبر الصبي – الراوي – بسر طانيوس هذا وصخرته واكتفى بما يعتقد انه يجوز له التصريح به لصبي صغير :" كان طانيوس ابن ليما ، لا بد انك سمعت بها ، لقد حدث ذلك منذ زمن سحيق ، لم نكن قد ولدنا بعد " .
يقول معلوف ان صخرة طانيوس كانت اشارة إلى البطولات الوهمية التي ملأت كتب التاريخ ، ليصل الى نتيجة ان الحرب الاهلية التي عصفت بلبنان من عام 1840 الى 1860 كانت حصيلة انظمة لانزال نتوارثها :" احب أن أغيّر العالم القديم، ولكن، في الوقت نفسه، أشعر بالحاجة الى معرفة مسبقة لما سيحل مكان العالم القديم. ليس من المعقول ان نعذب وندمر ثلاثة او اربعة اجيال، ثم نكتشف في نهاية الامر، ان ما جعلناه محل القديم، لم يكن احسن منه في أي حال من الاحوال. بعد كل ما حدث في لبنان، وبعد كل ما حدث في العالم، صار يخامرني الشعور بأننا ربما كنا دائماً بحاجة الى ازالة العالم القديم، ولكن شرط ان نضع مكانه ما هو افضل، فالمهم ان نتقدم الى الأمام، لا ان نحطم ما هو قائم وحسب" .
ولد امين معلوف في الخامس والعشرين من شباط عام 1949 لعائلة من الشعراء والكتاب ، وسيضع معلوف حدثا مرافقا لولادته في آخر كتبه غرق الحضارات – ترجمته الى العربية نهلة بيضون - :" أبصرت النور بعد أسبوعين تقريبا من اغتيال حسن البنا مؤسّس حركة الإخوان المسلمين، على يد عنصر تابع لأحد أقسام الشرطة " . ورغم أنه ولد في بيروت، إلا أن عائلة والدته كانت تعيش في مصر. فقد تزوج جداه من أمه في مدينة طنطا نهاية الحرب العالمية الأولى . والده رشدي معلوف شاعرا وكاتبا صحفيا ..عاش في القاهرة فترة من الزمن ، يتذكر امين ان والده كان يروي لهم في المساء حكايات من التراث العربي ، ويقرأ لهم في اشعار عمر الخيام الذي سيصبح بعد سنوات البطل الرئيسي في رواية امين معلوف الشهيرة " سمرقند " ..امضى دراسته الابتدائية في بيروت ، اراد الاب لابنه ان يدخل مدرسة انكليزية ، لكن الام اصرت ان يدرس امين في مدرسة فرنسية ، وتركت للاب ان يختار لبناته الثلاثة المدرسة التي يرغب بها ، في البيت هناك مكتبة الوالد التي تضم مئات الكتب من التراث والشعر العربي ، لكنه سيعشق قراءة الادب الكلاسيكي الغربي ، تشارلز ديكنز ، تولستوي ، بلزاك ، فكتور هيجو ، وسيحدثنا في كتابه البدايات الصادر عام 2004 والذي يبدأ فيه باستعراض مشهد وفاة والده وينتهي بإعادة سرد حكاية عائلته ، عن عشق والده للفنون والاداب :" :" أنا محظوظ بأب فنان كان يحدثني على الدوام عن مالارميه، ومايكل انجلو، وعمر الخيام " .
يقرر ان يدرس علم الاجتماع والاقتصاد في جامعة القديس يوسف في بيروت ، هناك ينضم الى الحزب الشيوعي اللبناني ، لكنه سيتركه بعد اقل من عام ، لان طبعه :" لا يمكن أن يتحوّل إلى طبع ناشطٍ أو تابعٍ لعقيدة، فغادر بهدوء، بلا ضجيج، ولا ندم، أو مرارة " ، في بداية السبعينيات ينضم الى اسرة تحرير جريدة النهار ويصبح احد محرريها البارزين ، ينشر فيها تحليلاته السياسية ، وفي أروقة هذه الصحيفة العريقة ، سيتاح للشاب امين معلوف فرصة اللقاء بشخصيات دولية عربية وأوروبية ، العام 1975 تندلع الحرب الاهلية اللبنانية ، وسيجد نفسه يكمل مسرة اجداده ، البحث عن الامان في المنافي ليحط الرحال في باريس نهاية عام 1975 مع زوجته واطفاله الثلاثة ، هناك سيعمل محررا في مجلة اقتصادية .
بعد ثمان سنوات من العمل في الصحافة الفرنسية يقرر امين معلوف ان يقدم للنشر كتابه الاول ، كان قد انجز مخطوطا عن رحلة ابن بطوطة التي سحرته في طفولته عندما كان والدة يقرأها لهم في امسيات بيروت ، وقبل هذا كان قد انجز ما يقارب المئة صفحة من رواية بدأ بكتابتها في بيروت ولم يستطع اكمالها بسبب مشاغله ..سيكون الكتاب الاول عن " الحروب الصليبية كما رآها العرب " - ترجمه الى العربية عفيف دمشقية – لم يثر الكتاب في بداية صدوره الانتباه الى هذا اللبناني الذي يكتب في الصحافة الاقتصادية ، لكن عقله مشغول بما يجري في وطنه والذي يشكل العنصر الأساس في كتاب " الحروب الصليبية كما رآها العرب " ، ذلك أننا نعرف أنه طوال القرون التي تلت الحروب الصليبية، ظلت هذه الحروب تروى الى العالم من وجهة نظر الغرب الأوروبي الذي قام بها، ولهذا كان شاغل معلوف وهمه الاساسي هو تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب اثناء هذه الحرب . يقول معلوف إذا كانت أوروبا قد كتبت كثيراً حول تلك الحروب، علينا بدورنا وبالاستناد الى عدد من كتب المؤرخين المسلمين والعرب الذين تناولوا تلك الحروب .
لم يحصد الكتاب اي نجاح وظلت نسخة مركونة على الارفف ، فمن يقرأ لكاتب عربي حكاية الحروب الصليبية التي صدرت عنها الاف الكتب ..بعد اشهر من صدور " الحرب الصليبية " وما رافق الكتاب من فشل ، سيتذكر مخطوطته الروائية ، وسرعان ما سيكتشف ليون الافريقي :" عثرت على رغبتي الاساسية في كتابة الرواية ، هذه الرغبة القديمة والمكبوتة بداخلي " لم يخبر احد بالآمر حتى زوجته قال لها انه يكتب كتابا تاريخيا عن سقوط غرناطة ، يتذكر انها ابتسمت وهزت يدها ، فلا يزال الكتاب التاريخي الاول مركونا على الرفوف ..لكنه الآن معجب بشخصية حسن بن محمد الوزان ذلك المسافر الذي تنقل بين حضارات الاندلس والمغرب والقسطنطينية والقاهرة وايطاليا في عصر النهضة :" كنت قررت أن اكتب سيرة ذاتية خيالية لرحالة ولد في غرناطة من اصل عربي " .
تدور " ليون الافريقي " – ترجمت الى العربية المرة الاولى من قبل زهير مغامس واصدرتها دار المامون في بغداد ، بعد ذلك صدرت لها ترجمة من قبل عفيف دمشقية - بين اعوام 1483 و 1554 ، وهي السنوات التي عاشها حسن الوزان أو ليون الافريقي وهو صاحب الكتاب الشهير " وصف أفريقيا" . وقد عاش سنوات مغامرات وغربة ، وتسجل الرواية احداثا خاصة وعامة على لسان حسن الوزان الذي يقول :" انا حسن بن الوزان ، جان ليون دي مدسيس ، ختنت على يد حلاق وتعمدت على يد البابا ، يسمونني اليوم بالافريقي . إلا انني لست من افريقيا ، ولا من اوربا ، ولا من حاضرة العرب ، يسمونني كذلك بالغرناطي ، والفارسي ، والزياتي ، ولكنني لم آت من أي بلاد ، ولا أي مدينة او قبيلة ، انا ابن الطريق ، وطني قافلة . وحياتي مسيرة بعيدة عن الواقع " .
هي حكاية ذلك الفتى الذي كان في الثالثة من عمره حين انتهكت مدينته " غرناطة " وسقطت ملغية الوجود الاسلامي العربي في الأندلس، والمكان هو العالم المتحضر آنذاك: هو غرناطة وفاس، تومبوكتو والقاهرة، تلمسان وروما... هو رقعة البحر الابيض المتوسط، ذلك العالم الذي كان تمازج الأحداث وعمق المتغيرات يعصف به، ما كان من شأنه أن يؤهل عقلاً فذاً، يحمل في طيّاته تاريخاً عريقاً، هو عقل حسن الوزان الذي يحمل تاريخه العربي الاسلامي، يؤهله لأن يعيش تغيّرات العالم ويساهم في تلك التغيّرات. يكتب امين معلوف : إن حكاية حسن الوزان، إنما هي مثال حي وحقيقي على أن لنا نحن العرب، انطلاقاً من حضارتنا الاسلامية العريقة، دوراً كبيراً نلعبه في مسيرة الحضارة العالمية ونهضة الفكر والعلوم... ولا بد لنا – وهو ما يفعله الكتاب على أي حال – من أن نذكّر العالم كله بأن الدين الاسلامي والحضارة العربية، هما في الدرجة الأولى عوامل انفتاح واخاء ومحبة... وانه عندما يكون المسلمون مسلمين، والعرب عرباً، يكون من أسهل الأمور على العالم الوصول الى حوار ولقاء حقيقيين معهم" .
عام 1986 سيصدر روايته الثانية سمرقند كان آنذاك يقرأ رواية مرغريت بوسنار " مذكرات أوريان " وسيتوقف عند الجملة التي تقول فيها :" هناك فقط وجه تاريخي واحد يغريني بنفس الالحاح الذي يغريني به وجه أوريان . انه عمر الخيام . الشاعر والفلكي " .، وسيجد امين معلوف في سيرة الخيام ما يصنع منه رواية مثيرة . تدور احداث " سمرقند – ترجمها الى العربية عفيف دمشقية – على لسان شخص امريكي من اصول عربية اختار لنفسه اسماء عديدة لكنه يفضل ان يناديه الآخرون باسم " عمر " أي نفس اسم الخيام ، وهو يندمج داخل الشاعر من خلال عبوره الاثيري عبر التاريخ ، فيتحدث في القسم الاول عن الخيام واسراره ، وفي القسم الثاني يحدثنا عن المخطوط الذي يحتوي ادق اسرار عمر الخيام ، ويعلق معلوف حول مزج الحاضر بالماضي في روايته سمرقند :" لم احاول عمدا ، ان اقحم الحاضر في احداث الماضي .لكنني في روايتي لاحداث الماضي حاولت ان افهم تلك الاحداث من الداخل ، وقد يجد البعض شبه بين احداث الرواية واحداث الحاضر " .
عام 1991 تصدر روايته الثالثة حدائق النور وفيها يقدم لنا صورة للحكيم " ماني ، سليل البابليين الذي سخر حكمته لإرشاد الإنسانية إلى دين الجمال، مستنكفا عن كل ثروة وسلطة. لم يملك " ماني" أكثر من الثوب الذي يرتدي، مميزا نفسه بذلك عن الأتقياء المزيفين بائعي المعتقدات..وقد رفع شعار :" أنتمي إلى جميع الأديان ولا أنتمي إلى أي منها.
من بين الكتب المهمة التي اصدرها امين معلوف كتابه" الهويات القاتلة " ، وهو مجموعة مقالات كان قد نشرها في الصحافة بين عامي 1998-2002 وفي هذا الكتاب يبتعد عن السرد الروائي ، الى المنهج الثقافي في تحليل اجتماعي وتاريخي لمفهوم الهوية ، انطلاقا من ذاته كانسان ، ثم من وطنه لبنان ، ووصولاً إلى بعض الافكار العامة حول مستقبل الهوية في عصر العولمة .حيث جعل من حياته الشخصية انموذجا حيا لمادة تحليلية :" اردت فقط اطلاق بعض الافكار وتقديم شهادة ، واثارة نقاش حول مواضيع طالما شغلتني ، وقد ازداد هذا الاهتمام مع مراقبتي للعالم الساحر والمحير ، حيث قدر لي ان ارى النور " . وفي الكتاب ينطلق معلوف من التاثير السلبي الذي تمارسه هوية الجماعة على الهوية الشخصية . وانطلاقا من هذا المفهوم تجري محاكمته للمفهوم القبلي او العائلي او الطائفي لفكرة الهوية الذي لايزال سائدا وخصوصا في البلدان العربية ، فهو يشجع على تصنيع القتلة والمجرمين لانه مفهوم موروث من نزاعات الماضي :" الهوية المنغلقة على ذاتها وعلى الآخرين تقود الى جنون القتل .. ان ما نسميه جنون القتل هو نزوع امثالنا من بني البشر الى التحول الى قتلة ما ان يشعروا بالتهديد يطال قبيلتهم " .. ولهذا ينحاز معلوف نحو فكرة الهوية المركبة والمتحولة في وجه الهوية المنغلقة والنهائية . ويرى حياة الانسان شبيهة بالطريق الذي يفضي من مكان الى مكان ومن حلم الى حلم .:" ما اقتصر على تسميته هوية هي جملة عناصر ، لا تقتصر على الواردة في السجلات المدنية الرسمية من اسم وشهرة وتاريخ ومكان ولادة ولون البشرة ولون العينين ، بل هي اكثر من ذلك بكثير . بالنسبة للسواد الاعظم من الناس هي في نظرهم الانتماء القبلي والقومي والطائفي والديني والمذهبي ، والقائمة تطول بالسواتر التي يتمرس الناس خلفها في النوائب والصدامات " .
ينتخب أمين معلوف عام 2011، عضواً في الأكاديمية الفرنسية،وهو ايضا العربي الثاني بعد الروائية الجزائرية آسيا جبار ليحتل الكرسي الذي كان يشغله قبله المفكرّ وعالم الأنثروبولوجيا، وأحد مؤسسي البنيوية، كلود ليفي ستروس. وذلك الكرسي في الأكاديمية الفرنسية، يحمل الرقم 29، وشغله قبل أمين معلوف 18 مفكّراً وكاتباً وأديباً فرنسياً منذ " بيير باردان" المتوفي عام 1635، وحتى كلود ليفي ستروس، الذي رحل في 2009.
والشخصيات الثمانية عشر التي احتلّت الكرسي 29 في الأكاديمية الفرنسية، هي التي خصّها العضو الحالي، الذي يحتل ذلك الكرسي: أمين معلوف، بكتابه: " مقعد على ضفاف السين .. أربعة قرون من تاريخ فرنسا,, والذي صدر عام 2017 ، وفي الكتاب يختتم معلوف حكاياته مع سلفه المباشر كلود ليفي ستراوس " ذاك الذي كان يكن محبة للحضارات الهشة" ، ودخل إلى الأكاديمية الفرنسية في عام 1974، مؤكداً في خطابه الأول على قيمة حضارات المنسيين، فيستغرق العشر دقائق الأولى من كلمته في عقد مقارنة بين حفل الأكاديمية الفرنسية، والطقوس التي كان يمارسها الهنود الحمر، ويخلص في نهاية المقارنة إلى أن التشابه بين الطقوس يعلل وجود الحضارات الحالية. من غير المقبول لأي حضارة أن تسحق أخرى، حيث " لا تستحق أي حضارة –أي مجتمع، أية قصة، أية لغة، أي فن– أن تندثر، لا على ضفاف نهر الأمازون، ولا على ضفاف نهر السين " .
وفي نهاية الكتاب، يشير أمين معلوف إلى أن ستراوس ظل يدافع عن نظريته بأنه لا يحق لأي كان أن يعتبر حضارته أرقى من الحضارات الأخرى، وأن الإنسانية ليست في حاجة إلى ثقافة واحدة، بل إلى عدة ثقافات تعكس تنوع الشعوب، وقدرتها على الابتكار.
في كتابه الجديد، الذي اختار له عنوان " غرقُ الحضارات " الصادر عام 2019 - ترجمته الى العربية نهلة بيضون- يحاولُ معلوف إكمال ما بدأه في مشروعه حول "الهويات القاتلة" وفيما بعد في كتابه " اختلال العالم" وفي كتابه الجديد يعود بنا إلى ذاكرته وطفولته، علّه يستطيعُ من خلالها تفسير أسباب سقوط مدنٍ مثل بغداد، وطرابلس، والقاهرة ودمشق وغيرها.
فنحن نتابع حكاية الشاب معلوف، الذي وُلِد في عالمٍ عربي مستقر ، قبل أن تأتي رياح الأيديولوجيا وزعماء الطوائف ا، ولاحقا الثورات المحافظة في ثمانينيات القرن العشرين، لتحوّله إلى عالمٍ ضيق.
قال جيمس جويس إنّ إعادة بناء دبلن اذا دُمرّت يوماً، يمكن ان تتم من خلال الرواية ، وفي غرق الحضارات يحاول امين معلوف اعادة بناء حياته من خلال كتاب اشبه بالرواية ، ولئن أرّخ أولاً حياة عائلته وغربتها في كتابه " البدايات " وتهشم هذه العائلة وحيرتها في " اختلال العالم " فانه ينتقل في " غرق الحضارات " الى ان يقدم لنا بانوراما عما جرى منذ الخمسينيات حتى يومنا هذا من خلال اكتشافه رموزاً جديدة لصراع الحضارات وتقاطعها خلال بحثه عن روح مدينته بيروت . يتابع بحثه في كتابه الأخير ، ويسجّل تراجع الماضي وتحوّل المدينة بأيدي اصحاب الهويات المنغلقة الى مجرد طوائف تبحث كل واحدة منها عن حقها لوحدها في العيش .
امس تم منح امين معلوف ، وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي ، وقد قال تعليقا على تكريمه هذا :" أنّ الجنوح الذي تشهده البشرية في أيامنا الراهنة ان ننتبه الى ازمة الهوية التي نعيشها قبل أن يمرّ الطوفان على مدننا ".