فكرة العراق وانتفاضة تشرين 2019

فكرة العراق وانتفاضة تشرين 2019

 كنعان مكية
سمّى الفنان العراقي أحمد حسين الزعيم لوحته هذه وسماها “اللبوة الجريحة”. وفي حديث جرى بيننا حول العمل، وصفها بأنها”تخطيط على ورق بقلم جاف أسود، إذ أحببت يومها أن أقدّم حداداً بعد أن خجلت من دم شهداء تظاهرات تشرين (أكتوبر) أن أقدّم عملاً ملوناً”.

على السطح، يبدو أن الصورة تعمل على ثلاثة مستويات مختلفة: الشباب الثائر في لحظة تأمل أمام الجدارية؛ ثم العلم العراقي الذي يلفّهم، لا عن وعي بل كأنه جزء لا يتجزأ من لباسهم؛ وأخيراً التكتك؛رمز التواصل والتنظيم في نقل الجرحى والغذاء والشباب المشاركين في الاحتجاجات، إلى ساحة التحرير ومنها. هذا ما يبدو على السطح للوهلة الأولى. لكن العميق كشف لي بعداً آخر للصورة، كون الجدارية التي يتطلّع الشباب إليها هي منحوتة لحيوان جريح من الماضي الآشوري العتيق، قال عنها جواد سليم ذات مرة، عندما كان يدرس في لندن بعد زيارته للجدارية الأصلية الموجودة في قاعة صيد الأسود في المتحف البريطاني: “كان الفن في وادي الرافدين دائماً كشعب هذا الوادي… وكان الفنان دائماً حراً في التعبير عن نفسه، حتى في خضم فن الدولة في آشور، حيث يتكلّم الفنان الحقيقي من خلال درامة الحيوان الجريح”.
القابلية على جمع هذه المستويات الثلاثة وهذا البعد الثقافي التاريخي في صورة واحدة، هو ما ينجح في التعبير عنه أحمد حسين الزعيم؛ أستاذ الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد. ولكني أتساءل مع نفسي وأنا أنظر في الصورة: ما المعنى العميق الباطني الذي تقدّمه لنا لوحة الزعيم؟
أظن أنه إعادة تخيّل،وبالتالي فإنه إعادة خلق لتلك الفكرة التي تكلّمنا عنها في مقالنا السابق: فكرة العراق.
الفنان وَضَع الشباب، ولا بد من أنهم عرب من بغداد أو المحافظات الجنوبية، أمام جدارية آشورية الأصل من نينوى (أي من مدينة الموصل الشمالية، والمُدمّرة حديثاً). هذه الجدارية بالذات تعتبر من أروع المنحوتات في تاريخ الفن، وهي تعود إلى العام ٦٠٠ ق.م. إنها ترجع إذن إلى التاريخ “الجاهلي” الذي تمقته القراءة الإسلامية للتاريخ. لقد وضع الزعيم عمل الفنان الآشوري المجهول الذي نحت هذه اللبوة الجريحة في بوتقة واحدة يلفّها العلم العراقي المختلق في القرن العشرين، وعربة التكتك الهندية، والتي دخلت بغداد في القرن الحادي والعشرين. يا لروعة تواجد كل هذه العناصر المختلفة تحت مظلة اسم “العراق”! هو ذا العراق كما يقول الزعيم، وهو في حالة حداد من جراء الجرائم التي ارتُكبت بحق شبابه، أي بحق مستقبل هذا البلد الذي يحلّ في مخيلة الفنان مكان اللبوة الجريحة.
الزعيم لا يعمل وحده، فهناك أعداد لا تحصى من أمثاله رسموا وصوّروا وأنجزوا لوحات وبوسترات وشعارات وأغاني إما في بيوتهم أو في ساحة التحرير، وغيرها من ساحات العراق، التي مُلئت بأعمالهم الإبداعية قبل أن تبدأ الجماعات المسلحة بتمزيقها وصبغها لإزالتها من الذاكرة العراقية التي تخيفهم. كلها، بشكل أو بآخر، توحي بالفكرة نفسها التي تلخصها كلمة “العراق”.خذ على سبيل المثال، الرسم الكاريكاتوري أدناه الذي استبدل رمز الجيش في جدارية نصب الحرية بالتكتك، وهو لأحد المتظاهرين في ساحة التحرير لا أعرف اسمه، رسمه خلال أحداث تشرين الماضي.
الاسم “عراق” ليس بالجديد، بل إن له تاريخاً عريقاً، إذ كان مستعمَلاً من الجغرافيين العرب منذ العصر العباسي مع اسم آخر هو “أرض السواد”، حسب الدراسة التفصيلية للدكتور عبد العزيز الدوري. المصطلحان؛ أرض السواد والعراق لا يتطابقان جغرافياً، ثم إنهما لا ينطبقان على العراق الحديث. يشير الدوري إلى هذه الاختلافات، والأهم أنه يرصد كل المصادر لبيان أن معنى “أرض السواد” و”العراق” في القرن الرابع الهجري، كان وصفاً جغرافياً بحتاً، يدل على خصوبة التربة في جنوبي العراق آنذاك، ولم يكن له أي معانٍ سياسيةأو ذات علاقة بهوية الانسان في حينها.
من البديهي أن تكون هوية أي إنسان، في كل لحظة من لحظات حياته، مركّبة من طبقات متداخلة من الانتماءات؛ عائلته ومدينته ودينه وطائفته وقبيلته وقومه، وحتى كونه مثلاً يلعب الدومينو في مقهى ما،كل يوم خميس مع المجموعة نفسها من الأصدقاء. من حيث المبدأ، تستطيع هذه الهويات جميعاً أن تتعايش معاً في بوتقة زمنية واحدة، فلا تمحو هوية ما الهويات الأخرى.
في مطلع القرن العشرين، وللمرة الأولى في تاريخ بلاد ما بين النهرين، أضيف إلى انتماءات سكان هذه البقعة الجغرافية، فكرة الولاء إلى كيان سياسي جديد سُمِّيَ العراق، إذ تحول المصطلح الجغرافي البحت، الذي كان قد رُكِن جانباً طوال قرونٍ مضت، إلى اسم لكيان سياسي جديد لا سوابق له، وبذلك يمكن تسميته “هوية مُتخيّلة”، بعبارة بندكت أندرسون؛مؤلف كتاب الجماعات المُتخيّلة:تأملات في أصل القومية وانتشارها.

هذا الكتاب قلب رأساً على عقب كل ما كُتب سابقاً عن أصول الشعور الوطني. حجته الرئيسية هي أن الوطنية، أو الشعور بأن المرء ينتمي إلى كيانٍ ما أكبر من العائلة أو القبيلة أو الطائفة هو ابتكار ثقافي صرف، أي أنه يصدر من الخيال الإنساني ولا يمكن تجذيره موضوعياً أو علمياً بأي شيء خارج تاريخ نمو ذلك الشعور. الوطنية ليست “نهوض” المجتمع أو صحوته لإدراك ذاته الأصيلة المفقودة أو النائمة؛ بل هي اختراع جديد لم يكن له وجود من قبل. وفي هذا تكمن أهميتها وطبيعتها المتحضّرة، والأهم من كل ذلك، جمالها الذي هو ليس شيئاً واحداً ثابتاً لا يقبل التغيير، بل هو حركة ديناميكية مستمرة بين الحاضر والماضي والمستقبل،كما تبيّن لوحة الزعيم.
كلمة ” مُتخيلة” تشير إلى قفزة نوعية في ماهية الذات الإنسانية مقارنة بأسلافنا. المهم هو أن هذه الذات الجديدة تبلورت عبر تغييرات تدريجية تجسّدت في الجهاز العصبي، حسب بعض علماء السياسة والنفس. في حالة “التضامن المُتخيّل” الذي شاهدناه في احتجاجات شباب العراق حديثاً، و”الجماعات المُتخيّلة”، فإن الاتجاه العام لعملية التغيير هو اعتبار الآخر الذي نتخيّل وجوده (لأننا لا نعرفه) مثلنا من حيث استحقاقه للحياة؛ ومن البديهي أن فكرة المساواة لها الجذورنفسها. تاريخياً، وبعد صراعات سياسية عنيفة (كسلسلة الثورات الأوروبية الفاشلة العام ١٨٤٨)،تبلور هذا الرابط الإنساني إلى نوع جديد من العلاقة بين الفرد والسلطة سُمّي “المواطنة”، وقد كانت بحالتها الجنينية في أوروبا في القرن الثامن عشر. قبل ذلك العصر لم تكن هناك “مواطنة” في أي بقعة جغرافية على الكرة الأرضية بالمعنى الحديث للكلمة.
الهوية المُتخيّلة ليست وهماً، بل هي بوتقة من المشاعر المعقدة التي قد تصبح مع الزمن حقيقة سياسية جديدة على أرض الواقع؛ منبعها هو القدرة البايولوجية على التخيّل وتشكيل شبكات من العلاقات تلعب فيها الذكريات والمصالح المشتركة مع الزمن الدور الأهم. معظم الدول حديثة النشأة تشكّلت هكذا، وعلينا أن نضيف إليها هويتنا العراقية التي تعيش وتزدهر أو تفنى وتموت في الخيال؛ هذا الخيال لا ينطلق من أواصر الدم أو الدين أو القوم أو العرق، بل من “جماعة الغرباء” التي هي جوهر معنى المواطنة الحديثة، كما هي مصدر جمالها ومعناها العميق.في ربيع ٢٠١٩ طفت تلك الروح “العراقية” الخالصة فجأة على السطح، على الرغم من سنوات الحروب والقمع وسطوة الجماعات المسلحة الآتية من خارج الحدود العراقية.
القاسم المشترك بين المفاهيم ” المُتخيّلة” أعلاه، إذا تجذّرت حقاً في مجتمعٍ ما، لا بد من أن تكون عملية انفصال الإنسان، سوسيولوجياً وسيكولوجياً، أي في إحساسه بنفسه؛ انفصاله عن جماعته التقليدية “الطبيعية”. إنها بداية منح الاعتبار للفرد بخصوصيته وحميميّته ووحدته، ورفض اختزاله إلى ممثّل لتلك الجماعة البدائية التي تفرّد عنها، والتي كان يواصل الانتماء إليها. وعندما أقول “البدائية” هنا لا أقصد الإهانة بأي شكل من الأشكال، بل أقصد أنواع الجماعات التي ترجع أصولها إلى عصر ما قبل الحداثة. أهم ما في “الجماعات المُتخيّلة” الجديدة أنها ليست متأصّلة في علاقات الدم والقرابة والأحاسيس المباشرة مثل حواس الشم والسمع والبصر، تلك التي تعتمد عليها الحيوانات جميعاً (الذئاب مثلاً تُشكّل “جماعات” صلبة الأواصر استناداً إلى هذه الأحاسيس). هذا لا يعني أن الدول “المُتخيّلة” في عصر الحداثة تخلو من جذور أو هوية صلبة، إذا ما أخذنا في اعتبارنا أن كثيراً من معتقداتنا المهمة، بما فيها الدينية والأخلاقية، والتي تتسم بأنها صلبة وغير مشكوك فيها، تتأسس على قصص أو أساطير؛ بل وأوهام تتغيّر مع الزمن وفي الخيال لتصبح معتقدات، ولا عيب في هذا من حيث أن قابلية التخيل هو جزء مما سمي”الثورة الإدراكية”، التي يُعتقد أنهاالسمة الرئيسية التي ميّزت جنسنا البشريعن عالم الحيوانات التي أتينا منها بالطبع.
إذن، لو كان هذا الكيان السياسي الجديد المُسمى عراقاً،مصطنعاً في بداياته (عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته)، فإنني أشك في أنه استمر على هذه الحال مدة طويلة. العراق اليوم ليس مصطنعاً بالتأكيد؛ إذ إن حامل الجنسية في دولة “العراق” الجديدة، ممن ولد فيه بعد ١٩٢٠، وهو لا يعرف شيئاً عن الحياة في الإمبراطورية العثمانية، قد أصبح يشعر بمرور الوقت أنه جزء لا يتجزأ من هذا الكيان الذي تجذّر في الوعي والخيال، وأصبح جزءاً من تعريف الذات لنفسها. هذا الإنسان صار يتصوّر نفسه “مواطناً” يعيش على بقعة جغرافية غريبة الشكل،يُفترض أن تحكمها دولة “عراقية” جديدة الهيأة أيضاً، لها قوانينها وحدودها الدقيقة المحسوبة حدّ المتر الواحد (وهذه ظاهرة جديدة أيضاً، إذ لم يكن للإمبراطوريات العتيقة حدود دقيقة)، وسوقها مشترك بين العراقيين فحسب، ومنقطع عن باقي دول المنطقة ودويلاتها وطبقاتها الحاكمة (تحوّل فيصل الأول من ملك للعرب في الربع الأول من القرن العشرين إلى ملك للعراق). نتج عن ذلك كله أن أصبح لدولة العراق تاريخها، وإذن واقعها الخاص الذي لا يمتد عمره إلى أكثر من قرن مضى، ولكن هذه المدة طويلة جداً في تاريخ الأفكار وتشكيل الهويات. ولو سألت أحد سكان بلاد ما بين النهرين اليوم عن هويته، لأضاف إلى القائمة سابقة الذكر كلمة “عراقي”، وهي من بين كل الهويات الأخرى “سياسية” خالصة، وليس لها معانٍ أخرى غير سياسية.
هكذا كما أظن، إن كان عن وعي أو لا عن وعي، دخلت فكرة “العراق” في عمل أحمد الزعيم وغيره من فناني التظاهرات الشعبية؛ هم عبروا عن ذاتهم “العراقية” المُشكّلة كما في الوصف أعلاه. وهنا الاختلاف الجوهري بين المتظاهرين والمتظاهرات من جهة، وبين القتلة من الجهة الأخرى، التابعين للنظام الحالي المسيطر على الدولة عبر وصاية إيرانية، وكل هؤلاء في نهاية المطاف في حالة ارتباك وقلق دائم مع هويتهم.
“من أسمائهم تعرفونهم”؛ هذا ما يؤكده القول المأثور.تقرأ أسماء الجماعات المسلحة الموالية لإيران والمسيطرة على نظام الحكم في بغداد كالتالي: “بدر”، “عصائب الحق”، “كتائب حزب الله”،”حركة النجباء” وسواها، وقد شُكّلت عبر ستراتيجية نفّذها حديثاً قاسم سليماني نفسه. أين العراق فيمثل هذه الأسماء؟ أين البعد الجغرافي الذي هو أساسي في تعريف الوطن لمواطنيه؟ إنه غائب تماماً، وأمثال هذه الأسماءالمقرفة غائبة أيضاً في تاريخ العراق الحديث.هل يحتاج الله إلى أحزاب؟ وهل يحتاج إلى “كتائب” عسكرية تابعة لتلك الأحزاب؟
الأسماء مهمة؛ هي أول وأبسط دلالة على معنى الشيء. ومثل هذه الأسماء تدل فوراً على أن أصحابها بحاجة إلى مصدر خارجي يمنحهم شرعية الوجود على أرض العراق؛مصدر بعيد كل البعد عن فكرة العراق التي كتبنا عنها في مقالة سابقة. من هنا يأخذني الفضول مرةً أخرى لأسأل: ما الذي يعطي شخصاً تابعاً لمثل هذه الأسماء الحق في أن يختبئ وراء العلم العراقي عندما يختطف ويقتل شباب العراق،علماً أنه في الوقت نفسه تابع لحرس دولة أخرى، خاضت حرباً شعواء مع العراق؟ أصحاب مثل هذه الأسماء دخلاء على الوطن، كما أن الحرامي دخيل على البيت الذي ينوي سرقته