لنتذكر الفنان الرائد يحيى فائق

لنتذكر الفنان الرائد يحيى فائق

لطيف حسن
ارتبط اسم الرائد المسرحي يحيى فائق بما كان يسمونه ( بالمسرح اليساري) منذ منتصف الثلاثينات ، بالتعاون مع زميله الكاتب المسرحي صفاء مصطفى و هو احد اساتذة معهد الفنون الجميلة الاوائل لاحقا ، الذي اخرج له في فرقته كل اعماله تقريبا ، والذي يعتبر اول من تناول في الكتابة المسرحية في العراق المشاكل الاجتماعيه بواقعية ورصانة ، ومن زاويه طبقية واضحة .

لم يكن يحيى فايق فنانا مجردا محايدا عما يدور حوله في الشارع ، بل كما يصف نفسه في بعض الاوراق التي تركها ، ونشرت نتف منها فيما بعد في الصحف ، عن بداياته مع المسرح اليساري كفعل واعي((.. كنت في مطلع الاربعينات من الشباب الوطني المحب لشعبه والساعي من اجل سعادته ، وكنت انذاك مولعا بالفن المسرحي وملأ حياتي منذ الصغر ، ولم اكن اعرف ان هناك رساله للفنان، ودورا اجتماعيا هائلا، كنت انتمي الى عائلة موسرة ، لم اتخوف من السلطة بل كنت استهزاء بها وبقيود التخلف والعادات القديمة ، وكنت بطبيعتي من الرافضين للاغلال الاجتماعيه ، وعلى ثقه من ان شعبنا سينطلق يوما من سجنه ، ويلحق بركب التقدم والحضاره ، لكني لم اعرف كيف وبأي وسيلة)) .
يواصل يحيى فائق((... في ظهيرة صيفية بينما كنت ذاهبا لزيارة نسيبي الشيوعي في بيته الذي لم يخلو من الضيوف في يوم من الايام ، و بعد ان طرقت الباب فتحها لي رجل وسيم هاديء الملامح ، قال لي ان نسيبي سيعود بعد حوالي ساعة ، وجنابك الاستاذ يحيى فائق ؟.يستطرد يحيى فائق (( وقعت كلماته المهذبة وقعا طيبا في نفسي واجبت بخيلاء ( نعم ) وجلست على كرسي ، وجلس قبالتي على دكة سلم البيت الشرقي القديم بدشداشته النظيفة ، واخذ يسألني عن المسرح ويصف لي كيفية تفاعل وحماس الجمهور لمسرحياتي الناقدة ،التي منعت بعد ذلك ، والتي شغلت المجتمع البغدادي رغم قصرها وقلتها ، وابدى ملاحظات هامة جذبت انتباهي الى انه متابع ومطلع ، ثم بدأت اوضح له واجيب على بعض تساؤلاته بجدية ، ثم ابدى ملاحظات بدت لي انه قد قد قرا المسرحية وكشف لي عن الدور الخطير للمسرح في ايصال الفكر الانساني للجماهير الامية.اضافة الى دوره التحريضي التي تهابه السلطات الظالمة ، لذا تحاربه وتتهمه بالخروج عن العادات والتقاليد والاخلاق والدين في الوقت الذي تدعم فيه المسرح الهابط الذي يلهي الناس عن مشاكلهم الحقيقية ، ولاول مره اسمع منه مقولة لينين ( اعطني خبزا ومسرحا اعطيك شعبا واعيا ) ثم اضاف ان اردت ان تكون فنان الشعب لايجب عليك ان تكتفي بكشف المظالم والحقائق على المسرح فحسب ، وانما تسعى لتدل على طريق الحل .
ويستطرد يحيى فائق في ذكرياته عن هذا اللقاء الذي فتح عينيه على اشياء لم يكن يعرفها في جوهر ودور المسرح واصبحت فيما بعد دليله في العمل في الفرقة ((...كان حديثي مع هذا الرجل الغريب قصيرا ، وكانت هي المره الاولى والاخيرة التي التقيه فيه بشكل مباشر وعرفت انه فهد بعد ان أستشهد في1949 عام ) لكنه في هذا اللقاء القصير اجاب على جوهر تساؤلاتي وحيرتي دون ان اطرحها عليه ، وخرجت وانا غارق ومنشغل فيما اثاره من مواضيع ... ان اكون فنان الشعب انا يحيى فائق ببدلتي السموكن البيضاء والورده الحمراء ان اكون فنان الحفاة؟...))
لم يلتق يحيى فائق بفهد مباشرة بعد ذلك ، لكن علاقته بحسين محمد الشبيبي ومحمد حسين ابو العيس المحامي توطدت بعد تأسيسهما حزب ( التحرر الوطني) واصبحت فرقة يحيى فايق(الفرقة العربية للتمثيل) منبرا ثقافيا لهذا الحزب ‘ الذي كان كما هو معروف الواجهة العلنية للحزب الشيوعي ، مع عصبة مكافحة الصهيونية ، التي كانت لها ايضا نشاطات ثقافية و مسرحية خلال فترة عمرها القصير .
ولد يحيى فائق عام 1913 ، أي ( بعمر حقي الشبلي) ،من عائلة غنية ، ارادت له ان يكون طبيبا لتضمن له وضعا اجتماعيا مرموقا ، ومستقبلا مضمونا ، لكنه خذلهم وترك الدراسة ، واتجه الى المسرح الذي كان منغمسا فيه منذ نعومة اظفاره ، فقد ولع بالخطابة والتمثيل الذي كان يأخذ كل وقته ، وشارك في المسرح المدرسي بالادوار الرئيسية في مرحلة المتوسطة والثانوية ، وساهم اولا في تأسيس (الفرقة التمثيلية الوطنية) 1926 التي ترأسها حقي الشبلي ، الا انه تركها ليؤسس بعد فترة وجيزه فرقته الخاصة ( الفرقه العربيه للتمثيل ) مثل البطوله واخرج مسرحيتها الاولى ( البطل ) عام 1928 لمؤلفها مجيد البشري ، وقدمت المسرحية في ( قاعة سينما سنترال) ، وكانت هذه الفرقة تضم في بداياتها في العشرينات عزيز علي ، وفاضل عباس بهرام ، وناظم عبدالجليل الزهاوي ، وعبد الرزاق عبدالرحمن ، واحمد يحيى ، والحاج محمد ، وناجي ابراهيم ، واحمد حمدي وغيرهم.
في منتصف الثلاثينات ، بعد سفر حقي الشبلي الى باريس وغيابه توقفت عن العمل و تشظت فرقته ( الفرقة التمثيلية الوطنية ) الى عدد من الفرق المسرحية ، فكانت فرقة عبدالله العزاوي ( جمعية انصار التمثيل ) وفرقة محمود شوكت (فرقة المعهد الوطني) ، بالاضافة لفرقة يحيى فائق التي كانت قائمه قبل تشظي فرقة الشبلي (الفرقة التمثيلية العربية ) .وازدهرت على يد هذه الفرق الثلاث ، اضافة الى النشاطات الفنية الكثيرة للجمعيات والنوادي والمدارس ، الحركة المسرحية في العراق ، بدءا من منتصف الثلاثينات وحتى قيام الحرب العالمية الثانية .، وسميت هذه الفتره في تاريخ المسرح العراقي ، بعصر مسرح الثلاثينات الذهبي .
اشهر اعمال فرقته مسرحية ( هذا مجرمكم)1946 تأليف صفاء مصطفى ، وكان قد سبق وان اخرجها في عام 1938 في لواء العمارة ، وفي نفس العام 1938 ولنفس المؤلف اخرج مسرحية ( كاترين ) ثم قدم عمله الشهير (ثورة بيدبا) لرئيف خوري على مسرح بني خصيصا للمسرحية في بداية الاربعبنات .
يصف عزيز حداد مشاركته لعمل من اعمال يحيى فائق (عنتره) تأليف الياس ابو شبكه عام 1957 عرضت على قاعة الملك فيصل ، نوردها هنا كنموذج لما كان يجري في ما سمي بالمسرح اليساري .
يقول (( ... كان الجو في خارج المسرح مدلهما وماطرا ذلك اليوم ، بينما كانت القاعة لاتسلم للفرقة المستأجره الا في يوم العرض ، ولذلك كان الممثلون واصدقائهم يقومون منذ الصباح باعداد الديكورات والتدريب على حلبة المسرح وذلك لتدقيق حركات الممثلين وضبطها ووضع الانارة، واجراء ان تبقى وقت كاف بروفه ما قبل العرض ، وكان يحيى فايق لولبا متحركا في كل اتجاه و جانب ، يساعد في صتع الديكورات والكواليس ، وصبغ الستارة الخلفية ، ونقل كل ذلك الى خشبة المسرح ، وتثبيتها بالمسامير، والمساهمة في تعليق الستاره الخلفية للمنظر ، وكنا نحن الاصدقاء نساعد ه كل بما يستطيع انجازه ، ولما حان وقت العرض ، كان الجمهور الوطني والتقدمي هو الغالب في القاعة التي امتلات الى اخرها، وكانت المطارق لاتزال تسمع دقاتها لتثبيت اخر قطع الديكور ، وكان يحيى فائق منتعلا جزمة مطاطية واقية من الامطار والاوحال يتحرك بلا انقطاع فيما بين خلف خشبة المسرح والباحة المكشوفة الخلفية المطلة على حدائق القاعه للتأكد من توقف المطر ، ومن الطريف هو ان العرض كان برعاية خليل كنه وزير المعارف انذاك ، وهو المعروف بتأييده المطلق لسياسة نوري السعيد واخلاصه للحكم الملكي المتمثل بولي العهد، وبعد ان حضر وجلس في المقصورة الملكية ، بدأ يحيى فايق بأرتداء ملابس عنترة ووضع الماكياج، وبعد ان انتهى دق على خشبة المسرح ثلاث دقات وخفتت الاضواء في القاعة ، اهتزت الستاره قليلا وتحرك احد طرفيها دون ان تنفتح ، ثم اطل من الستارة يحيى فائق وتقدم الى مقدمة المسرح بملابس عنتره لكنه نسي استبدال جزمته المطاطية ، ليلقي كلمة المخرج ورئيس الفرقه الترحيبية، وتحيه للجمهور وفقا للعادة المتبعة آنذاك، هنا حدث ما لم يكن في الحسبان او يدور على الاقل بخلد حليل كنه وحاشيته المرافقة ، بعضهم رجال شرطه بزيهم الرسمي ، واخرين من التحقيقات الجنائيه مبثوثين في كل مكان من القاعة بين الجمهور ، بداء يحيى فائق كلمته الترحيبية ، وعندما انتهى منها انهال فجأة بالهجوم الخشن والمباشر على سياسة النظام الحاكم وحلف بغداد ، وضجت القاعة بالتصفيق والهياج والهتافات الوطنية ، كتم خليل كنه غضبه على مضض ، و تحمل الصفعة السياسيه المباغتة ، ثم فتحت الستارة بسرعة بعد ان انتهى يحيى من كلمته وبدأ العرض بدون توقف ، الكل توقع ان الشرطة ستوقف العرض وتمنعه ، الا ان هذا لم يحدث ، وشوهد خليل كنه وهو يترك القاعة في الظلام اثناء العرض مع بعض جلاوزته، واستمرت المسرحيه بلا ازعاج .
عن: كتاب (فصول من تاريخ المسرح العراقي) المنشور بحلقات