فكرة العراق وانتفاضة تشرين 2019

فكرة العراق وانتفاضة تشرين 2019

 كنعان مكية
في العام ١٨٣٦، ألقى الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن خطاباً سأل فيه الجمهور: “متى علينا أن نتوقّع لحظة الخطر؟ وكيف نحصّن أنفسنا منها”؟ وأجاب: “عندما تنبع من بين صفوفنا… لا يأتي الخطر الحقيقي من الخارج، وإذا كان الدمار مصيرنا، فلنعترف أننا كنا مؤلفي قصته، بما في ذلك نهايتها المأساوية التي اختلقناها بأنفسنا”.

الرئيس الذي اغتيل غدراً بسبب صراعه المستميت مع لعنة العبودية في القارة الأميركية، أنهى خطابه بالقول: “أما أن نعيش أحراراً إلى الأبد، أو أن نموت منتحرين”.
العراق اليوم يعيش لحظته الانتحارية. نعم، اغتيل أبراهام لنكولن في الماضي، وبالمثل تقوم الجماعات المسلحة اليوم بقتل وخطف وقنص شباب وشابات المستقبل العراقي. على الرغم من ذلك، عاش اسم أبراهام لنكولن حتف أنف قاتليه، وذلك عندما أصبح ميراثه هو إنقاذ الشعب الأميركي وهو جنين، من كابوسه الأكبر منذ النشأة؛ العبودية.
ما هي الطائفية العراقية إنْ لم تكن صنفاً خاصاً بالعراق، من تلك العبودية نفسها؟
بعكس الطائفية، توحي فكرة العراق بجمع الشمل لا التقسيم. جمع الشمل هو مصدر قوة هذه الفكرة وإنسانيتها وجمالها، ما دامت تستطيع العيش من دون انتحار، حباً بالحياة، وهي تتجسد وتنبع من حكومة يمتلكها الشعب بالفعل لا بالاسم فحسب.
في أجَلّ وأسمى معاني فكرة العراق، يكمن ما يمكن أن نسميه نوعاً خاصاً من الحب: حب الآخر الذي يختلف عنك تماماً، ولكنه على الرغم من ذلك، منك واليك، بل أنت بحاجة ماسة إليه، بالمقدار نفسه الذي يحتاج هو إليك. بإشعال فتيل مثل هذا الحب، تتحول الجماعة التي تسعى من أجله، أي شباب وشابات العراق الثائر على جيلي؛ وهو الجيل المسؤول عن طائفية الدولة العراقية اليوم، إلى جزء لا يتجزأ مما يمكن أن نسميه وجداناً أو روحاً واحدة. هذا هو قصد الحديث المنسوب إلى النبي محمد “حب الوطن من الإيمان”.
حركات جمع الشمل التي نراها في ساحات العراق وشوارعه منذ تشرين الأول الماضي، قد تتبرّك بمثل هذه الروح؛ بهذا النوع من الحب. والدليل على ذلك هو ما شاهدتُه وشاهده العالم برمته، عندما كانت حشود الشباب والشابات تلف وتدور حول الساحات والشوارع والمدن، وذلك باسم العراق.
في الأزمنة العصيبة والحالكة، كتلك التي يعيشها عراق اليوم، ينبغي لـ “حب الوطن” ألا يُعامل بوصفه أمراً مسلّماً به. فكما يُخلق ويعيش، يمكن أن يُدمّر. والأرجح، كما أشار لينكولن في خطابه، أن تأتي قوى الدمار من الداخل لا الخارج. وكي ينجح التخريب، يجب أن يستهدف أواصر هذا “الحب”، تلك التي استمرت بالتطور عبر أجيال مضت. هذه الأواصر الجديدة نسبياً في دول المشرق العربي، أي أواصر المواطنة العراقية الحديثة، هي معقل الدفاع عن حقوقنا الإنسانية الفردية الأخرى، وعلى رأسها الحق في ألّا تُمس أجسادنا ويلحق بها الأذى المُبرّح، كما تفعل الجماعات المسلحة الموالية للفكر الطائفي بشباب العراق وشاباته اليوم. لنتذكر أن كثيراً من الجمهوريات الاستبدادية لديها دساتير تحوي إشارات إلى “حقوق الإنسان”. المشكلة لا تكمن في الدساتير والقوانين، بقدر ما تكمن في الأرضية الأخلاقية ومجموعة القيم والمفاهيم التي تؤسس للمواطنة الحديثة، وكل هذا لا يأتي من فوق كمنحة من السلطة، بل من تحت عبر المطالب التي توجَّه للسلطة والنخبة السياسية برمتها. لذلك نحن في حاجة ماسة إلى الدفاع عن أواصر المواطنة الناشئة والمتجسدة في “دولتنا” نحن، لا “دولتهم”؛ دولة الجماعات المسلحة الموالية لإيران وليس للعراق، لأن البديل هو الهمجية والتخلّف المرعب لأجيال.
حب الوطن، بمعنى الولاء لمكان معين ومحدّد للغاية، ومرتبط بنوع من الشعور بالحنين لنمط حياة حدث في ذلك المكان، فيه شيء جيد ومريح للنفس؛ شيء شخصي وفردي ومن المحرج أن نتحدث عنه أكثر. الحسّ الوطني إذن لا يمكن أن يُنسى بسهولة، والمرء يعدّه غالباً أفضل ما في العالم بعد عائلته، لكنه يجد في الوقت نفسه مشقّة في التعبير عنه. ثم إن هذا الشعور ذو خصوصية شديدة، وليس للمرء أدنى رغبة في أن يفرضه على سائر الناس. من هنا، فإن الحس الوطني الحقيقي لا بد من أن يكون أمراً شخصياً ودفاعياً بالطبع، لا يمتّ بصلة إلى التوسع العسكري أو اندحار خصوصية الآخر.
كارثة النظام الذي تأسس بعد السقوط، ولاسيما في حكومتي نوري المالكي وعادل عبد المهدي السابقتين، تكمن في أنهما لم يؤمنا لحظة واحدة (حتى بطريق الخطأ) بذلك الكيان الماثل في الروح الذي أسميته “العراق”. المالكي لا يؤمن بشيء عدا السلطة، وهي سلطته هو نفسه بالطبع. أما عبد المهدي فهو يؤمن بالإسلام السياسي، وبمثال الثورة الإيرانية بوصفها طليعة ثورة “الشيعة” العالمية كما يزعم؛ الاثنان لعبا دوراً رئيساً في بناء الدولة الطائفية العراقية المؤسَّسة على الكراهية لا على الحب. مقابل أمثال هؤلاء، تقف حشود شباب المستقبل، لتتجسد فيهم تلك الروح الجامعة والشاملة للجميع، من أجل هذا الوطن الجريح.
نعم، العراق يعيش اليوم لحظته الانتحارية. كُتُب التاريخ ستسجل أن هذه اللحظة رسمت خطاً أحمر مداده دماء شباب العراق؛ خطاً يفصل الفكر الطائفي عن فكرة العراق التي مات من أجلها شباب وشابات لا يعرفون غير ذلك الوطن الذي سلب مستقبله منهم غدراً. عندما أفكر في تضحياتهم، يأخذني هيجان المشاعر إلى أن أتذكر رمز الحرية العظيم في ساحة التحرير ببغداد، وهم يدورون حوله.
ما أروع المشهد! أراد جواد سليم أن يكتب قصة الحرية في العراق، ولكنها لم تتحقق كما تخيّلها الفنان بعد ثورة ١٤ تموز، كما لم تتحقق في حكم البعث، بل ذابت حتى آخر ذرة فيها. على الرغم من ذلك، بقي ذلك الشيء الذي اسمه العراق، ولو بشكل مشوّه، إلى أن جاء السقوط في ٢٠٠٣. من هنا انطلقت قوى الدمار بقيادة النخبة الحاكمة الشيعية الجديدة لتهجم على فكرة العراق. وانفجر غضب الشباب الشيعي العراقي العفوي عليهم، ليرسم ذلك الخط الفاصل بين فكرة العراق وبين نظام طائفي مفلس تابع للحرس الثوري الإيراني.
هؤلاء الأبطال قد يفشلون، وقد ينتصرون على المدى البعيد، كما انتصر لينكولن. الفاجعة تكمن في أن أعداد الضحايا في صفوفهم ستزداد. هم ليسوا انتحاريين، بل هم يموتون كي تعيش فكرة العراق، التي من دونها ستصبح الحياة برمتها “مقرفة ومتوحشة وقصيرة” على حد تعبير المفكر الإنكليزي توماس هوبز (١٥٨٨ – ١٦٧٩) .