أول شهداء ليلة النجف الدامية..مهند القيسي.. سيف جامح أبى أن يغادر غمده إلا حراً

أول شهداء ليلة النجف الدامية..مهند القيسي.. سيف جامح أبى أن يغادر غمده إلا حراً

 ماس القيسي
"لن نحيا والمذلة جاثمة فوق صدورنا"، عبارة نطقها مهند فكان سيفا حادا، قاتل بصمت انيق لائق بثورة بيضاء تماثل نقاءه. فإما ان يكون او لا يكون، ها قد جثمت حتى تجرأت انيابها على خدش نجوم بالكاد أشرفت على اللمعان فسرقت منا الاجمل، الانقى، والاعظم، هكذا هي الحرية رفيعة الذائقة تدرك كيف تنتقي ضريبة توهجها.

مهند وميض قيس القيسي، من مواليد عام 1998، يسكن في قرية الغدير من محافظة النجف الاشرف، ينتمي لأسرة ميسورة الحال، وحيد لأربع اخوات، يعمل والداه في السلك التربوي، والده أستاذ يعلم اللغة الإنكليزية، ووالدته تعمل مديرة مدرسة. أكمل مهند دراسته الثانوية في مدرسة الامام علي، والتحق بكلية اللغات والترجمة قسم اللغة الإنكليزية، بلغ المرحلة الثانية في جامعة الكوفة، من هواياته؛ التصوير والمونتاج، هادئ متزن ومسالم جدا، مفعم بعمق الانتماء للهوية الوطنية وفكر داعم لحريات الشعوب، ذو عقل راجح يسبق اقرانه من أبناء جيله، يمتاز بشخصية طموحة وواقعية، انيس المعشر ومقرب من اصدقائه. كان لمهند دور رائد في ثورة تشرين قبيل اندلاعها في ساحات الوطن، من خلال مشاركته في تظاهرات ساحة الصدرين في النجف، وبهذا يخبرنا حيدر اركان (قريبه) قائلا: "ابن خالتي لم يكن بحاجة لأي مطلب، لا ينقصه شيء في حياته، لكن نخوته هي التي دفعته لذلك شارك بالتظاهرات من اول أيام الثورة ولم ينقطع عن الساحة الا قليلا لظروف طارئة، ولم يكتف بالتظاهر كطالب فحسب وانما كان من ضمن الثوار المرابطين على الخط الأول دوما"، وعن واقعة استشهاده في ليلة الهجوم الشنيعة على ساحة الصدرين يوم الخامس من شباط، يعقب حيدر بقوله: "لقد كان مهند في تلك اللية الدامية، التي تعرض فيها المتظاهرون في ساحة الصدرين الى قمع شرس من قبل عناصر مسلحة، متواجدا بينهم ولسوء حظه أصيب بطلق ناري في منطقة الصدر تحديدا في كتفه الايسر، سقط على الفور وفارق الحياة اثناء نقله الى مشفى الصدر بتاريخ 5/2/2020".
في موقف أليم تنعي والدة مهند الشجاعة فقيدها، من فارقت وليدها الوحيد بكل رباطة جأش وعنفوان أم لا يتمنى مرء ان يحل محلها، اذ ودعت ابنها وهي تحتضن تابوته اثناء تشييعه، تناجيه بقولها: "ابني (وليدي) مهند، ربيتك على ايدي، على الشرف والأخلاق العالية، يمة ما خذلتني". وتنادي بأعلى صوتها "مهند ما مات، ابني شهيد حي يرزق، ورحيطلع وراه ألف مهند"، موصية رفاقه وهي تسير بجوارهم في جنازته، ان يواصلوا المسير والحراك الثوري من اجل العراق كما فعل وحيدها الذي استشهد في سبيل اعلاء كلمة الحق.
وقد شيع مهند ثائرنا الشجاع في مسيرة حاشدة بحضور والديه بتاريخ التاسع من شباط، اجتمع فيها طلاب الجامعات وعوائل الشهداء من امام جامعة الكوفة التي ودعت تلميذها النجيب، فكان عرسا جماعيا يزف شابا نبيلا الى مثواه الأخير حيث يرقد بسلام بعيدا عن جبروت متعطشي الدماء ممن سينالون جزاءهم يوما.
‏يقول مهند في صفحته الشخصية: "أنت مولود بنوعين من الخوف، فقط الخوف من السقوط والخوف من الضوضاء، وكل مخاوفك الأخرى مكتسبة، تخلّص منها"، هكذا تخلّص مهند من مخاوف السقوط في مستنقع الأنا! وضوضاء قبح الانسان!، حتى أيقن ان تلك المخاوف التي ولد عليها هي الأخرى لا قيمة لها، حين وهب ذاته للعلياء والسمو حيث لا خوف ولا خطيئة يمكن ان تغبّر نقاءها، ولانهاية من زهور شمس طوقت رحلة حياته، فاح عبيرها عبر بقاع ارض الرافدين إشارة لسماء وطن كي تستقبل روحا ندية.