في ذكرى رحيله سنة 2007..شذرات غير مؤرخة من حياة جودت التميمي

في ذكرى رحيله سنة 2007..شذرات غير مؤرخة من حياة جودت التميمي

يعقوب زامل الربيعي
عام 1961 كان لقائي به أول مرة . لم يمض على ذلك اللقاء سوى أيام حتى تحول الى صداقة قوية وعمل مشترك . صحيح ان تلك العلاقة لم تدم سوى خمس سنوات متواصلة الا انها شكلت جزءا هاما من أرشيف حياة شاعر وفنان وخطاط وممثل وصاحب صوت غنائي ، ونموذج لأحد صعاليك الوسط الفني في العراق .

انه جودت حسن التميمي . شكلت حياته قبلها شخصية موسوعية المواهب والقدرات لم تكن جميعها عونا على تقديم أسباب الحياة اللائقة له ، فمات كما عاش أشبه بأمثاله من صعاليك الفن والأدب والنوادر ، في بيت كان قد حفظ ، الى حد ما ، شيخوخة ومصير
ما ستأول اليه ، أمثالها حتما ، الى أسوء الميتات .
في ذلك العام عرفته في بيت من بيوتات مدينة الوشاش ملتجأ بين أسرة من أولاد عمومته وأقربائه المعروفين هناك ، بعد هروبه من منطقة " المسيب " نتيجة محاولة سلطة عبد الكريم قاسم اللقاء القبض عليه " لتورطه " في أحداث محاكمة " حسن الركاع " غير الرسمية لبعض المشتبه بهم من البعثيين والقوميين بالتحضير لتحركات عسكرية وحزبية ضد حكومة ثورة 14 تموز 1958 ولتصفية بعض كوادر الحزب الشيوعي هناك . وللايضاح حول هذا أحيـل الأمر الى كتاب " الشيوعيون على السفود " .
في تلك الفترة كان جودت التميمي الذي نشط مع شيوعيي المنطقة في كتابة الشعارات على اللافتات ونظم القصائد السياسية التي كان يشاركون فيها في المسيرات الجماهيرية والتجمعات المهنية خلال فترة حكم عبد الكريم قاسم . ولما كنت وانا الشاب المتحمس في مثل تلك الفعاليات فقد توطدت علاقتي بالشاعر من خلال أحد أبرز الشيوعيين في الوشاش المدعو يوسف الخياط والملقب بابي مصدق ، خال أبناء عمومة الشاعر . ولكون جودت كان ضيفا غيردائـم بين هؤلاء فقد أزدادت ضيافتي له في فترات غير منتظمة ، غير انها أنتظمت بعد حادثة معروفة في حينها .
كان يوما في أواخر عام 1961 ، مشهودا في حياة عائلتي ، ساهم جودت التميمي بصناعته الأمر الذي جعله يصبح فيه أحد افرادها، عندما كتب طلبا بأسم والدتي الى برنامج " صندوق السعادة "وكان مقدمه انذاك فخري الزبيدي للاشتراك فيه ، ولكون البرنامج مخصص لربات البيوت خاصة فقد ظهرت والدتي على الشاشة في البرنامج المبث على الهواء ( يومها لم يكن الفيديو معروفا في تلفزيون العراق ) وبعد أسئلة بسيطة فازت بالأجابة عنها لتخير بين الصناديق لعلها تعثر على صندوق " السعادة " فكان بالفعل فتحا لسعادة غيرمعهودة حين أختارت الصندوق رقم (5) لتحصل على الجائزة الأولى والتي كانت عبارة عن كيس تمن وتنكة دهن مقدمة من وزير الزراعة انذاك . الرقم السعيد الذي فتحته المرأة الريفية بغفلة عن الزمن لم يقفل على تلك الهدية فقط . فعندما تهلل وجه الفائزة بالحبور طلب المقدم من زوجها ان يحضر بسيارة تاكسي ليساعد زوجته في حمل المتاع السعيد ، ولما أخبرته بأنها أرملة تكدر جو البرنامج قليلا لتأتي منحة عبد الكريم قاسم بدارلتلك الأرملة مع مائة دينار . الأمر الذي أثار شهية أربع من المشتركات كن يرتدين أردية السواد تحت عباءات وفوط عراقية مازالت لحد اليوم معروفة ، بمطالبة الزعيم بنفس الأكرامية لكونهن أرامل وبدون معيل أو دور سكن خاصة بعوائلهن . أتصل عبد الكريم سريعا مجيبا طلبهن وداعيا اللقاء بهن في اليوم التالي . كان البرنامج قد تواصل رغم أنتهاء مدة عرضه لتنهال هدايا الكرام على والدتي تباعا على شكل نقود او ارض سكنية من مدحت سليمان وعديد من التحف والأجهزة الكهربائية والمنزلية المختلفة حتى تجاوز وقت البرنامج على الهواء لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة لأستقبال الهدايا التي كان يستقبلها البرنامج بحضور مدير الأذاعة والتلفزيون المقدم العسكري الذي دخل على الهواء هو الآخر . لما كان جودت التميمي سببا لهذه المنحة الكبيرة ولكونه صديقا سابق لي ولعائلتي ، فقد تم أضافته لباقي أفرادها . ومن خلاله تعرفت بالعديد من المطربين والشعراء من كتاب الأغنية في مقدمتهم المطرب والملحن الفنان قاسم عبيد الذي غنى للتميمي أغنية "اني عندي كلب مسكين وحنون " التي أشتهرت يومها لما تحمل من فرادة جديدة في عالم النص الغنائي العراقي . ولما كان المطرب يمارس خياطة البدلات الرجالية في محل خاص به يقع في قيصرية تحت نهاية جسر الأحرار " الصالحية " من جهة الرصافة في مواجهة نهاية شارع النهر ، فقد كانا انا والتميمي من زواره الدائميين اللذين تحملهم كرم نفس ذلك الفنان الانسان والمبدع ذو النزعة اليسارية من غيرجزع او سأم .
في ذلك المحل ( المنتدى ) الفني علاوة على مقهيين مشهورين كانا يقعان في الصالحية قريبا من دار الأذاعة العراقية، تعرفت بالمطربين والملحنين والشعراء من كتاب الأغنية علاوةعلى مقدمي البرامج المنوعة الأخرى أذكر ممن كانت لي معهم صلاة صداقة وأعجاب : المطرب عبد الجبار الدراجي وشهيد كريم ومجيد الفراتي ومحمد قاسم الأسمر ، الذي تربطنا به علاقة قديمة يوم كان سائسا لخيول رجل تركي الولادة يسكن قرب دارنا يدعى " رستم " حول جزء من داره مربضا لخيوله . كما بالفنان الملحن المبدع محمد نوشي الذي كان يمتهن نفس مهنة الفنان قاسم عبيد في محل يقع داخل زقاق صغير من أزقة شارع الرشيد في منطقة السنك قرب البريد المركزي مجاورا لمحل الخطاط المعروف انذاك " خالد الخالدي " والذي ربطتني به صداقة حميمة بعد تعرفي عليه في معتقل " الفضيلية " أثناء أحداث مطالبتنا لعبد الكريم قاسم بوقف حربه مع الأكراد تحت شعار " السلم في كردستان " . كما كانت تربطني علاقات صداقة خاصة بمقدم برنامج الشعر الشعبي المعروف بـ " أبو ضاري" المرحوم سالم خالص شقيق الكاتب والسياسي صلاح خالص رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة ، في تلك الأيام كانت لقاءاتنا انا وجودت التميمي بابو ضاري كثيرة من خلال المقهيين أو في مدرسة خديجة الكبرى الأبتدائية في سوق الصدرية المعروف ، يوم كان ابو ضاري مديرا للمدرسة . ولكرم أستثنائي وروح أريحية كان يتميز بهما الشاعر والمدير الراحل ، خص صاحبي بحبه ، كان الراحل غالبا ما يضيفنا في داره الواقعة انذاك في منطقة أسكان غربي بغداد " دور السود " . ولما كان نصيب نصوص التميمي للمطرب والملحن الفنان رضا علي تشكل حصة الأسد ولكوني انا والشاعر كنا صنوين لا نفترق الا نادرا ، فقد توطدت علاقتي أنا الآخر بالمطرب الراحل الذي كان يزورنا في دارنا في الأسكان في مناسبات خاصة كان يقع في بعضها ضحية مقالب وقصص غيرحقيقية للتميمي للحصول على بعض الأعانات المالية التي تذهب بنا انا والتميمي الى حانة من حانات بغدد او لشراء ما نحتاجه من مشروبات نحتسيها في البيت او بين الأصدقاء .
لم تكن صداقتي بالتميمي وحدها قد توقفت على سكنه معي في البيت ، بل تعدتها الى علاقة حزبية ، فقد كنا انا وصديقي عضوان في خلية شيوعية واحدة تسمى أساسية . أمتدت هذه العلاقة قبل ان ينفرط عقدها بشكل مفاجىء . حين تم أعتقالي في كانون الثاني عام 1963 قبل انقلاب شباط بشهر ، بعد خروجي من أستعلامات مجلس السيادة مع ثلاثة اخرين لم نحضى بلقاء رئيس مجلس السيادة نجيب الربيعي القائم بأعمال رئيس الجمهورية أنذاك لسفره الى بريطانيا ، لنسلمه عرائض جماهيرية تطالب فيها بانهاء القتال وأحلال السلم في كردستان .
عن: موقع الحوار المتمدن