تحية دافئة إلى صديقي الغالي جليل حيدر

تحية دافئة إلى صديقي الغالي جليل حيدر

أنيس الرافعي
منذ " طائر الشاكو ماكو "، منذ " شخص بين الشرفة والطريق " ، منذ " صفير خاص " ، منذ الغبطة القصوى و الأولى
لاكتشاف تلك القصيدة المختلفة المختلقة المختنقة القادرة على إضعاف مناعة المطلق الشعري و جليل حيدر مستقر في خلايا وجداني مثل علة عضال و منغرس في أرض ذائقتي كبيرق حرب خفاق. والآن ، أعود إليه القهقرى مترعا بالشجن و الدهشة و الشوق في ديوانه الجديد " كأن " ( دار سطور ، بغداد ، 2018) .

أعود إلى ذياك " الكائن الأحمر" الطاعن في نأي المنفى و المواقف المبدئية المطهرين من وعثاء الايديلوجيا ، الذي يقدم على الدوام - عمدا - قراءة خاطئة للنسيان . نعم ، قراءة مضللة و مموهة للذكرى . إذ من تحاصره الأوجاع و الملمات و الخيبات من شتى الأنحاء مثل " قطيع من التماسيح في مستنقع " ، يكون مجبرا على تهجير حياته الهاربة و سيرته الممزقة صوب هشاشة البدد لا صلابة الديمومة. صوب خفوت القناطر الصغيرة لا ضياء الجسور . صوب وهن الذبول لا غطرسة التفتح . صوب براءة الشكوك لا قسوة البراهين . إنها الهزيمة النكراء " لليقين في حياء الجملة " . خروج الذات القصية من بداهة الإيقاع إلى غموض الخاطر المكسور. عودة النفس في نهاية المطاف إلى لغتها العتيقة البدائية : الصمت . الصمت البليغ النازف المجروح بكبرياء في معارك قذرة من ابتكار الوقت وتدابيره الجائرة. تلك اللغة التي سمع بول تسيلان أصداء خريرها القديم و سماها ب " البئر الخرساء التي تسقي الصمت . تسقي ما بعد الماء و تغدو أخدودا للعطش" . صمت العين و الروح وهما تقعان في شرك محكم نصبته لهما أداة تشبيه جارحة كالوجود . ولوجهما الحثيت إلى المناطق الناتئة و المسننة للكينونة، إلى دهاليز الأمداء الساكنة التي يمكن العثور عليها بعد " القفز فوق عدمية اللغة " كما نعتها الناقد الفرنسي ميشيل آر. جليل حيدر في هذا الديوان العميق معتق النصوص متقن الصنائع يقتلع كل البذور السامة من شتائل الكلام و يمنح لطائر الشعر المتوحد فرصة أخيرة للتواري عن الأنظار . يطلب منه فحسب أن يترك قبض ظل و ريشة دالة عليه في المخيلة. و له الآن- بعد كل هذا المحو وبعد كل هذه المكابدة وبعد كل هذا الاستغناء - أن لا يعود إلى صاحبه .أن يظل بحوزتنا وفي عهدة اعجابنا إلى الأبد . شكرا لك يا جليل حيدر ، هيا أسد بابل الأشم على كل هذا الجمال الذي قضم أرواحنا و أرداها صريعة الحواف والتخوم ، حيث ثمة دائما مناطق عازلة ضد الفداحة، وثمة امكانية متاحة لانتظار " قطار آيب من الأمل " .