جليل حيدر.. ترنيمة بغدادية

جليل حيدر.. ترنيمة بغدادية

حاتم جعفر
حين الحديث عن الثقافة العراقية عموما والحركة الشعرية بشكل خاص فلا بد من الوقوف على فترة الستينات من القرن المنصرم، إذ شكلت منعطفا هاما واستثنائيا، لا يمكن المرور عليه مرورا سريعا في اي حال من الاحوال. فقد تأثرت الثقافة العراقية وقتذاك كغيرها من الثقافات القابلة للتفاعل وبشكل كبير بجملة من العوامل الخارجية، حيث لم تكن في منأى عن تلك اﻷسئلة الصاخبة والصريحة، وإن شئت أن تُضيف لها عاملاً آخر،

يتمثل ببروز تلك الحالة الثورية، إرتباطاً بظهور العديد من الحركات اليسارية التي عمّت أغلب بقاع اﻷرض.
حيث لقت تلك العوامل مجتمعةصدى واسعا وشغلت بال المثقف النوعي وأحدثت بدورها إنقلاباً جذرياً في جملة من الحقائق والثوابت، كمفهوم الحداثة والبنيوية وما رافقهما من بروز وولادة مدارس فكرية وثقافية وفلسفية بل وحتى سياسية، إضافة الى مارافق ذلك من عوامل داخلية وخارجية، ألقت بكاهلها على أكتاف المثقف العراقي الملتزم هموماً إضافية، كان لا بد له من التصدي لها والتفاعل معها من أجل المساهمة، بل الوقوف على تلك العقد والمتاعب الذي تواجه مجتمعاتنا وكل حسب ادواته، خاصة وهو يعج بالكثير من اﻷسئلة التي لم تجد لها حلا مقنعا، مرضيا. وﻷن المثقف العراقي كان وبقدر ما على مقربة من تلك الهموم، لذا كان من الطبيعي أن تجد تلك اﻷسئلةا صدى واسعا في داخله، وبشكل خاص من قبل شريحة الشعراء، وقد يكون مرد ذلك حساسيتهم المفرطة واستجابتهم السريعة لتلك الأوجاع.
تحت هذا الظرف برزت مجموعة من الشعراء كان احدهم جليل حيدر (فارضا نفسه منذ البداية كشاعر في قلب حركة التجديد الشعرية العراقية التي شهدتها مرحلة الستينات، ضمن صوته الخاص الآتي من ضفة أخرى غارقة في الضباب..) كما قال عنه الاديب العراقي المعروف فاضل العزاوي.
وفي ذات الاتجاه ولطالما نتحدث عن شاعرية جليل حيدر، فللشاعر والكاهن يوسف سعيد رؤيا ربما تلامس الدقة في الوصف، فهو يرى في صديقه (شاعر رقيق وأنيق في كتابته، يستوعب بسرعة، اذا لم تضطهده لا تأتي سماء الكتابة صافية عنده. أنا معجب به وبجرأته، ولا زال يكتب جيدا كما بدأ). هنا يشعر المتلقي بأن ليس هناك من مساحة للمجاملة فالوصف هنا اتسم بالوضوح وبالمباشرة، مبتعدا في ذات الوقت عن المبالغة في منتج صاحبه، خاصة وإنَّ حامل الرأي بجليل كان بريئا ونقيا ومحايداً في تقييمه. واعتقد ان تناول تجربة جليل حيدر لا تخلو من مخاطرة، فله مساحة ملفتة في تجربة الستينات وسط زحام من الاسماءالثقيلة، تبارت ولا تزال على الريادة وعلى شغل المقاعد الاولى في ناصية الشعر، ليس على المستوى العراقي فحسب وانما على مساحة الثقافة العربية بعمومها.
ولأن الثقافة العراقية، اجتازت حدودها الجغرافية بأمتياز لتترك ظلالها ومؤثراتها على الثقافة العربية وخاصة على مستوى الابداع الشعري، بإعتبار شعرائها سادة ديوانه ووارثين ومنتجين لأجمل النصوص الشعرية، فلابد هنا من الاستعانة باحدى الشهادات التي لاترتقي الى الاشادة بشاعرية جليل حيدر فحسب، وانما الى درجة التحسس بالانتماء الوطني والتقدمي للمثقف العراقي، وذلك في اشارة واضحة من الكاتب المصري حلمي سالم في كتابه الموسوم (الثقافة تحت الحصار) الذي تناول فيه تجربة حصار المقاومة الوطنية الفلسطينية لبيروت في مطلع ثمانينات القرن المنصرم.
ففي تعبير واعتراف صريحين كتب حلمي سالم ( أما سعدي يوسف وجليل حيدر، فهما سيرة أخرى من سير الجمال الرائق ). وعلى الرغم من الفارق الزمني بين تجربة الشاعرين فقد وضعهما الكاتب في مستوى ومنزلة واحدة من حيث المكانة والحضور الشعريين، بل اختار لجليل حيدر أن يكون في مقدمة الشعراء العراقيين الشباب الذين جايلوه. وعلى حد قول الكاتب، لم يتوقع الكثيرون ان هذا الشاعر الذي يكتب شعرا ( غامضا ) غارقا فيما سمي بالـ ( ثورية على الطراز الوجودي )، يمكن أن تأتي عليه لحظة يجند فيها قلمه وشخصه لمعركة الصمود ( الثقافي والقتالي ) معا.
وعن مصادر ثقافته يقول الشاعر: قرأنا الكثير عن المقاومة الفرنسية وحرب الانصار، وكانت مادة للعديد من استشهاداتنا وحججنا الثقافية في الصراعات الايدولوجية. حفظنا أشعارا لأيلوار الحرية ولأراغون، ناهيك عن الأطنان من الكلام المدافع الشريف الجميل، وكانت تجربة كوبا وفيتنام والسلفادور خير شاهد على ذلك. يضيف جليل: قرأنا مالرو وهيمنجواي وكطذلك عن الحرب الاهلية الاسبانية وتغنينا بالشهيد العظيم لوركا، حفظنا ورددنا بتضامن وجمال أناشيد نيرودا وأغاني فيكتور جارا. وعن كل ذلك، يلخص جليل حيدر بوضوح تجربته الشعرية عبر انتماء انساني، تكون معه التجربة ناقصة ومتهمة ان لم تتبن قضية الشعوب العادلة وتطلعاتها المشروعة في الحرية وأقامة الانظمة السياسية العادلة.
لجليل حيدر مدينة واحدة، أحبها وأحبته وفتحت له كل ابوابها، لا يرضى أن ينافسه أحد على حبها، لِمَ لا وهي حاضرة الدنيا وعاصمة العالم، قبل أن تعبث بها عصور من الضلالة والجهل، هي كلها له وملك يديه، من باب الشيخ حتى باب القبلة في الكاظمية، ومن باب الشرقي الى باب المعظم وصاحبها النعمان. كان طليقا، حرا إذن في تجواله وحله وترحاله، يقطع شارعي الرشيد والسعدون ودرابين حي الاكراد وابو سيفين وأزقة الفضل العتيقة والعريقة، لا يتذكر يوما ان الطرق موصودة وان اهل بغداد قد قُطّعت أوصالهم بين انتماءات من التخلف والجهل والظلالة، أو ان الحرس الملكي أو الجمهوري أغلق جسر الصرافية أو جسر مود، وحين يشعر بالتعب وبرصد الرجل السري له، فملجأه نخبة من البشر الذين اصطفاهم الإنتماء ومقهى ابراهيم، حيث يرتشف الشاي وبضع كلمات من الجدل وأحاديث الشجاعة والقوة الدافعة، ليدون في دفتر يومياته :
ألبدُ خوفا في مقهى ابراهيم يراني حرس الفكر
أجوس الاحلام المشروطة
أتحدث عن (لا)
عن حب يدفنني
عن شرطي يضرب رأسي بالجدران.
في هذه القصيدة من ديوان ( قصائد الضد ) يجد جليل حيدر مكانا آمنا لتفويت الفرصة على رجل الامن ومراقبي الضمير ومستلبيه، وعلى مصادري حرية التعبير والاختيار، فمأواه نخبة مصطفاة من ابناء جلدته ممن يحملون ذات الافكار أو نحو ذلك، ليمارس لغة التصدي وفق قناعاته التي آمن بها وسار على نسقها ورسغها، مدافعا عن وجوده :
حياتي وطن يهرع من خوف الممكن، من
جوقة اعدام، من زهر الدفلى، من سخرية
سوداء، حياتي وطن يمشي بين الشارع
والمقهى، بين البيت وحانة (غاردينيا ).
كرخ بغداد كما رصافتها ظلت عزيزة على قلبه، مدللة، لاتدانيها في الحب عاصمة أخرى رغم تغربه المبكر واضطراره مغادرة وطنه، المصادر والمحاصر والمكبل بالديكتاتورية وحكم الاطراف والغرباء والسطو الهمجي على صناعة قرارات الحياة ومسار أهل الرافدين. ربما أزداد وجعه واحساسه بالغربة أكثر مما مضى بعد أن داست اقدام اليانكي أرض بغداد وتكالب الغزاة والهمج المحليون والطارئون والمتطفلون على الحياة المدنية، فزاد المه وزادت أوجاعه. وحين صعب اللقاء ببغداده فقد استضافها وفتح لها ابواب الراحة لتهدأ قليلا ولتهدأ روحه أيضا، ولتنفض عنها الغبار والتراب العالق بسبب من سياسات العمائم البيض والسود ونفاق الانتماء الديني وطبقة السياسيين الجدد، من الاميين وسقط متاع اﻷرض، وَلَكَم كان سخيا فيما كتب:
في مقهى Brosكانت بغداد تنتظرني
طلبت لها وجبة غداء, مع رسالة وعلبة زينة
وَضعت النادلة زجاجة Tuborgعلى الطاولة وهي تبتسم.
بعد هذه الصورة الخاطفة، تجد جليل حيدر وقد استمر في حلمه أو في يقظته وربما بين الاثنين أو الأثنين معا، فيفتح بابيه على مصراعين من الوداعة، وكانت لمنطقة الشواكة مكان القلب وهي القادمة من بغداد وأي بغداد:
زارته الشواكة وارتبكت
حين تحدث عن عينيها الداكنتين
( أقول وداعا لمسناة غرقى في القصة )
زارته الشواكة
حين دنا من تمثال ثلجي في Malmö
وأحاطت خصره بأمان من قش
( فأقول وداعا للحي الباقي حين يجوس
دهاليز الظلمة )
هل أتت الشواكة ماشية في Triangel
أم يمشي هو في الخفية مرتحلا في قاطرتين؟
Malmö بغداد
بغداد Malmö
سعر التذكرة : مستوى الحلم.
ونحن نقول لا تحزن ستدخل بغداد عاشقا.
هو يفخر بإنتمائيين، فلبغداده أولاً ولسطوة الشعر ثانيا، أو ربما سيكونان الإثنين على مستوى واحد من العشق. وإذا ما عدنا في الحديث عن شعر جليل حيدر فهو ينتمي الى ما أطلق عليه من قبل النقاد ومتابعي الحركة الشعرية في العراق بجيل الستينات، فعلى الرغم من وقوع البعض في خطأ وأظنه فادحا، بقصد أو دونه، أو ربما يعتبرون ذلك إجتهاداً من قبلهم في كيفية تحديد مفهوم الجيل، حين يعدونه مرادفا ومساويا للعقد الواحد من السنين، فإن حسابات المتتبع والقارئ الحصيف، فإن هذه الفئة اﻷخيرة ستفضل بل ستتجاوز هذه الطريقة من التفكير في كيفية حساب اﻷجيال، لتصل الى مفهوم أبعد من ذلك في تحديده، يرتكز أساسا على أهم المشتركات التي تجمع أبناء الجيل الواحد وضمن إهتمام بعينه، أي بتعبير أوضح فهم ( حركة نوعية جمعية للافراد ضمن زمن ما، وتأسيسا جديدا...لمجموعة من المفكرين أو الفنانين أو الادباء). وبهذا المعنى فمن الممكن أن يطلق هذا الاسم على مجالات شتى من أشكال الابداع كالموسيقى والمسرح والفكر والفلسفة وغير ذلك من الفنون، إذ لم يقتصر الامر على الشعر وحده.
وعند الحديث عن الشعر الستيني في العراق فلا يمكننا المرور دون التطرق الى بعض الاسماء الهامة في هذا المجال كفاضل العزاوي وصادق الصايغ، ومَنْ رحل منهم كمؤيد الراوي وسركون بولص وشريف الربيعي، اضافة الى أسماء عديدة أخرى. غير أن الشاعر جليل حيدر يشغل مكانا مرموقا وواضحا بين أبناء هذا الجيل بأعتراف الكثير من النقاد. فمنذ بداياته أستطاع أن يكتب القصيدة المتحررة من بعض القيود، والانطلاق بها بعيدا، وصولا الى قصيدة النثر التي استطاعت ان تطوع اللغة الى مديات رحبة، متحررة من هيمنة وسطوة كلاسيكيات شروط القصيدة العربية.
ففي قصيدة المفتاح على سبيل المثال يقول الشاعر :
ممتقع في الوردة هيأته حبر وزناجيل
أبعد من صوت وأقل من الحب كمن يفتن هيبته بألضوء
كمن حاوره الدوخان عبرنا
منهمرين بنسيان
من سلمان باك الى الروشة حتى آخر كمثرى
أغوتنا بارجة الطل الباكي
نفلت من طغمتها نحو القيعان
هناك من النقاد من يرى في شعر الستينات وقصيدة النثر على وجه التحديد ميلا نحو التجريب في استخدام بعض التعابير، والتي تعد غير شائعة بل وغير معروفة في قصيدة التفعيلة كاستخدام الملصقات في الشعر وادخال بعض الكلمات المرسومة بالحروف اللاتينية، وهناك نماذج كثيرة من ذلك في شعر جليل حيدر، ففي نفس القصيدة آنفة الذكر نرى نموذجا تطبيقيا يؤكد هذا الرأي:
من stor torgetحيث ينتهك فضاء الساحة فارس
مخضوضر بعنجهية
محنك بالقتل والتحرير. يصفف شعره اليمين.
يقلم أظفاره اليسار.
من مقهى Européالى المحطة وهي تقبع في جبة البحر،
بل تنزوي،
التي يفترق فيها عشاق يتشابهون بالصدفة.
من السفن البيضاء مرتبكة بالبساطة
يبدأ الرسم.
تعدد الامكنة والعلاقة ببين الشاعر ومنفاه الاضطراري، ربما ستخلق بيئة غير ملائمة، قد تؤدي أحيانا الى الحد من أسباب الانطلاق نحو ملكوت الراحة والاسترخاء، وصولا الى التأثير سلبا على طبيعة النص المكتوب، القادر على اختراق الروح والوصول الى الاماكن التي شاء لها الشاعر أن تستقر، دون قيد أو شرط مسبقين.
وعن ذات الموضوع والحديث لا زال عن تعدد اﻷمكنة، فقد يؤدي ذلك الى فقدان أو ضعف العلاقة بالجذر والاصل لتجعل من التذكر أمرا ملتبسا، تتداخل فيه وتتشابك مصادر الكتابة لتجعل من صناعته أمرا عصي التحقق، متعثرا، ربما سيؤدي ذلك كتحصيل حاصل الى خلق حالة من الارباك، ستفرض على صاحب النص بذل جهد استثنائي حين شحذ ذاكرته، هذا اذا ما كان حريصا على الاستعانة بذلك التأريخ، وأذا ما أراد لجهده في أن يوضع في مكان لائق وعلى الورق المحفوظ.
الا ان جليل حيدر ورغم بعده عن الاماكن الاولى التي شكلت شاعريته، فقد ظل وفيا لها في حله وترحاله، وهي زاده الذي لم ولن ينضب ولن تكون كذلك، وهذه ستسجل له دون شك، فجذر قصيدته تلك الارض الطيبة التي انجبته وفرعها في فضاء منفتح السماوات والاتجاهات، أفسحت له في المجال، ليطل من خلالها على مساحات رحبة وبلا حدود، وهذا هو شأن الشاعر دون غيره.
فعلى الرغم من البعدين الزماني والمكاني اللذان يفصلانه عن تلك الحقبة البعيدة النائية، الا انها ظلت مرافقة له، لصيقة به، وربما استعان بها في لحظات الاختبار والامتحان العسير والاسى المر. ففي لحظة من التذكر والعودة الى تلك الفترة، سيجد الشاعر نفسه امام مرحلة عصيبة عليه، افتقد فيها الاحبة والاصدقاء وتلك البساطة والإعتداد الفطري:
أشاطرك السفرطاس المعلق على دبابة ورائحة الدم في الهواء
أشاطرك حصان المهرب الى ايران قرب ليل يصوب فوهته،
نحو مليون شخص
أشاطرك السرنحة بين الاصوات :
صوت ذهبي لمراهق
صوت فضي لرشاش
صوت أبيض لماسيرة
وعلى ذات المنحى، سيستمر جليل حيدر في إستذكاره البعيد، مستعرضا الكثير من الصداقات والاماكن، بكثير من الحسرة والتمني بالعودة المستحيلة الى ذلك الزمن الجميل، إذ لا زالت أجواء سينما قدري أو روكسي تداعب ذاكرته، بين فينة واخرى، فكانت القصيدة :
الذي يشبه توني كيرتس، أهمل خصلة نافرة، لأغواء مكتمل
بمراهقته
كلما انحنى، هرولت فساتين وعطور الى مجاله الفردي، الواقفات
بأنتظار
التذاكر
والوسادة الخالية، تأملن انوثتهن في عيون ذكور أفلتت صقورها من
ألأقفاص،
في زحام وتواطؤ محتسب.
بيروت إحى محطاته الهامة والمحببة، لم تغب عن باله هي اﻷخرى، فهي حانة المثقفين واستراحة الرجل المشاكس لأنظمة الحكم العربية، تلك اﻷنظمة المهزومة والمأزومة. بيروت أيضا ملتقى للاحبة وللشهود ألاحياء، الناطقين بقول الحق ولا قول غيره، فكانت ابوابها مفتوحة سخية لكل المنتمين والتواقين الى عالم بلا شروط أو قيود، يحد من انطلاقها نحو عالم الحرية، فضمت بفخر صفوة من الشعراء والروائيين والسياسيين والفنانين، اولئك المغضوب عليهم والرافضين لمنطق السطوة والتحكم بمصائرهم، فشاء القدر وشاءوا هم أولا ان يكون لهم شرف تحمل هموم شعوبهم.
وجليل حيدر لم يكن ضيفا طارئا أو ثقيلا على بيروت، بل كان مشاركا فاعلا في تنشيط الحركة الثقافية في الحياة اللبنانية عموما، وفي الحركة الثقافية العربية بشكل خاص، لذا يمكننا القول ان التفاعل الثقافي بين الطرفين اللبناني والعربي لم تخطئه العين، فالصحف اللبنانية الرئيسية والواسعة الانتشار كالسفير والنهار، لاتكاد تخلو يوما من مساهمة المثقفين العرب والعراقيين منهم على وجه التحديد، مما أدى لأن يطبع المشهد الثقافي البيروتي بمسحة واضحة من الادب العراقي وفي مقدمته الشعر بأعتبارهم سدنته.
في هذه القصيدة ستظهر وبشكل واضح تأثيرات المرحلة البيروتية على شعر جليل حيدر :
(( توليدو ))
طاولات
طاولات بلون السعادة،
والياسمين.
طاولات كأمسية من رنين.
حملتنا الى غيمة وسفينة.
قباطنة الشعر،
والاغنيات الحزينة.
طاولات لمقهى
طاولات وذكرى،
طاولات الأسى والحنين.
(( لم يكن الكثيرون ممن عرفوا جليل حيدر، قبل الهول، يتوقعون أن هذا الشاعر الذي يكتب شعرا ( غامضا ) غارقا فيما سماه الكثيرون ( ثورية على الطراز الوجودي )، يمكن أن تأتي عليه لحظة يجند فيها قلمه، وشخصه، لمعركة الصمود ( الثقافي والقتالي ) معا، بهذا السطوع الذي حدث )). بهذه الكلمات المكثفة، لخص الكاتب حلمي سالم شهادته عن الشاعر في مرحلة تعد الاخطر في حياة العاصمة اللبنانية عندما حاصرها الغزاة الاسرائيليون في عام 1982، حيث لم يقف حينذاك جليل حيدر وقفة شاعر فحسب، بل شعر انه أول المحاصرين وليس امامه من لغات أخرى غير لغة الكرامة، فراح ينشد بأيقاع واحد مع عدلي فخري وزين العابدين فؤاد وغيرهم أنشودة المقاومة .
لقراءة تجربة جليل حيدر الشعرية، لابد من التطرق الى جملة من المؤثرات التي دخلت عالمه الشعري، فمن بداهة القول وبسبب من تنوع الامكنة، فقد التقى في تجربته نصان ينتميان الى مدرستين مختلفتين، أو هكذا سيبدو اﻷمر للمتلقي، فالقادم الغريب، الحالم والعابر كل تضاريس الوجع الانساني، المحلق عاليا حتى ارهقه الترحال، سيجد نفسه أخيرا وقد حط في مكان آمن، أليف، منسجم معه، فكان لمستقره السويدي أثرا يعترف به جليل حيدر حين يبوح بملأ فمه ( انفعلت بغنائية شعر الحب عند Karin Boye وبحياتها، وبأغاني Felin. لكنني تأثرت بحساسية شاعرين وضع أحدهما انجازا شعريا جديدا عندما أطلق الحداثة في الشعر السويدي في الثلاثينات من هذا القرن ).
صدى التأثير اذن كان جليا على جليل حيدر ففي قصيدة دوافع :
كريستيانا مزار الفنان.
مقهى ومجموعة مقاومة من الصخب والصفنة، بحماية كلاب،
وعناية مراهقات
يفترشن النهر. كريستيانا كومونة الحب الدنماركي العاطل.
استراحة غزلان.
ربما الالم ينشط ملصقاتها الثورية والقصائد.
مزار محبين وشعراء لهم في الحانة أثر،
وفي المقهى نجمة.
ومسك الختام فإن تجربة جليل الشعرية في السنوات الأخيرة، أخذت تتمدد طولا وعرضا، في منفاه الإضطراري، لتشمل انشطة عديدة، ابتداءا من القراءات والاماسي الشعرية المشتركة مع شعراء من مختلف دول العالم، وليس انتهاءاً ببعض المشاريع الثقافية، كالقيام بتأسيس دار نشر جلجامش للطباعة والنشر، بإدارة كتاب مهاجرون من مختلف بقاع الارض، وبشكل خاص من لاجئي العالم الثالث. اضافة الى اصدار بعض المجاميع الشعرية، التي تحمل في طياتها اسماء شعراء عاشوا تجربة تتشابه والى حد بعيد مع ما مرَّ به جليل حيدر في مقارعة الديكتاتوريات والتطلع الى تحقيق مجتمعات خالية من القمع والتمييز بكل أشكاله، من خلال تلك القصيدة التي نسميها بالمنتمية والملتزمة بقضايا الشعوب وتطلعاتها المشروعة في تحقيق أهدافها. وفي هذا الصدد فلا مندوحة من التذكير بأحد دوواينه الشعرية والتي رأت النور وهو في منفاه، فقد أصدر كتابه الموسوم (بورتريه للملائكة) بالتعاون مع هنري دياب، وهو عبارة عن مجموعة من القصائد المترجمة الى العربية لشعراء سويديين.

ملاحظة لا بأس من ذكرها:
لقد كتبتُ هذه المقالة قبل قرابة الست سنوات وَرُكنت جانبا دون دراية مني، وأثناء عودتي لبعض الأوراق القديمة حالفني الحظ والصدفة لأن أعثر عليها فعدت اليها والعود أحمد. إستعنت في كتابة هذا النص على بعض ما توفر لي من مصادر، كان من بينها ديوانين للشاعر وما كَتبَ عنه بعض النقاد والمتابعين للحركة الشعرية في العراق، كذلك إعتماداً على ما كان يعلن عنه شخصياً وعلى لسانه، كل ما أأمله أن لا زالت هذه المقالة محافظة على قيمتها الأدبية وما ستجلبه للقارئ من متعة وفائدة.