مستقبل البشريّة.. والعودة إلى برتراند راسل

مستقبل البشريّة.. والعودة إلى برتراند راسل

إميل أمين
هل كانت آراء الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل عن الحكومة العالَميّة التي ينبغي عليها أن تنظِّم حركة البشريّة، وتُشرف على ما في الأرض من خيرات وتفضّ ما ينشأ بينها من مُنازعات، مجرّد أحلام طهرانيّة، وتطلّعات يوتيوبيّة؟

الشاهد أنّ ما يجري على الكوكب الأزرق في حاضرات أيّامنا، يدعونا إلى الاعتقاد بأنّ راسل بوصفه داعية سلام كبير، كان على حقّ، ولاسيّما أنّ الإنسانيّة تكاد تمضي في طريق القضاء على ذاتها بذاتها، سواء تعلَّق الأمر بقضيّة الانفجار الأيكولوجي المتوقَّع، وما يحدث من تقلّبات في المناخ العالَمي يؤذِن بذلك، أم على صعيد سِباق الأسلحة النوويّة المُستجِدّ، ذلك الخطر الدّاهم الذي كرَّس راسل وقتاً طويلاً من حياته لمُواجهته ومُجابهته في ستينيّات القرن المنصرم. واليوم نرى إرهاصات مواجهات نوويّة تخيِّم على سماوات الكَون، وبخاصّة بعد انسحاب الولايات المتّحدة الأميركيّة من اتفاقيّة الصورايخ قريبة ومتوسّطة المدى.
هل يقترب العالَم من الانفجار بلا معاهدات؟
أغلب الظنّ أنّ ذلك كذلك قولاً وفعلاً، فالآن وقد انتهى العمل بمعاهدة الصواريخ المتوسّطة وقصيرة المدى، واستناداً إلى إشارات من واشنطن، فإنّ مصيراً مُشابهاً ينتظر اتفاقيّة الأسلحة الهجوميّة الاستراتيجيّة “ستارت”؛ وعليه يبقى السؤال: “ماذا سيحدث بعد ذلك؟”.
لم تعُد الإشكاليّة الآن كما كانت في ستينيّات القرن الماضي، حين رفع راسل صوته عالياً مُندّداً بسباق التسلّح بين قطبَين، الاتّحاد السوفييتي والولايات المتّحدة، ذلك أنّ الانتشار النووي يتّسع يوماً تلو الآخر، حيث هناك قطب عالَمي ثالث جديد هو الصين، يدفع الولايات المتّحدة دفعاً في طريق تهيئة العالَم للمسرح النووي.
مَخاوف راسل التي جعلته على كبر سنّه يشارك في تظاهرات وفاعليّات مضادّة لاتّساع رقعة الأسلحة النوويّة، ناهيك برفضه الانضمام إلى القوّات المسلَّحة في بلاده، ما قاده إلى السجن، تتعزَّز اليوم من خلال الخطط الأميركيّة لنشر صواريخ متوسّطة وقصيرة المدى في أوروبا، وتحديداً في الجانب الشرقي منها، في بولندا، أي على الحدود مع آسيا الشرقيّة، وربّما الخوف كلّه الآن من التهديدات الصينيّة، فنموّ التنّين الصيني، وما لديه من حضور ديموغرافي، يجعله الرعب الأكبر لأوروبا من جانب، ولروسيا الاتّحاديّة من جانب آخر، وهذا هو الوتر الذي تعزف عليه واشنطن هذه الأيّام.
والشاهد أنّه إذا كان الأميركيّون يرون في روسيا العدوّ الاستراتيجي رقم واحد، إلّا أنّ البيت الأبيض والدوائر الاستخباراتيّة الأميركيّة، عطفاً على وزارة الدفاع “البنتاغون” ترى في الصين الخصم الجيوسياسي الأخطر، ولهذا فإنّ خطط نشْر أسلحة صاروخيّة نوويّة على الأراضي الأوروبيّة حكماً ستتسارع في قادم الأيّام، ما يجعل الصراع أيضاً يحتدم لا مع بكين فحسب، بل مع موسكو أيضاً بأبلغ صورة، من جرّاء كون الصواريخ النوويّة الأميركيّة قصيرة ومتوسّطة المدى يُمكن أن تطاول موسكو وبقيّة المُدن الروسيّة.
ولعلّ الذين لديهم عِلم من كتّاب الرأي العامّ الأميركي يدركون عظيم الإدراك أنّ حالة الهلع النووي التي تشكّى منها راسل قبل خمسة عقود، ها هي تعود من جديد؛ فالأميركيّون خائفون اليوم إلى حدّ الذعر من حرب نوويّة كارثيّة، يُمكن ان تجري بها المقادير ولو عن طريق المُصادَفة المأسويّة، وساعتها سيكون الدمار مآل عالَمنا البائس…هل العودة إلى ما نادى به راسل يعطينا فسحة من الأمل؟ وإن كان ذلك كذلك، فمَن هو القادر على جعل تطويبات الرجل الأخلاقيّة والروحيّة، مَسارات ومساقات دوليّة مُلزمة بالقوّة الأدبيّة تارة وبالإرغام المادّي تارة أخرى؟
يُمكن القطع بأنّ الفيلسوف الكبير الذي ينحدر من أسرة عريقة نزل إلى الشارع ليقود الدعوة إلى السلام وإنقاذ البشريّة من المصير المُظلم الذي يعدّه لها تجّار الحرب … وقد دخل السجن في سبيل دعوته إلى السلام، فاثبت بذلك أنّ المهمّة الحقيقيّة للفيلسوف هي أن يكون في الشارع مع الناس، يتعرَّف إلى أمانيهم وآمالهم ثمّ يزود عنهم بكلّ ما يملك من قوّة. لقد انقضى العهد الذي كانت فيه الفلسفة من مُستلزمات الأبراج العاجيّة.
من بين التعبيرات المُثيرة التي استخدمها راسل في كِتابه المعنون “هل للإنسان مستقبل؟”، يأتي تعبير “الحياة المؤقّتة”، وعنده أنّ هناك شكلاً واحداً من أشكال هذه الحياة، شكل لا يُمكن احتماله أبداً، هو “الحرب النوويّة”، فهي لو تَركت بعض الأحبّاء لن تترك شيئاً باقياً من جهاز الحضارة . وسيظلّ الأحياء الذين يبقون أمداً مديداً مشغولين بالبحث عن الطعام وسيكونون محرومين تماماً من كلّ الدساتير الاجتماعيّة، وعاجزين تماماً عن نقل المعرفة والتكتيك إلى الأجيال القادمة. وعليه قد تكرّر البشريّة في هذه الحالة تاريخ المئة ألف سنة الماضية، وبما أنّها قد وصلت أخيراً إلى درجة من الحكمة، حكمة القرن العشرين، فعليها أن تسهم مرّة أخرى في المشاركة في التحذير من الكوارث التي قد تعييها لغباء أفرادها… هذا شكل مُمكن من أشكال الحياة البشريّة، بيد أنّه شكل لا يبعث في النَّفس طمأنينة…أبداً.
يعنّ لنا الإشارة إلى أنّه حين كتبَ راسل هذه السطور، لم تكُن مَخاوف انفجار النووي كما هي الآن، إذ لم تعرف البشريّة أسلحة من نوعيّة الصاروخ الروسي الفتّاك “سارامات”، ذلك الجهنميّ القادر على حمل عشرة رؤوس نوويّة تبيد أكثر من ولاية أميركيّة، ولم يكُن قد بلغه أخبار الغوّاصة الروسيّة غير المأهولة المسمّاة “بوسيدون”، والقادرة على إحداث تسونامي مزدوج أي من جانب الأطلسي شرقاً والهادي غرباً، بما يفيد المقدرة على غمر نيويورك وكاليفورنيا تحت المياه مرّة وإلى الأبد، ما يعني أنّ ما كانت حياة مؤقّتة في وقته، باتت اليوم حياة تنتظر ساعة الصفر حيث تنحلّ العناصر، لتكتب البشريّة شهادة وفاتها بنفسها.
حين تناول راسل مسألة الحكومة العالَميّة القادرة على إبعاد شبح الحرب العالَميّة النوويّة لم يكُن يسعى لبناء يوتوبي، بل لحقيقة يُمكنها أن تغيّر الأوضاع وتُبدِّل الطّباع، وإن اشترط شروطاً عدّة لمثل هذه الحكومة، فهي أوّلاً يجب أن يكون لها سلطة تشريعيّة، وثانياً سلطة تنفيذيّة، وثالثاً جيش لا يُنافَس، ولا يُمكن لأيّ قوّة أخرى مُقاومته.
على أنّ حلم راسل في الواقع يبتعد رويداً رويداً عن التحقيق، ويترك من خلفه التهديد. ولعلّ هذا من متناقضات القدر، فقد خيّل لنا ولكثير من المُراقبين أنّ العَولمة سوف تزيل السدود والحواجز، وتُقيم الجسور، ما يصل بنا إلى فكرة القرية الكونيّة التي أشار إليها عالِم الاجتماع الكندي “مارشال ماكلوهان”، في ستّينيّات القرن الماضي، حيث كانت تلك الفترة بمثابة زمن التنبّؤات إن جاز التعبير، ففيها أيضاً تساءلَ أندريه مالرو مثقّف فرنسا ومُناضلها ضدّ الاحتلال النازي عن كينونة القرن الحادي والعشرين، وهل سيكون قرناً دينيّاً أم لا؟ إلّا أنّ توقّعاتنا خاب رجاؤها، مع عودة الأصوليّات الظلاميّة شرقاً، ونشوء القوميّات والشوفينيّات وارتقائها غرباً، وضاع الأمل في بلورة كيانٍ أمميّ قادر على إنقاذ البشريّة من وهدة الجحيم الماضية في طريقة لا تلوي عنه.
هل يُعيد التاريخ كِتابة فصوله من جديد؟
ينكر كارل ماركس فكرة تكرار التاريخ لما جاد به من قبل، لكنّ الحقيقة هي أنّ أحداثه تتشابه. فما كان يدور بين كيندي وخروتشوف في العام 1961 وقت كتابة راسل كِتابه، يكاد ينطبق على السجالات القائمة ما بين ترامب وبوتين اليوم، والسؤال هو على الألسن من قبل الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في مثل هذه الصراعات الكونيّة: ما الذي يُمكن عمله إذاً في هذه الظروف لمُجابَهة الحماقات المحمومة لهولاء الرجال الأقوياء؟
قد يقول مُتشائمٌ: لماذا نحافظ على الجنس البشري؟ يجب أن نستعدّ لقرب نهاية هذا العبء الضخم من الألم والحقد والخوف الذي نشر الظلام حتّى الآن في حياة الإنسان.
المُتشائم بحسب راسل لا يملك سوى نصف الحقيقة، فيما النصف الآخر موصول بالبشريّة التي تمتلك طاقات إيجابيّة محرِّرة ومغايرة، طاقات تسعى إلى عالَم أكثر أمناً وأماناً وحريّةً وسعادة، وإذا أتاح لنفسه أن يسمو إلى أقصى طاقاته، فإنّ ما قد يحرزه يفوق حدود وصفنا وتصوّرنا وخيالنا يقول راسل.
راسل فيلسوف تتوجّب قراءة أعماله من جديد في زمن المحنة النوويّة والإنسانيّة على حدّ سواء. إنّه فيلسوف إنسانوي يرى في طاقة الإنسانيّة قدرة عالية للقفز على الفقر والعزلة وجعلهما كوارث نادرة، لأنّ الأمل عنده في السعادة، يطرد ظلام الخوف الذي يسبح فيه الكثيرون الآن زائغي البصر، ومع استطراد التطوّر تصبح العبقريّة المتألّقة الآن للقلّة البارزة ملكاً مُشاعاً للجميع.
كلّ هذا مُمكن… كلّ هذا مُحتمَل في العقود والقرون المُقبلة، إذا لم تدمِّر الإنسانيّة ذاتها بجنون واندفاع قبل أن تبلغ النضج الذي يجب أن تهدف إليه.
يدعونا راسل إلى أن نترك المتشائم جانباً، لأنّ الإنصات إليه وإلى أمثاله خيانة لمستقبل الإنسان. إنّه الزمن القيّم كما يقول عِلم النَّفس، الزمن الذي يُمكن فيه عبر تحرير الروح الإنسانيّة من مَخاوف الفناء الواقف خلف الباب، أن تخرج لنا فيه روائع إنسانيّة تعتمد على رحابة المعرفة المُتاحة، وأنماط الاكتشافات الحديثة، بشرط أن يكون السبت للإنسان وليس الإنسان من أجل خدمة السبت.
لو أمكننا أن نقهر مشكلاتنا الحاليّة والمُنافَسة ضيّقة الأُفق، لاستطعنا أن ننظر إلى الأمام، إلى مستقبل لا محدود، مستقبل يهمّه اتّساع في الأحلام، واستمرار في الأمل يغذّيه العمل الدائب.
عن: الحوار المتمدن