الرحالة البريطانية فريا ستارك بين اليزيديين في الثلاثينيات

الرحالة البريطانية فريا ستارك بين اليزيديين في الثلاثينيات

ابتسام حمود محمد الحربي
كان لفريا ستارك نشاط اجتماعي وثقافي واضح في العراق في الثلاثينيات والاربعينيات، وتعد انطباعاتها في هذا الجانب، وملاحظاتها مصدراً مهماً في فهم العديد من التطورات السوسيولوجية في العراق . لم تكن عالمة آثار، ولم تمتلك الجانب العلمي في هذا العلم على الاطلاق، بل كانت متخصصة في وصف الشعوب البشرية، اذ كان لفريا ستارك خاصية، او ميزة كونها رحالة ومراقبة ، كما انها ادركت ان الصفة الرئيسة للسفر تكمن في تسليم المرء نفسه الى التجربة والاندماج الكلي مع الناس المحيطين به، وتقبل ما هو آت ، وبهذه الطريقة يصبح جزءا من الارض.

زارت فريا ستارك غالبية مناطق العراق من الشمال الى الجنوب، واختلطت مع طبقات الشعب المتعددة ورؤساء الطوائف الدينية وشيوخ العشائر والنساء والاطفال ، ولم تترك منطقة شعبية الا ودخلتها، اذ كانت هوايتها ومتعتها مراقبة الحياة الاجتماعية والعادات الشعبية في العراق، ودونت ما شاهدته في مجموعة من مؤلفاتها التي اثمرت عن زياراتها المتكررة للعراق.

زيارتها الى مناطق اليزيديين :
اطلق الكثير من الكتاب الغربيين، ومن بينهم الرحالة فريا ستارك، اسم معبد الشيطان على مرقد الشيخ عدي ، في حين يطلق عليه اليزيديون اسم مركة او (ميركة) احيانا ومعناها الغوطة. يسكن اليزيديون في شمال الموصل التي تقع على بعد ثمانين ميلا شرقي سنجار على ضفة دجلة، وتقع اثار نينوى عبر النهر وسفوح هضاب جبال كردستان وجبل الجودي على هذه القمم ومن منطقة التلال المغطاة بالشجيرات يتسلق الفرد من جهة عين سفني التي يعتقد ان سفينة النبي نوح رست عليها ، اذ قصد الشيخ عدي (لاليش – Lalish) للانزواء والانعزال فيها ، وكان بعض النصارى يعتزلون منذ القرن الاول الميلادي على جبل هكاري ، تلك هي ربوع اليزيديين الموزعة بين التلال ، وان الطريق لا تسلكه السيارات لوعورته، والطريقة المستخدمة هي البغال.
وصفت فريا ستارك اليزيديين بعد ان زارتهم بانهم اناس مسالمين، ما زالوا على بدائيتهم منذ مئات السنين ، فالرعاة مازالوا يبحثون عن مواطن الكلأ لرعي اغنامهم وماعزهم، والفلاحون يزرعون محاصيلهم في تلك السهول الخصبة والسفوح الندية بطرقهم البدائية ، كما عدتهم كفاراُ مقارنة بالمسلمين ، فليس لهم كتاب كاليهود او المسيح، وان سجلهم لايعود الى ماضي بعيد ، لان شيخهم كان يعيش في القرن الثاني عشر الميلادي ، واسلافه غامضين يشوبهم شيء من الخرافة، ووصفهم المحلي ينص على انهم من بقايا الامويين وان عبادتهم للشيطان بدأت في حكمة لرجل دينهم الذي قال : " لا تلغي احدا ولا الشيطان".
وتشير فريا ستارك ان هذا الخيار قد منحهم خرافات شاذة غريبة وغير مؤذية، مثل كراهيتهم للون الازرق ، اللون المقدس السماوي ، وتجنبهم اكل الخس ، والفجل وهما النباتان اللذان رفضا اخفاء الشيطان تحت اوراقهما عندما هرب من الله العظيم . وفي الواقع ربما يعود تاريخهم الى ما قبل الاسلام وما قبل العبادة المسيحية. ان اليزيديين مهما كان اصلهم الاول جمعتهم علاقة مصاهرة مع الاكراد في شمال العراق ، لذا يتكلمون اللغة الكردية بلهجة المنطقة التي يسكنوها ولهجاتهم هي عموما لها علاقة بلهجة الكرمانجي الكردية ، وهم اقرب الى الاكراد ولو ان نسب كثير منهم عربي ، وهم يشابهون الاكراد ليس في الشكل العام والصفات والمظهر فقط ، بل وحتى في الكثير من العادات والطبائع.
زارت فريا ستارك مرقد الشيخ عدي بصحبة شيخ المكان الذي كان يرتدي الملابس البيضاء ، مع عمامة اوسع من تلك التي يرتديها المسلمون ، وشاهدت عين زمزم، في الجانب الشرقي للمرقد بعد المرور بكهف الصفار وحجراته ، التي تبدو كالتنور اطلق عليه اسم تنور الست اسيا أم الشيخ عدي.
رأت فريا ستارك في داخل المعبد المظلم أرضاً رطبة تسقط عليها قطرات من الزيت، في صحون معدنية مربعة الشكل معلقة في سقف احد الغرف التابعة للمعبد ، وحالما خرجت من المعبد عبر العتبة العالية شعرت بان سلام الوادي الصغير قد احاط بها، مما يدل على ان فريا ستارك كانت تشعر بالخوف وعدم الامان وهي داخل المعبد .
عندما انهت فريا ستارك مراسم زيارة قبر الشيخ عدي التقت ببعض النسوة، ومن بينهن اخت الشيخ الذي اصطحبها لزيارة المرقد ، (الذي لم تذكر اسمه، او اسماء النسوة اللواتي التقت بهن) مع مجموعة من الاطفال الصغار ، كن متزوجات باستثناء اخت الشيخ ، وقد سألت فريا ستارك فيما اذا كانت متزوجة ، فاجابت بالنفي ، لذا حظيت باحترامهن، وخاصة اخت الشيخ التي قالت لها : " انت راهبة مثلي".
وصفت فريا ستارك المعبد بانه مشابه للمعابد الواقعة في التلال البعيدة في ايطاليا ، اذ ان الضريح قائم بين اشجار باسقة، تظله بفروعها الوارفة في مضيق بين جبلين عاليين ، وهذا المضيق متفرع من الوادي الكبير المقدس ، اذ يرى المرء حقول الرز تحدق بها اشجار الدفلة بازهارها الوردية البديعة ، وهي تكسو ضفتي المضيق على سفح كل من الجانبين . ويجري في هذا المضيق جدول صافي الماء، ينقلب فيه كاللجين، او ينحدر في شلالات رائعة يسمع هديرها بين الصخور الملساء ممتزجا بتغريد الطيور وزقزقة العصافير ونقيق الضفادع . ويعد اثما كل من قتل طيرا، او حشرة، او قطع اي شجرة في هذا الوادي المقدس، الذي يرقد بسلام طوال السنة حتى قبل اسبوع او نحوه من موسم الحج الى مرقد الشيخ عدي ، حيث ياتي اليه الحجاج اليزيديون عبر الممرات الضيقة لاقامة شعائرهم القديمة.
عن: رسالة (فريا ستارك وأثرها السياسي والاجتماعي في العراق)