المفهوم البطولي للحياة!

المفهوم البطولي للحياة!

فخري كريم
في غمرة حياة عادية مشدودة إلى تطلّعات الشباب الرومانتيكية، توقفت لأول مرة في حياتي أتطلع من حولي بحِيرةٍ غامضة بحثاً عن مغزى حياة تستغرقنا فيها الهموم العابرة... ويومها وجدتُ طريقي إلى صفوف الحزب الشيوعي.

واحتضنتْني المعاني الجديدة لحياة مناضلٍ شيوعيّ، بما تنطوي عليه من آمال مشرقة، وما تنذر به من حرمانات وأهوال... ولم يكن الانتماء يومذاك سوى اختيار الطريق... وظلّ التعميد الثوريّ. وظلّ الإيمان العميق.
ظلّ الثبات، سرّ الاستمرار. والبطولة، سرّ الانبهار بالحياة حدَّ الشهادة... وتتواصل التطلُّعات الرومانتيكية الأولى من الفعل الجديد الواعد، وتختلط المفاهيم، ومن بين ركام تقاليد الحياة الماضية وعاداتها، وقيمها وهمومها تنمو وتنفتح تقاليد وعادات وقيم وهموم جديدة، تنمو وتتفتَّح حياةٌ شيوعيّة... ومع التفتُّح والنمو، تنمو التساؤلات وتكبر... ومن بين كل الأسئلة الكبيرة، تظلّ البطولة الثورية، البطولة حدَّ التضحية بالحياة، أكبرَ الأسئلة... وأقرأ يوليوس فوتشيك أوَّل مرة فأهتزُّ من الأعماق، وتختلط تطلّعاتي الرومانتيكية باختياري الجديد، وتستقرُّ «همهماتي » على معنىً جديد... إنني مدين لفوتشيك بأثمن الأسرار، سرّ الأعماق البعيدة للثوريّ الإنسان، التي سَبَرَها بكلّ المحبة التي تليق بإنسان حقيقي.
بثوريّ أصيل... ببطل شيوعي، حتى حينما يبحث في أعماق خائن عن أسباب سقوطه...!
وهأنذا أسمح لنفسي بقراءة جديدة، لمأثرة فوتشيك الأخيرة التي ودّع بها الحياة، الأوراق الأخيرة التي كتبها في زنزانة الموت بسجن بانكراك النازي، الأوراق التي كتب لها أن تعيش وترى النور لترسم لأجيال من الشيوعيين والثوريين طريق النضال والبطولة.
إن قراءتي هذه، إنما هي محاولة للتعبير عن الوفاء والواجب، للمعنى الذي انطوت عليه أوراق فوتشيك الأخيرة «تحت أعواد المشنقة...»
الاختيار...
في عام 1921 انضمّ يوليوس فوتشيك إلى الحزب الشيوعي. ولم يكن هذا الاختيار نقلة مفاجئة في حياة فوتشيك، فقد بدأ التفكير كمكافح ديمقراطيّ ثوريّ، يدفعه الإدراك إلى أنّ العالم «ليس ظمآناً للجمال والحقيقة فحسب، بل إن هناك في العالم أطفالاً يتضوّرون جوعاً وتطلق عليهم النيران وتقتل فيه النساء في الحوادث في المصانع .» وكان الصبي «يولا » ابن عامل المخرطة والعضو المحترف في مسرح شميخوف، وهو المصنع الذي يعمل فيه، مسرحياً «معجزة » أثار تمثيله، وهو في التاسعة من عمره، مشاعر عميقة وهو يندمج في دور «طفل عادل ». وقد اكتسب يوليوس فوتشيك في نشاطه المسرحي الذي مثل فيه طيلة عشر سنوات، أدوار الأطفال، طلاقة لغته وطبيعيّتها، وهي التي ميّزت كتاباته، بالإضافة إلى خبرة «المناخ المسرحي » التي أعانته على إدراك أنه: «لكي يكون لأي فكر حقيقي الأثر الضروري، ولكي يمكن إدراكه، يجب أن يقدَّم بلا شكليّات وكلمات جوفاء لا ضرورة لها .»
ومكّنتْه خبرته المسرحية من إتقان فن العمل الثوريّ السرّي، فنّ التنكر والتخفي. وإيهام العدو وتضليله. ويترعرع الصبي الموهوب في محيط أبيه البروليتاري، ويتطلع بعين مفكرة، ملتقطاً خيوط الألم التي تضيق الخناق على الأسرة البروليتارية الكبيرة المتزاحمة في مصانع شكودا. وتستيقظ في أعماقه مكامن الغضب الأولي. ومع نحيب النساء وغضب العمال وبؤس أطفالهم، تتشكل ملامح وعيه، إحساسه بالعدل، وشجاعته، صدقه، حبه ال مّالحدود للعمل، جوهر إنسانيّته وبطولته. إن الصبيّ الواعي المفكّر يبدأ البحث عن مصادر تشكيل اتجاهاته الأخلاقية، والإبداعية فينكبّ على التراث الإنسانيّ والبطولي لشعبه، ويقرأ ما بين العام السادس عشر والعشرين من عمره أكثر من مائتي مؤلَّف مولياً اهتماماً خاصّاً للكُتّاب الكلاسيكيّين في الأدب التشيكوسلوفاكي والأدب العالمي. كان وهو يقرأ بإمعان يعي أن قراءاته، إنما هي مصدر عمله اللاحق، وأداة فهم العالم المحيط به.
يقرأ فوتشيك أعمال تولستوي ورولان وفرانس وزولا وديكنز وتشرينشفسكي وماركس ولينين، إنه يقرأ ويفكر، ودون مقتطفات مما يقرأ، ويؤشِّر ملاحظاته الشخصية، فهو شديد الحرص على التفكير المستقل. ولكن فوتشيك لا تستهويه القراءة المتأمّلة، الحالمة، معزولاً عما يدور حوله. وإنما يتواصل وعي القراءة فيه، بوعي الفعل، وعي العمل الثوريّ. فينغمر في العمل، يشترك في المظاهرات، يحرّض الطلبة على المشاركة في تظاهرات الأول من أيار المجيد، يلتقي بالعمال ويستمع إليهم بانتباه وتعاطف ومحبّة... ويكتب... لقد اختار فوتشيك الصحافة، أداة عمله الثوريّ.
ويفكر... ويتجاوز فكره، بفعله الثوريّ.
فيصبح شيوعياً، ومحرّضاً من طراز بطولي، ويصبح قائداً، يصبح شهيداً، ذلك أنه كان، منذ البدء، إنساناً... «نحن الشيوعيين نكوّن الجيش الاستراتيجي البروليتاري العظيم – جيش الرفيق لينين. وما من شيء أعلى شرفاً من أن يكون المرء عضواً في هذا الجيش، وليس هناك ما هو أعلى مرتبةً من عضوية الحزب الذي كان مؤسِّسُه وزعيمُه لينين .»
«إننا نحن الشيوعيين نحبّ الحياة، ولذلك فإننا لا نتردَّد في المخاطرة بحياتنا لكي نشعل ونمهّد الطريق نحو حياةٍ حقيقيّة حرّة كاملة ومرحة تستحقّ هذا الاسم. فليست الحياة الذليلة – في القيود والخضوع والاستغلال – حياة، إنما هي وجودٌ بائسٌ لا يليق بالإنسان. فهل يقبل الإنسان الجدير بهذا الاسم؛ هل يرضى الشيوعيّ بمثل هذا الوجود! هل ينحني للمستغلِّين وسائقي العبيد... أبداً لن يضنّ الشيوعيّون بأيّة جهود أو تضحيات في كفاحهم من أجل حياة حقيقية وإنسانية حقاً .»
«إننا نحن الشيوعيين نحب الإنسان - فكل ما هو إنسانيّ ليس غريباً عنا وإننا لنَعرف قيمة أقلّ المسرّات الإنسانية ونعرف كيف نقدّرها – ولذلك فإننا لا نتردّد مطلقاً في التضحية بمصالحنا الشخصية لكي نفوز بمكانٍ لائق تحت الشمس من أجل إنسان حرّ سليم مرح لا يتعرّض لإرهاب نظام الفوضى والاستغلال، سواء كان ذلك بسبب فظائع الحرب أو بسبب البطالة .»
«إننا نحن الشيوعيّين نحبّ الحرية، ولذلك فإننا لا نتردّد لحظة واحدة في إخضاع أنفسنا طوعاً لنظام الحزب الدقيق. للنظام العسكري لجيش الرفيق لينين، وذلك لكي نحقّق الحرية الوحيدة الجديرة بهذا الاسم؛ حرية البشرية كلها. فحرية قليل من الأفراد – حرية السرقة لفريق من الناس، وحرية الموت جوعاً للآخرين – ليست حرية بل إنها على العكس إذلالٌ للجميع. فهل يرضى الشيوعيّ بمثل هذه الحالة، هل يكتفي بجانب شخصيّ من هذه الحرية؟ أبداً، ولذلك فإننا نحن الشيوعيِّين لا نضنّ بأية جهود أو تضحيات في الصراع من أجل حرية حقيقيّة، حرية تتزايد دائماً، حرية للجميع .»
«إننا نحن الشيوعيين نحب العمل الخ قّال ونحبّ النمو البنّاء الذي يشكّل مستقبل البشرية، ولذلك فإننا لا نتردد لحظة واحدة في تدمير العقبات – والعقبات فقط – التي تعترض طريق القوى الخ قّالة العظيمة للإنسان... إن هناك الألوف، بل مئات الألوف من الموهوبين الذين يستطيعون مضاعفة الحضارة الإنسانية وتحسينَ التنظيم الإنسانيّ ودفعَ التكنولوجيا الإنسانية – ألوف، بل ومئات الألوف من أمثال هؤلاء الموهوبين تضيع مواهبهم هباء. لذلك فإن الشيوعيّ لا يضنّ بجهدٍ أو تضحيةٍ في النضال من أجل تحقيق نظامٍ تجدُ فيه القوى الخلاقةُ في البشرية كافّة، وكلُّ فردٍ فيها، مجالاً وتطويراً كاملاً .»
«إننا نحن الشيوعيين نحبّ السلام ولذلك فنحن نكافح .»
إن فوتشيك تشكيل رائع للمناضل الذي أراده في «وصاياه العشر الشيوعيّة » التي صاغها قبل ثلاثة أشهر من اعتقاله. إنه من معدن خالص، معدن إنساني!! المعدن الذي صِيغَ منه كلُّ الأبطال والشهداء منذ فجر التاريخ الإنسانيّ، إنه شقيق سبارتاكوس، وعمّار بن ياسر، وليبكنخت، وروزا لوكسمبورغ، وفهد، وشهدي عطية، وخِسرو روزبه، وألليندي، وزويا، وديمتروف. وتتجلّى في حياة فوتشيك مثلما في موته، بطولة الاستشهاد، فالفعل الإنسانيّ، مهما كان صغيراً، مهما كان جزئيّاً، ما دام يصبّ في مجرى التغيير التاريخي، ويتناسب مع التكوين الأخلاقي، مع وعي الإنسان الفاعل، إنما هو شكل للبطولة. وفي وقت ما، تزحف الأفعال الصغيرة في مدٍّ جارف يغسل الأرض والزمن من عفونة القديم البالي. تتجاوز هذه الأفعال حدّ البطولة إلى الشهادة.
هكذا كان أدولف كولينسكي، سجّان «بانكراك » الذي وفّر لفوتشيك القلم والورقة وهرَّبَ أوراقَ ه الأخيرة! بزّة سجّان، قلم، قبضة من الأوراق، تتسلّل إلى زنزانة مسيَّجة بموتٍ يوميّ على مدى شهور، إنه فعل صغير، إلى الدرجة التي يخشى فيها فوتشيك عليه من النسيان!
فيذكّر ببطولته، مثلما يذكّر ببطولة الآخرين في السجن، وفي غرفة 400 ، وكان حريصاً على الإيحاء بحدّ الشهادة في أفعالهم الثانوية. وهنا تتجلّى بطولة الاستشهاد في حياة فوتشيك.
إن الحياة عند فوتشيك تكتسب ملامحها من أصالتها، فالإنسان يولد باكياً، ولكنه سرعان ما ينساب مع خاطر الطفولة الأزليّ، الفرح، فيبتسم ويضحك، ثم يتعلّم اصطناع الابتسامة والضحك فيتشوّه!!
ولكن فوتشيك يبتسم دامياً، يبتسم بإيماءة مشِعّة، وهو يودّع زوجتَه أمام الج دّالين في غرفة الموت وهي تنفي معرفتها بزوجها المدمَّى المسوَّر بالموت، وفاءً لعهدٍ نضاليّ... هاكُم الفرحَ الإنسانيّ الأصيل. هاكُم الغزَل الآسر، خذوه من قلب فوتشيك وهو يحتضن حبيبته، زوجته، التي لم تخنْ قضيّتَهُما المشتركة.
لم تضعفْ، لم تبِعْ سعادةَ نضالِهِما بحياةٍ ذليلة.
«الحبيبة. لقد برَّتْ بوعدها من أنها لنْ تعترفَ أبداً بأنّها تعرفني... ...»
«اقتادوها بعيداً. لقد ودعتها بألطف نظرةٍ قَدِرتُ عليها، ولكنْ لعلّها لم تكن نظرةً لطيفةً أبداً. أنّى لي أنْ أعلم!! .»
إن هذه الأصالة في ممارسة خاطرة الطفولة الأزلي، الفرح، عند البطل وهو أمام الج دّال، هي ما ميَّزتْ شخصية يوليوس فوتشيك منذ درج في أزقّة أحياء العمّال. ومع أنها كانت أصالة عفوية في عمر الطفولة والصبا، إلا أنها تبلورت وتماسكت مع تبلور وتماسك وعيه.
إن عشرات الدراسات عن حياة فوتشيك، كرست ذكراه كثوريّ أصيل، يؤشر لإنسان المستقبل، طفل موهوب، صبي واعٍ مفكِّر، صادق، شجاع، جريء، وَفِيٍّ عاشق. محبّ للعمل. وقبل كل شيء، محبّ للناس. وهو في هذا الحب يتجلّى إنسانياً إلى أبعد الحدود. ويتبدّى ذلك في وصفه لج دّاليه وسجّانيه. فهو حريص على كشف القوى التي قادتهم إلى مصائرهم، كشف الفوارق الجزئية في سلوك كل واحد منهم.
ولم يكن فوتشيك هذا فحسب. إن إنسانيته لم تكن لتكتمل لو لم يكن متفائلاً، ضاحكاً، «إن الضحك ينطوي على قوة ». كان فوتشيك «يضحك في أسوأ ظروف الحياة لأنه كان يؤمن بصدق الشيوعية، ولم يكن يشكّ في اقتناعه بها ». وقد كان هذا الإيمان مصدر فرحه الدائم، مصدر بطولته.
«ليس هناك عذرٌ للَّذين أدركوا الفكرة وتخلّوا عنها بعد ذلك. إنَّ من يعرف أينَ هو الشرّ لا يحقُّ له أنْ يُخطئ. ولا يجوز له أن يخون نفسه، لأنه سوف يخون الآخرين. وعندما يقرِّر المرءُ موقفَه مع أو ضد، ومتى تقرّر ذلك فعليه أنْ يقف وراء يقينه حتى النهاية.»
لقد تذكرت وأنا أقرأ يوليوس فوتشيك، وأبحث في حياته عن سرّ البطولة ومغزاها العميق، تذكّرتُ حديثاً شجيّاً ناجاني به، هامساً، أحدُ قادةِ حزبِنا، عن حياة الثوريّ، عن معاناته وحرماناته، وإنّه لَيصعب علَيَّ أنْ أنسى كلماته عن البطولة.
«إن البطولة بالنسبة للثوريّ لا تتجسد فيما يستطيع التحدُّث به، التعبير عنه. وإنما تكمن البطولة في عشرات الأشياء الصغيرة، في المعاناة المطمورة في ضمير الثوريّ، في تلك الأشياء التي لا يسمح لها أن تفصح عن نفسها. في تلك الأشياء التي، حتى، قد تبدو سخيفة بالنسبة لحياة عادية... !!
وكم هي مثل هذه الأشياء في حياة الثوريّ، كم هي التفاصيل العادية الصغيرة التي تلهب حياة الثوريّ وتعذّبه بصمت؟
وهنا تنطلق فكرة، أو ربما شرارة محرقة: تُرى متى يسقط البطل...؟؟
هل السقوط الثوريّ مثل ارتطامٍ بجدار، هكذا مرّة واحدة؟!
التآكل...
إن الثوريّ، مثل أيِّ كائنٍ إنسانيّ ينمو، وهو لا ينمو في الفراغ ولا يبدأ من ال شّاليء، بل يتفاعل في المجتمع ويتحوّل فيه، وحينما يبدِّل ولاءه ويتحوَّل إلى مُنتَمٍ ملتزمٍ بتيّار التاريخ، تيّار التقدم، يفقد شيئاً مما فيه، يفقد ولاءه للقيم القديمة. وهذه هي بدايات التحوّل كلّها. ولكنه لا يفقد جذورها الكامنة، ولا يفقد قوة العادة، يظل في مكان ما من أعماقه أسير بقاياها التي يظلّ يتعامل، في «المجتمع »، مع رموزها ومؤسَّساتها.
وتبدأ المرحلة الحاسمة، مرحلة التعميد الثوريّ فيتحول الانتماء إلى وظيفة تبلور الوعي، تكامل تشكّله وتبدأ عملية الوعي بالنفاذ إلى الأعماق البعيدة، تتحوّل إلى إيمان، والإيمان حدٌّ للبطولة وللشهادة... «وإذا كان هناك ما يمكن التضحية به للقضية فإنه الحياة وليس الشرف .»
ولكن العمل الثوريّ يمكن أن يتحول في مجرى الصراع بين القديم، برموزه ومؤسساته، وبين الجديد النامي، لدى هذا المناضل أو ذاك، إلى مجرد عادة، و «العادة » لا تصمد أمام الموت، وربما لا تصمد، بحكم التآكل حتى أمام حكِّه! لقد سقط في ظروف تاريخية متباينة في قسوتها.
مناضلون مجربون، خبرتهم الحركة الثورية في محنٍ قاسية، ولكنهم انهاروا أمام «خراعة » نظام! لأن بعضهم كانوا مجرَّد منتمين والبعض الآخر لم يتعمَّد، تآكل داخليّاً في مجرى الصراع الضّاري، لم يقاوم إغراءات القديم البالي، بحكم احتفاظ هذا القديم، على سطح المجتمع، بمظاهر السيادة، محميّاً بسيف الج دّال.
الانهيار... الخيانة
إن الانهيار كظاهرة، تقترن بالهجمات الإرهابية المباغتة، بالإرهاب الفاشي الذي، يلجأ إلى أسلوب التصفية الجسدية كأداة لتصفية الفكر، تصفية العقيدة، وأدواتها الثورية، أحزابها السياسية.
وقد شهد التاريخ الإنسانيّ أساليب وأشكالاً فظيعة في التصفيات الجسدية، وفي الحرب النفسية لخلق أجواء الانهيار العام أمام قوى التقدم الإنسانيّ، وتتوجّه مثل هذه الهجمات إلى قاعدة جماهيرية عريضة، وتستهدف خلق أوسع بلبلة فكرية، سياسية، مستخدمةً جوَّ الرعب العام، جوَّ الانكماش والانحسار المؤقَّت بين صفوف أولئك الذين لم يتعمَّدوا بَعدُ، لم يكتمل إيمانهم ووعيهم، لإيهامهم بأن «قضيتهم » ليست سوى سراب، سوى يقين زائف، زائل، ولكن حتى هذه الهجمات على كثافتها وبطشها لا يمكن أن تُضعفَ إيمانَ الثوريّ، بل إنها سرعان ما تفقد قدرتها الشمولية بحكم الاستمرار وبحكم استيقاظ مكامن الغضب الجماهيري، استيقاظ الوعي العام، فتتكيف الجماهير لمقاومتها.
وأخطر ما يواجه المناضل الثوريّ في مثل هذه الظروف، ظروف الانكسار العام، الإحساس بالعزلة، الانسحاب إلى الداخل وغياب الشعور بالتواصل مع الجماعة، مع الحزب. إن التآكل الداخلي في مثل هذه الحالة، يكتسب بعداً آخر. إنه يتكثَّف بفعل الاغتراب وينخرُ في أعماق المناضل فيحوِّله إلى مجرّد «ذات فردية » تنشد الخلاص، ولكن أيّ خلاص!! لقد ظلَلْتُ أتساءل مرّاتٍ عديدة إزاء كل حالة من حالات السقوط الكبيرة التي واجهتْ مناضلين أشدَّاء: تُرى أيّة محنةٍ هذه التي تدفع إنساناً مناضلاً اختار شرفَ النضال بمحض إرادته ووعيه واكتنزَ رصيداً من شرف هذا النضال زيَّنَ عقوداً من عمره. بل كلَّ عمره، ولم يخلِّف في هذا العمر مكاناً صالحاً للمتعة سوى الأكل وأحلام اليقظة!
أيَّةُ محنةٍ تدفع به إلى الخيانة؟؟؟
وألتقي بفوتشيك في سجن بانكراك، زنزانة، أو كما يرغب هو أن يسميها «غرفة »400 ، فينزع مني حيرتي إلى الأبد، ويكشف لي ولك سرّ هذه المحنة، متمثلاً في سقوط «ميريك » المناضل الذي لم يرهب الرصاص وهو يقاتل في الجبهة الإسبانية، والذي لم تثنه التجربة «القاسية » في معسكر اعتقال بفرنسا، كيف وهن أمام عصا الجستابو وانهار لكي «ينقذ جلده « ؟؟» أي شجاعة مزيفة هذه التي تكفي حفنة عِصيّ لتمحوها...! شجاعة مزيَّفة كإيمانه .»
ولكن كيف ينهار مثل هذا المناضل، كيف تحوّلت شجاعتُه «المجرَّبة » في ظروف الموت أيضاً إلى شجاعة زائفة؟؟
«لقد كان وهو وسط الآخرين، حين كان محاطاً بالرفاق الذين يفكّرون مثلَه، كان قويّاً لأنه كان يفكر بهم. أما الآن وهو مهزول، وحيد، يضغط عليه العدو بشدة فقد انهارت كلّ مقاومة لديه. لقد أضاع كلَّ شيء لأنه أخذ يفكِّر بنفسه وضحَّى برفاقه لينقذ جلده .»
«لقد تحوَّل إلى جبان ومن جبان إلى... خائن....»
والخائن كائن متفسِّخ، يشمّ رائحة عفونته من الداخل، حتى حينما يبدو للآخرين أنه يشعر بالنظافة لأنه يكون قد تعلم المقارنة، ولأنه يتوهم الخلاص وهو يخون، وأحياناً يتوهم أنه يستطيع توظيف رصيد تطهُّره القديم، ولربّما يذهب إلى أبعد من ذلك، إنه يوظف مصادر معرفته فيفلسف خيانتَه! ولكنه يسقط مثل أيّة جثّة متعفِّنة فوق ركامٍ من الخيبة، قبل أنْ يتلمَّس طاقة لسانه على استعادة النطق بأبجديَّته الجديدة، إذ عليه أن يتعلم الولاء من جديد، فيرتطم بأول جدار، يرتطم بجلّاده! لقد تحوّل إلى كمٍّ مهمَل، فيثير اشمئزازَ جلّاده، بعد أن كان يثير في نفسه الخوف!!
والجلّاد لا يعبث، ولكنه ينتقم من ضحيته، يستردّ منه حساب خوفه القديم بعد أن يكتشف ضحيّته، يكتشف فيه نفسه، مجرّد جبان! ويكون الأوان قد فات!
لقد تسنّى لي أن استمع إلى شهادات عددٍ ممن سقطوا، ولا بدّ لي أن ألمِّحَ إلى أنَّ بعض حالات السقوط تبحث لنفسها عن الرحمة. ولست أدري كيف يمكن تمييزها بدقة، ربما تشبه بعض هذه الحالات القتل في لحظة لوثة، أو القتل الخطأ أو القتل بلا سابق تخطيط، القتل مع الندم!
إن بعضاً من هؤلاء تمرد على سقوطه، وتحدى جلّاديه، في لحظة اكتشاف الهاوية، ولكنه كان قد تحول في نظر هؤلاء الجلّادين إلى كيس للرماية!
الجبان لا يكتفي بسقوطه، بل يتحول إلى معسكر العدو، يتحول إلى أداة لتخريب الحزب، أداة لتخريب الحركة الثورية.
مات أغلبهم، وإن ظلّوا أحياء بأجسادهم... إذ تحوّلوا إلى «مجرّد أشكال .»
«الجبان يخسر أكثر من حياته نفسها. فها هو قد ضاع وتخلّى عن الجيش المجيد وكسب احتقار أقذر الأعداء. وحتى وإن كان حيّاً، فإنه ما عاد حيّاً. لأنه قد طرد نفسه من الجماعة. لقد حاول أن يصلح شيئاً مما اقترفه ولكنه لم يحقّق أيَّ شيء بعد ذلك أبداً.»
إن بعض المناضلين، وغالباً أولئك الذين يفتقرون إلى التجربة وكذلك الحالمون بالمدينة الفاضلة، يتعرّضون إلى نوبات من الجزع واليأس حينما تلتبس عليهم بعض قضايا النضال، أو يواجهون مواقف وتسلُّكات ومظاهر لا تنسجم مع تصوراتهم للعمل الثوريّ.
وأتذكّر هذا الحوار...
الزمان: عام 1960
المكان: مبنى جريدة اتحاد الشعب
يدخل شابّ بلغ سنّ الرشد توّاً، عيناه متورِّمتَان من البكاء... يغالبُ خجلَه، ويبدو عليه أنّه حالم، يتعثّر ويقف أمام الرفيق «القديم » وبعد أن يجلس يستسلم لنوبة بكاء.
- إنك تغسل ذنوب الآخرين ببكائك!
- ...
- لماذا أصبحتَ شيوعياً؟
- لأنه المستقبل.
- إذا استيقظت يوماً فوجدت نفسك في بلد بلا حزب، ماذا تفعل؟
- أبدأ.
- مع من؟
- مع العمال، مع الفلاحين، مع المثقّفين...
- وماذا تجد فيهم؟
- كل ما في المجتمع...
- وإذا لم تجد حولك أحداً؟
- أواصل...
- إذن، لا تبكِ... وواصلْ، لكن تذكّر باستمرار أنك أنتَ الحزب، وأنك سلكت الطريق باختيارك وبوعيك، وأنَّ الحزب كائن حي.
والتقيت هذا الرفيق مرات كثيرة فيما بعد... وقال إنه كان يبكي أحياناً ولكنه كان بكاء الحالم وليس اليائس...!
ملامح البطل...
بعد تعقد الوضع السياسي في البلاد، وازدياد الخطر على مناضلي الحزب، حمل رفيقٌ من اللجنة المركزية عرضاً لفوتشيك بالرحيل عن البلاد، تجنباً لخطر الوقوع في أيدي العدو، ولكن فوتشيك فضَّل أن يبقى في البلاد، ما دام مخيَّراً بين البقاء والرحيل. وفي هذا تجسيدٌ لفكرته أنَّ: «البطل هو الرجل الذي يكون على استعداد في اللحظة الحاسمة للقيام بكل ما يجب عليه أن يفعله لمصلحة المجتمع .»
ولم يكن فوتشيك يفكّر بالبطولة وهو يؤدّي واجباته من موقع مسؤوليته، وإنما كان يتصرف كإنسان أحبَّ الحياة، فاكتشف سِرَّها:
العمل!
والعمل خالق الإنسان، وأداة تغييره، وتغيير العالم من حوله، والحياة دون عمل لا مغزى لها.
وقد عمل يوليوس فوتشيك منذ صغره، عمل ممثلاً وربما اكتشف وهو يمثل كيف يمكن أن يتغير إنسان بقناع! ولكنه تغيير في الشكل، في السطح. ولكنه يكتشف فيما بعد، كيف يتغير الإنسان من الداخل.
وباكتشافه هذا تتأصّل فيه الرغبة في الحياة بشكل خ قّال. وينطلق في رحاب الحياة مناضلاً من أجل التغيير الكبير، تغيير العالم من حوله، لكي يصبح فيه فرح الطفولة الأزلي؛ الضحك... فرحاً دائماً للإنسان.
«إن النظام القائم يمارس الضغط على كلّ عضو في هذا العالم القائم ويعتصر كل ما هو إنسانيّ فيه .»
ولأنه شديد الإيمان بضرورة هذا التغيير، وبالمستقبل الذي يبشّر به، يتفتح على الحياة بابتهاج كامل، بتفاؤل عميق، ويتشوّق فرحاً لكل فجر جديد، لأنه كان بشيراً بالاقتراب من المستقبل، ولأنه كان ينطوي على مسرة الاستمتاع بدفء الحياة، بالعمل فيها يوماً جديداً آخر...
«قد يكون البطل هو من يستطيع تركيز أبرز سمات أمّة معينة في نفسه وبحيث تكون لديه الشجاعة للتعبير عن هذه السماء تعبيراً صحيحاً في اللحظة التي تتطلب ذلك .»
وليس للبطل إلا أن يكون شجاعاً، جريئاً، متحدّياً حتى الموت في سبيل «مصلحة المجتمع »، في سبيل تقدم البشرية. ولكن ما يجعل الإنسان عظيماً هو «الشيء الطبيعي العادي » الشيء الذي يميزه كإنسان.
وهكذا كان فوتشيك!
أذكر أن بطلاً من زماننا هذا طلب من ج دّاله أن يخرج معاونيه، ليسرّه بشيء على انفراد. وحينما انفرد به طلب منه أن يتلف الملف الخاص بقضيّته (وكان يحوي أسراراً تتعلق بحياة آخرين)، وهمس في أذنه: «إنني أعدك بشرفي الثوريّ، إنك إنْ فعلت ذلك فسوف ننقذك في المستقبل!
وقد أتلف الج دّال الملف. وعندما سأله رفاقه فيما بعد، كيف وعد وهو في قبضة الموت!
ضحك بمرح وقال: «حسناً. كنت سأوصي به الحزب! .»
إن فوتشيك يفعل هكذا أيضاً مع ج دّاليه! إنه يبعث الخوف في نفوسهم.
« - إذن فأنت تعتقد...؟ .»
« - أنت على حق. لن نستطيع الانتصار الآن....»
هكذا قال بيأس سميتونز السجان الألماني وهو يخرج من زنزانة فوتشيك!
لقد ظل فوتشيك يعمل بتفانٍ حتى آخر لحظة في حياته. وحينما كان يكتب آخر أوراقه في زنزانته، لم يكن يكتب لنفسه، بل كان منشغلاً في تزويد الحزب بكل ما يتعلق بالضربة التي وجّهت إلى قيادته ومن الذي كان يتحمّل المسؤولية في ذلك.
كان يعرض موقف رفاقه، وسجّانيه، ويستخلص من كل ذلك دروساً للعمل اللاحق للحزب.
إن إخلاصه لواجبه الحزبي، لمهمّته الثوريّة، وهو يواجه الموت، يلخّص أبرز فضائله، كبطلٍ ثوريّ، كإنسان... إنه يولي أكبر اهتمام لأصغر التفاصيل، ما دام ذلك يخدم قضيّته.
إن الأعمال البطولية لا تكمن فقط في الاستشهاد، لا تكمن فقط في الأعمال الكبيرة، وإنما تكمن في الفضائل الصغيرة أيضاً، الصغيرة بحجمها، الجليلة بنتائجها. تلك الأعمال التي تجسّد البطولة الكامنة، البطولة غير المرئية التي ينهض بشرف إنجازها آلاف الأبطال المجهولين... هذا هو الدرس الذي يقدمّه يوليوس فوتشيك للمناضلين الثوريّين، وهو يكتب شهادته الأخيرة.
أية عظمة أبلغ دلالة من موقف فوتشيك ومعاناته وهو يحلّل نتائج «ميريك » ويتعقب آثارها؟
إنه لا يفكر بمحنته وعذاباته اليومية على أيدي الجستابو، بل يتمزّق ألماً للضّربة التي أصابت الحزب على يد الخائن، إنه يفكر بالحزب.
«إن هذه الضربة كانت أعنف ضربة تلقَّيتُها هناك »، في قصر بيتشيك، «لقد انتظرتْ الموت، لا الخيانة .»
«لقد سلَّمَ ميريك كلَّ شيء يتعلّق بالعمل بين المثقفين »... اعترفَ حتى «على ليدا تلك الفتاة الشجاعة الوفيّة التي كانت تحبّه !»
وليس أكثر إشراقاً في حياة المناضل الثوريّ، في حياة البطل، من التواضع. إن التواضع الثوريّ، التواضع في أداء الواجب مهما كان صغيراً، بعيداً عن الأضواء، إنما هو معْبَرٌ للعطاء الكبير...
إذ «ينبغي للثوريّ الحقيقي » (كما يؤكد لينين) «أن يؤدي واجبه كذلك في العمل اليوميّ، العاديّ، المملّ، غير الملحوظ بين الجماهير، مهما بلغ من الصعوبة والمشقّة. فإن هذا العمل لا يذهب عبثاً أبداً .»
وكان فوتشيك مثالاً للتواضع الثوريّ. كان يزهو بعمل رفاقه، يبتهج بتفتح مواهبهم، يضع نفسه في المؤخرة حينما يتعلق الأمر بمن عمل أفضل للحزب! إن الأشياء الثمينة لا تلمع، وإنما تبهر!
تأمّلوا فوتشيك! كيف يقدّم تقريرَه للحزب عن عمل اللجنة المركزية الأخير، كيف يصف رفيقيه الآخرَين ويقيم نشاطهما، كيف يؤشِّر لبطولتهما... وكيف يصف أُخوَّتهم! أيّة أخوّة هي أكثر عمقاً، وأكثر فخراً ومدعاة للبهجة، من أخوّة النضال والعمل الثوريّ المشترك!
إن فوتشيك تمثَّل بعمقٍ مغزى تأكيد لينين التحريضيّ، على تمجيد عمل آلاف الثوريين المجهولين، على تمجيد عمل المناضل حينما يجبره العدو على الاختفاء:
«نعم نحن تحت الأرض، ولكننا لسنا مدفونين كالموتى، وإنما نحن كالتَّقاوى النابتة التي تطرح محصولاً اشتراكياً سوف ينتشر في أرجاء العالم تحت شمس الربيع...! .»
كان فوتشيك، المحرض الباسل، وهو يتمثّل وصية لينين، يتذكر هؤلاء الأبطال المجهولين، فيكتب في أوراقه الأخيرة:
«... سيأتي وقت يكون فيه هذا الحاضر ذكرى، وسيتحدث الناس عن عصر عظيم، وعن أبطال مجهولين صنعوا التاريخ، وليكن معلوماً أنهم ما كانوا أبطالاً مجهولين، وأنهم بشر لهم أسماءٌ وقسماتٌ وتطلّعاتٌ وآمال. وإنّ عذابات أصغر هؤلاء شأناً ما كانت أقلّ من عذابات أول من خُلّدَتْ أسماؤهم... .»
ويتداعى مع عاطفته الإنسانية العميقة، مع أخوته النضالية، مع زهوه بالآخرين، فيوصي بأخوته هؤلاء... «وليكن كل أولئك أعزّاء عليكم دوماً، مثل أناس تعرفونهم عن قرب، أناس من صلبكم، مثلكم! .»
لقد تمرّد فوتشيك على الواقع منذ وعى، رفض، وفكّر دائماً، «لأنه كان يجب التفكير دائماً »، لكنه حتى حينما كان شابّاً، لم يكن مثل الشباب الآخرين، يعبّر عن تمرّده ورفْضِه بالنقد فحسب، بل كان يَجِدُ في التفكير طريقاً لإيجاد:
«أفكار جديدة، وحلّ المشكلات، وإحلال الجديد مكان الأشياء القديمة. التفكير معناه العمل .»
لم يكن فوتشيك يتلمس بأنامله أطراف لحيته لادِّعاء التفكير، لأنه كان واثقاً أن ملامسة أطراف اللحى يمكن أن تولّد شيئاً من المتعة، لكنها لا يمكن أن تولّد مفكراً أو فيلسوفاً! إن التفكير معناه العمل.
وكان يمجّد العمل، ويرى في تعلُّق أيّ رفيقٍ بعمله، بواجبه الحزبي، مظهراً لجوهرٍ أصيل. إن إعجابه ببطولة ليدا «الفتاة الجذلة، الخليّة القلب، اللّعوب لحدٍّ ما... »، كان يشعّ من كلّ كلمة كتبها وهو يرسم مجد صمودها، ولكنه كان يهيم بموقفها من العمل، من أداء واجبها الحزبي:
«كانت تعرف الكثير ولم تقل شيئاً. لكن الأهم من كل ذلك، أنها لم تتوقف عن العمل أبداً. وبتغير الوسط، بدّلت أساليب عملها وتبدّلت مهماتها. إلا أن واجبها كعضو في الحزب ما تبدل قط؛ أنْ لا تطوي ذراعيها، مهما كان القطاع الذي وجدت فيه .»
وفي مجرى الكفاح البطولي، لا بدّ أن يتغذّى الثوريّ من مَعِيْنِه الذي لا ينضب، من إيمانه، وثقته المطلقة بالنصر، وأن يبدّد أيّ وهم يعترض طريق نضاله. إن الإيمان المطلق هو جدار فولاذي يتهشّم عليه كلّ أنواع الأعداء، يثير في نفوسهم الرعب، ويشلّ حركتهم:
«إن التفاؤل لا يجوز له ولا ينبغي أن يتغذى على الأكاذيب، بل على الحقيقة، على رؤية واضحة للنصر لا تتزعزع .»
ولكي ينمو الثوريّ ويصبح جديراً بموقعه، كمعول لهدم القديم المتهرِّئ، وعين ذكية لاستشراف المستقبل، لا بدّ أن يعزّز ويعمّق إيمانَه بالمعرفة إذْ «لا يكفي أن يريد الإنسان، بل يجب أن يعرف كيف يكافح ،»وأن يعرف في كل لحظة، موقع قدمه، وأين يضع الخطوة القادمة.
كيف...؟
إن الحزب ليس كمّاً مجرداً معلّقاً في مكان ما، بل هو كائن حيّ يتنفّس ويعيش وينمو بمُناضِليه، بإيمانهم وشجاعتهم وصمودهم، بفكرهم وعملهم المتفاني من أجل فرحهم الدائم... حدثني أحد قادة حزبنا عن واحدة من هذه اللحظات التي ينبغي فيها على المناضل أن يفكر ويتصرف، لكي يوقف وحشيّة العدو، ويربِك استهتارَه: «سألتُه بقدر ما استطعت عليه من هدوء، وهو ينفرد بي، في جوٍّ وحشيّ: لمصلحة من تضربني؟ أنا لا أحمل لك عداوة شخصية، بل أضحّي بكل ما يعزّ على إنسان من أجلك أيضاً من أجل أ يظلّ حفنة من مستغلِّي شعبنا قادرين على تشويهك وتخريب أولادك من بعدك...!.»
يذكر الرفيق أنه همس بهذا الكلام وهو يرتجف! يرتجف من البرد، ويرتجف، ربما، من الخوف أيضاً!
إن فوتشيك يدرك خوف المناضل ويوظّفه ضدّ ج دّاله!
«في كلّ إنسان هناك ضعف وقوة، شجاعة وجبن، صمود واستسلام، نقاء وقذارة .»
«فالمخْلِص يقاوم، والغادر يخون، والضعيف يتهاوى تحت اليأس، والبطل يقاتل .»
إنّ خوف المناضل ليس خوف الضعيف المتهاوي، بل إحساسٌ بالحياة! ولهذا لا يوحي الثوريّ أمام الج دّال بالخوف، بل بالحياة! إنه لا يخاف الموت وإنما يتسامى في حبه للحياة، فيقوى ويكبر بامتداده في الحياة، يكبر باستشرافه المستقبل، فيعلو على ج دّاليه...!
لأنهم «عاجزون عن التظاهر حتى بمصالح كاذبة لأمّتهم أو الرايخ، إنهم يعذّبون ويقتلون لمجرّد التلذُّذ .»
إن الج دّال لا يمكن أن يمتلك المستقبل أبداً، إنك لا يمكن أن تعذّب إنساناً حتى الموت دون أن تحطم شيئاً ما في أعماقك، شيئاً عزيزاً...
إنسانيَّتَك. ولهذا فالج دّال في نظر فوتشيك أسيرُ يومه، إنه يخاف المستقبل. وحينما يشعر الإنسان بإنسانيَّته، يرفض أن يكون قاتلاً! لأن الإنسان يستطيع تطويع المستقبل بفكره وعمله، يستطيع أن يدرك أداة امتلاك المستقبل. ولم يكن الج دّال يوماً، عبر كل تاريخ البشرية، أداةً لامتلاك المستقبل. وفوتشيك يستمدّ أعمق الإيمان من معرفته هذه، فيبشّر رفاقه أنَّ هتلر لا يمكن أن ينتصر، لأنه يناطح قانون الحياة، التطوّر.
ولا بدّ لكم أن تقاوموا، تصمدوا... وأن تُنذِروا ج دّاليكم:
و «لا يعينك على ذلك إلا إيمانك الراسخ بأنهم لن يفلتوا من القصاص العادل حتى ولو أجهزوا على كل الشهود على جرائمهم .»
إنك وأنت تفعل ذلك لن تخشى على قلبك، لن تخشى على الإنسان فيك! لأن «بوسعهم أن يسلبوا الحياة منّا. أليس كذلك؟ ولكنهم لن ينتزعوا منّا شرفنا وحبَّنا أبداً... .
النشيد
أشرف على النهاية
في منعطف منها، يقف في «الرّبذة .»
أبو ذرّ الغفاري
يومئ بعينين مشرقتين، ضاحكتين، مخلصتين
- : قتلوك يا أبا ذر!
فيضحك...
- : وحاولوا أن يقتلوا فيك حبك لعصرك وللناس
ويضحك...
وتسألني يا سيدي: إلى أين؟
إليك يا سيدي، إلى العصر، وإلى فوتشيك.
- : ولكنك حزين وقد قتلوني وأنا أضحك...
وقتلوا فوتشيك وهو يغني...
ل «أنّه لا يرى الحياة دون أغنية .»
«ونحن أحوج ما نكون هنا إلى الأغنية .»
وداعاً، أبا ذرّ
وداعاً أيها الصحابي الجليل!
وأجتاز محفّاتٍ تحمل طغاة العصر...
هاهُنا سجن بانكراك، زنزانة 267
وها هو حارسه كولينسكي، وأرى الناس حول فوتشيك يغنّون
بصوت واعد!
إنه بابلو نيرودا يغنّي لفوتشيك!
فوتشيك يسمع مبتسماً، ولكنه خجل، يمصّ الدم لكيلا نراه
ولكن ذلك ضربٌ من الجنون، فالدّمُ يسيل منه، حتّى من أطراف
أنامله
ويرتفع الغناء...«هناك الكثيرون أمثال فوتشيك أعلوا وشادوا وفي كل حالٍ أجادوا وأنت كذلك أنجزت كل الذي في يديكْ ضئيلاً... جليلا وما عرف المستحيل الطريق إليك لأنك تؤمن أنّ الخطى إنْ تلاقت قليلا ستصبح جيشاً وصبحاً نبيلا وأنت ككلّ الذين أرادوا لوجه الحياة رداءً جميلا تمنيتَ أنْ يطلعَ الصبحُ من قبضتَيكْ فعلتَ الذي كان حتماً عليكْ وما كان حتماً على الناس جيلاً فجيلا... .»
يتوقّف الغناء لبرهة. عفواً لتطفلي أيها الرفيق فوتشيك. أقدم لك بعضاً من أصدقائي؛ جيلاً آخر من الشهداء، ربما تعرفهم، من هذه الأرض المعطاء...
لكن لماذا يا سيدي أنت حزين؟
« : - لقد عشت للفرح... وفي سبيل الفرح أموت، ولسوف تسيئون إليَّ لو وضعتم ملاك الحزن على قبري .»
لكن الحزن ما زال يعتصر قلوب كثيرٍ من النسوة والأطفال، أيها الرفيق فوتشيك، إنهم راسخو الإيمان، لكنهم يريدون نهاية أحزان البشرية أيها الرفيق.
« : - إذا كنتم تعتقدون أن بوسع الدموع أن تغسل تراب الأسى، فلتبكوا إذن، ولكن لبرهةٍ لا غير!
إن البطل لا يريد البكاء، لا يريد الحزن، وإنما العمل، مواصلة النضال... الثقة الكاملة بالمستقبل، إنه لم يمنح حياته عبثاً، ولهذا عرف كيف يواجه ج دّاليه حتى آخر لحظة:
«إنكم ستقرؤون حكمكم عليَّ الآن وأعرف أنه الموت للإنسان...
أما حكمي عليكم فقد نطقت به منذ أمد بعيد لقد كتب فيه بدم جميع الناس الشرفاء في العالم:
الموت للفاشية والحياة للإنسان المستقبل للشيوعية...! .»
إنّ البطل لا يرتخي في لحظاته الأخيرة، بل يصبح أكثر تماسكاً، أكثر هدوءاً، وقد كتب فوتشيك في آخر رسالة لأسرته:
«إن الإنسان لا يصغر حتى ولو قطعوا رأسه!.»
حياة...!
في 23 شباط من كل عام يولد يوليوس فوتشيك، إنه يوم ميلاده!
ولأنه عشق الحياة، وأحبّ جمالها، أحبكم أيها الناس الشرفاء، وكان سعيداً معكم! ولا شك أنكم تحبّونه... فاحتفلوا به، غنّوا له وازرعوا في البستان الذي تعهَّده الوردَ من كلّ الألوان!
إن عنوانه معكم، إنه قريب منكم، إنه فيكم. في قلوبكم. في ضمائركم... في ضمائركم!
فعانقوه دائماً... حافظوا عليه!
حافظوا عليه أيها الناس الشرفاء، أيها الرفاق...!

1/1/1978
مقدمة كتاب تحت اعواد المشنقة الصادر عن دار المدى