سلافوي جيجك يكتب لينين 2017: إنَّ عبقريته تكمن في قدرته على تجاوز المسار النموذجي للثورات

سلافوي جيجك يكتب لينين 2017: إنَّ عبقريته تكمن في قدرته على تجاوز المسار النموذجي للثورات

ترجمة المدى
هذا هو عنوان الكتاب الذي يصدر قريباً للفيلسوف والمفكر المعروف سلافوي جيجك بمناسبة مرور 100 عام على قيام ثورة اكتوبر 1917 في روسيا، ويشرح سلافوي جيجيك في كتابه لماذا لا تزال افكار لينين تحتفظ بأهميتها حتّى يومنا هذا رغم مرور مئة عام على قيام الثورة الروسية، غالباً ما ترتبط أصالة لينين وأهميته كقائد ثوري بالاستيلاء على السلطة في عام 1917. ولكن سلافوي جيجيك يجادل في هذه الدراسة الجديدة التي تحتوي مجموعة من النصوص الأصلية، أن العظمة الحقيقية للينين تكمن في أن يفهم بشكل أفضل في العامين الأخيرين من حياته السياسية.

فقد نجت روسيا من الغزو الأجنبي والحصار وحرب أهلية مرعبة، فضلاً عن التمردات الداخلية مثل تمرد كرونستاد في عام 1921. ولكن الدولة الجديدة كانت منهكة ومعزولة ومشوشة في مواجهة وضع بدت فيه الثورة العالمية تنحسر. كانت هناك حاجة إلى مسارات جديدة،و تقريباً من الصفر، لإبقاء الدولة السوفيتية على قيد الحياة وتصور الطريق البديل إلى المستقبل. وبنظرته الثاقبة والعميقة يوضح سلافوي جيجيك، أن شجاعة لينين كمفكر تمثلت في استعداده لمواجهة هذا الواقع من التراجع بشكل واضح وصريح.
مع اندلاع الحرب العالمية الاولى في عام 1914 كان اليسار يعاني من الانشقاقات: وكانت الحركة التقدمية مضطرة إلى إعادة بناء مشروعها بأكمله. ولكن ما يميل البعض الى نسيانه هو أن مثل هذه المشاكل هي التي اوجدت اللينينية. فالتمعن في الصدمة التي اصابت لينين في خريف عام 1914عندما أصبح كل حزب اشتراكي ديمقراطي أوروبي باستثناء الصرب يتبع 'الخط الوطني'. ومدى صعوبة ذلك، في الوقت الذي كان فيه الصراع العسكري يقطع القارة الأوروبية إلى النصف، وليس من السهولة أن لا تقف في جانب أحد. فكر في عدد المفكرين الذين يفترض أنهم مستقلو التفكير، بما فيهم فرويد، والذي استسلم، ولو لفترة وجيزة، للإغراء القومي.
في عام 1914، اختفى عالم بأسره، مع الاخذ بالاعتبار أن ليس البرجوازية فقط لم تكن تؤمن بالتقدم، ولكن الحركة الاشتراكية التي رافقتها. شعر لينين (في كتابه ما العمل؟) أن الأرض تتداعى من تحت قدميه - كان هناك، في رد فعله اليائس، لا شعور بالرضا، ولا رغبة في القول "الم أقل لكم ذلك". في نفس الوقت، فإن الكارثة التي حدثت جعلت من الممكن تحقيق الهدف الرئيس للينين: التغلب على اطروحة التطور التاريخي الذي كانت تنادي بها الاممية الثانية. وولدت نواة "اليوتوبيا" اللينينية – التي تنص على الضرورة الحتمية لتحطيم الدولة البرجوازية وابتكار شكل اجتماعي جديد بدون جيش دائم أو قوة شرطة أو بيروقراطية، يمكن أن يشارك فيها الجميع في إدارة الشؤون الاجتماعية - مباشرة من رماد عام 1914. لم يكن المشروع نظرياً فقط الى المستقبل البعيد: ففي تشرين الأول / أكتوبر 1917، اعلن لينين أنه "يمكننا حالاً انشاء جهاز للدولة يتكون من عشرة إن لم يكن عشرين مليون شخص" ما يجب أن نعترف به هو "جنون" (بالمعنى الذي يقصده كريكجارديان) هذه اليوتوبيا - وفي هذا السياق، فإن الستالينية وقفت الى جانب العودة إلى "الحس السليم". ولا يمكن المبالغة في تقدير الإمكانات المتفجرة في كتاب لينين الدولة والثورة: ففي صفحاته، كما كتب نيل هاردينغ في كتابه اللينينية (1996)، "تم الاستغناء عن مفردات وقواعد لغة الغرب السياسية".
ما تلا ذلك يمكن أن يسمى، باستعارة عنوان كتاب ألتوسر عن ماكيافيلي، عزلة لينين: وهو الوقت الذي وقف وحده، يكافح ضد التيار في حزبه. عندما حدد لينين في كتابه "أطروحات نيسان / أبريل" عام 1917، ، وجود فرصة سانحة فريدة من نوعها للقيام بالثورة، كانت الاستجابة الأولية من جانب أغلبية كبيرة من زملائه في الحزب إما الذهول أو الازدراء. لم يدعم أي زعيم بولشفي بارز دعوته للثورة، واتخذت هيئة تحرير برافدا الخطوة الاستثنائية المتمثلة في ابعاد نفسها والحزب عن مقترحات لينين. ووصف بوجدانوف "أطروحات أبريل" بأنها "هذيان مجنون". اما ناديجدا كروبسكايا فقد قالت: "أخشى أن لينين يبدو كما لو أن عقله قد ذهب ".
وبدون التدخل الشخصي من لينين الذي كان لا غنى عنه، ما كان يمكن أن تتحول قصة ثورة أكتوبر إلى أسطورة عبقرية فريدة من نوعها. نجح لينين لأن دعوته، تجاوزت قيادة الحزب، لتصبح مفهومة على مستوى القواعد الثورية: تم إنشاء لجان محلية في جميع أنحاء المدن الكبرى في روسيا، عازمة على تجاهل سلطة الحكومة "الشرعية" ومسك الاوضاع في أيديها .
في ربيع عام 1917، كان لينين على دراية تامة بما يحمله الوضع من مفارقة: فبعد أن أطاحت ثورة فبراير بالنظام القيصري، كانت روسيا البلد الأكثر ديمقراطية في أوروبا، مع درجة غير مسبوقة من التعبئة الجماعية، وحرية التنظيم، و الصحافة - ومع ذلك جعلت هذه الحرية كل شيء غامضاً. إذا كان هناك موضوع مشترك يمر عبر كل ما كتبه لينين بين ثورة شباط / فبراير وتشرين الأول / أكتوبر، فهو إصراره على الفجوة التي تفصل النضال السياسي عن أهدافه المحددة: السلام الفوري، وإعادة توزيع الأرض، وبالطبع، "كل السلطة إلى السوفيات"، أي تفكيك أجهزة الدولة القائمة والاستعاضة عنها بأشكال جديدة من الإدارة الاجتماعية تشبه الكوميونات. هذه هي الفجوة بين الثورة بمعنى الانفجار الوهمي للحرية في اللحظة السامية من التضامن العالمي عندما يبدو كل شيء ممكناً والعمل الجاد لإعادة البناء الاجتماعي الذي يجب القيام به إذا كان هذا الانفجار قد ترك أي آثار في الصرح الاجتماعي
هذه الفجوة - التي تذكر بالفاصل الزمني بين 1789 و 1793 في الثورة الفرنسية - هو الفضاء الذي تدخل فيه لينين بشكل فريد من نوعه. فالدرس الأساس للمادية الثورية هو أن الثورة يجب القيام بها مرتين. ليس بافتراض أن البدايات الأولى لها شكل ثورة، مع ضرورة اغناء جوهرها في وقت لاحق، بل العكس: فالثورة الأولى تحتفظ بالعقلية القديمة، والاعتقاد بأن الحرية والعدالة يمكن أن تتحقق إذا استخدمنا ببساطة جهاز الدولة القائم بالفعل وآلياته الديمقراطية،و أن الحزب "الجيد" قد يفوز في انتخابات حرة وينفذ التحول الاشتراكي "قانونياً". (أوضح تعبير عن هذا الوهم هو أطروحة كارل كاوتسكي، التي صيغت في عشرينات القرن الماضي، أن الشكل المنطقي للمرحلة الأولى من الرأسمالية إلى الاشتراكية سيكون تحالفاً برلمانياً من الأحزاب البرجوازية والبروليتارية). أولئك الذين يتأرجحون ويخافون من اتخاذ الخطوة الثانية للتغلب على الأشكال القديمة، هم أولئك الذين (في كلمات روبسبير) يريدون "ثورة دون ثورة".
في كتاباته لعام 1917، حافظ لينين على انتقاده بسخرية لاذعة لأولئك الذين ينخرطون في البحث دون جدوى عن نوع من الضمان للثورة، إما في إطار فكرة متجددة للضرورة الاجتماعية تتجسد في افتراضات من قبيل ('' من المبكر جدا القيام بالثورة الاشتراكية، او الطبقة العاملة ليست ناضجة بعد "، أو البحث عن شرعية معيارية وديمقراطية من قبيل القول (ان غالبية السكان لا يؤيدوننا، وبالتالي فإن الثورة لن تكون ديمقراطية فعلاً "(. كما لو أن ممثل الثورة يتطلب إذنا من ممثل الآخرين قبل أن يخاطر بالاستيلاء على سلطة الدولة. بالنسبة إلى لينين، كما هو بالنسبة إلى لاكان، فإن الثورة انّ الثّورة لا تتمّ وفقاً لتوصية'إن الخشية من الاستيلاء على السلطة قبل الأوان، اوالبحث عن ضمان، هو تعبير عن الخوف من الوقوع في الهاوية. وهذا ما كان يدينه لينين مراراً وتكراراً واصفاً اياه بأنه "انتهازية": وموقف كاذب بطبيعته يخفي الخوف وراء حجاب واقي من الحقائق أو القوانين أو المعايير المفترض أنها موضوعية. الخطوة الأولى في مكافحته هي الإعلان بوضوح: "ما العمل ؟ يجب علينا أن ""، "نذكر الحقائق"، وان نعترف بالحقيقة أن ذلك يمثل نزعة أو رأياً في لجنتنا المركزية .
ماذا حدث عندما أصبح لينين أكثر وعياً بحدود سلطة البلاشفة ؟ وهنا ينبغي أن يكون هناك تباين بين لينين وستالين. في كتابات لينين الأخيرة، بعد فترة طويلة من تخليه عن اليوتوبيا التي عبر عنها في كتابه الدولة والثورة، كانت توجد ملامح مشروع "واقعي" متواضع للبلاشفة. وبالنظر إلى التخلف الاقتصادي والتخلف الثقافي للجماهير الروسية، لم يكن هناك، وهذا ما ادركه، أية وسيلة لروسيا "لان تنتقل مباشرة إلى الاشتراكية". كل ما تستطيع السلطة السوفياتية القيام به هو الجمع بين السياسة المعتدلة لرأسمالية الدولة وبين التعليم الثقافي للجماهير الفلاحية.ووضح لينين كيف كشفت الحقائق والأرقام "ان هناك الكثير جداً من العمل العاجل ما زال علينا القيام به للوصول إلى مستوى دولة متحضرة مثل دول غرب أوروبا العادية. . . يجب أن نضع في اعتبارنا الجهل شبه الآسيوي الذي لم نخرج منه بعد. "وكان لينين يحذر مراراً من" زرع الشيوعية "مباشرة:" بحجة انه تحت أي ظرف من الظروف يجب علينا أن نقدم على الفور أفكاراً شيوعية صارمة في الريف. ولكن ما دام الريف يفتقر إلى الأساس المادي للشيوعية، سيكون هذا العمل ضاراً، في الواقع، ويجب أن أقول، قاتلاً، للشيوعية اذا قررنا القيام به. "وكانت فكرته التي يرددها دائماً هي:" الاستعجال سيكون هو الشيء الأكثر ضرراً هنا ". وبالضد من هذا الإصرار على "الثورة الثقافية"، اختار ستالين الفكرة المناهضة للينينية "بناء الاشتراكية في بلد واحد".
ومع ذلك، لا يعني هذا أن لينين اعتنق سراً انتقادات المناشفة لليوتوبيا البلشفية، والتي تقول أن الثورة يجب أن تتبع مسارا مسبقا، ولا يمكن أن تحدث إلا عندما تتوفر الظروف المادية اللازمة لقيامها، ادرك لينين، في كتابته في أوائل العشرينات من القرن العشرين، أن المهمة الرئيسة للبلاشفة هي الوفاء بمسؤوليات النظام البرجوازي التقدمي (توفير التعليم للجميع وما إلى ذلك). ومع ذلك، فإن هناك حقيقة أن العامل الاساس هو وجود قوة ثورية بروليتارية تغيّر الوضع بشكل جذري: وهناك فرصة أن يتم تنفيذ هذه التدابير بطريقة تخلصها من إطارها البرجوازي الأيديولوجي – فيصبح التعليم في خدمة الشعب، بدلاً من كونه قناعاً لتعزيز المصالح الطبقية البرجوازية. ويظهر لنا الدياليكتيك هنا أن اليأس التام من الوضع الروسي (لكونه يعاني من التخلف مما يجبر السلطة البروليتارية على الانخراط في عملية الحضارة البرجوازية) يمكن أن يتحول إلى ميزة: يعبر عنه لينين بالقول "ماذا لو كان اليأس الكامل من الوضع، يصبح عاملاً لتحفيز جهود العمال والفلاحين عشرة أضعاف، مما يوفر لنا الفرصة لخلق المتطلبات الأساسية للحضارة بطريقة مختلفة عن تلك التي موجودة في دول أوروبا الغربية؟ "
اصبح لدينا نموذجان غير متوافقين للثورة: الانتظار لحظة نشوب الأزمة الأخيرة، عندما تنفجر الثورة "في الوقت المناسب" وفقاً لضرورة التطور التاريخي؛ أو التأكيد على أن الثورة ليس لديها "الوقت المناسب"، وأن الفرصة لذلك هو شيء يبرز في وقت ويجب أن يتم اغتنامه. ويصر لينين على أن مجموعة من الظروف الاستثنائية، مثل تلك الموجودة في روسيا في عام 1917، يمكن أن توفر وسيلة لتقويض القاعدة نفسها. ويشير سلافوي جيجك، أن هذا الاعتقاد هو أكثر إقناعاً اليوم من أي وقت مضى. إننا نعيش في عصر تكون فيه الدولة وأجهزتها، بما في ذلك عناصرها السياسية، أقل قدرة على التعبير عن القضايا الرئيسة. والوهم أن المشاكل الملحة التي تواجه روسيا في عام 1917 (السلام، وتوزيع الأراضي وما إلى ذلك) كان يمكن حلها من خلال الوسائل البرلمانية هي في الواقع نفس الوهم اليوم بأن التهديد البيئي يمكن تجنبه من خلال تطبيق منطق السوق (جعل الملوثين يدفعون ثمن الاضرار الذي يتسببون بها).
وبعد هذا العرض التاريخي يتسائل سلافوي جيجيك في مقالته كيف يمكن أن نقيم دراسة هيلين كارير دي إنكوس الجديدة في ضوء كل هذه المعطيات التاريخية ؟ فنهجها الأساس في الكتاب كما يقول هو أن، الشيوعية قد انتهت الآن، وانه قد آن الأوان لإجراء تقييم موضوعي لمساهمة لينين في الثورة. وضمن هذه التنسيقات، يحاول الكتاب تقييم لينين بما يستحقه. وتوضح كارير دي إنكوس أن جهاز الدولة الستالينية ولد من رحم ما عرف بالسياسة الاقتصادية الجديدة. فإذا كان على الدولة أن تتراجع وتفسح المجال أمام السوق والملكية الخاصة وما إلى ذلك، فعليها أن تحقق رقابة أكثر صرامة على المجتمع حتى لا تكون المكاسب التي حققتها الثورة مهددة من قبل الطبقات الجديدة الناشئة. البنية التحتية الاقتصادية الرأسمالية كان ينبغي موازنتها من قبل البنية الفوقية السياسية والإيديولوجية الاشتراكية.
كارير دي إنكوس أيضاً تطرح كيف، انه في خضم التنافس على من يخلف لينين، لم يكن لدى تروتسكي، وبوخارين والبقية سوى ازدراء لدور ستالين الجديد الإداري كأمين عام، واعتباره مجرد مدير: وفشلوا في تقدير السلطة التي منحها اليه هذا المنصب وعندما ارسل لينين في عام 1922 مقالة لنشرها في صحيفة برافدا بعنوان"اقل ولكن أفضل "، التي كانت موجهة ضد استبداد ستالين، لم يرى بوخارين، رئيس التحرير، أي سبب لنشرها؛ واقترح أحد أعضاء المكتب السياسي أن يطبعوا نسخة واحدة من الورقة التي تحتوي على النص، و يعطوها الى لينين.
وفيما يتعلق بالمسألة الوطنية، كتبت كاري دي إنكوس كيف أن لينين عارض دون قيد أو شرط النزعة القومية للبلدان الكبيرة وأيد حق الدول الصغيرة في السيادة، بصرف النظر عن من سيطر عليها. بالنسبة لروسيا نفسها، دعا إلى سياسة من شأنها أن تقدم الى الدول الصغيرة المضطهدة - "نوعاً من الاعمال الإيجابية قبل الحقيقة". واليوم، فإن هذا الموقف يتردد صداه أكثر من أي وقت مضى. وليس من المستغرب أن تكون المعاداة للولايات المتحدة في أوروبا أكثر وضوحاً في الدول "الكبيرة". وكثيراً ما تعرض الشكاوى بأن العولمة تهدد سيادة الدول القومية؛ ولكنها ليست الدول الصغيرة بقدر ما تهدد القوى العالمية (السابقة ) من الدرجة الثانية - دول مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا - التي تخشى من أن تصبح بعد الانغماس الكامل في الإمبراطورية العالمية الناشئة حديثاً في نفس مستوى بلدان، مثل، النمسا، و بلجيكا أو حتى لوكسمبورغ. إن العداء للتأميم في فرنسا، الذي أعرب عنه كل من اليساريين والقوميين اليمينيين، هو في نهاية المطاف رفض لقبول حقيقة أن فرنسا تفقد دورها المهيمن في أوروبا.
.اما عن شخصية لينين، فتعيد كارير دي إنكوس ذكر حجج قديمة حول قسوته التي لا ترحم ولامبالاته تجاه المعاناة الجماعية، ولكن عند مناقشة مصير المعارضة العمالية في عام 1921، فانها لاحظت أن "هذا هو مثال آخر على طريقة لينين في التفرد بالحكم ، التي لا تلغي معارضيه ولكن أفكارهم أيضاً، مما يسمح للفاشلين بالبقاء في الهيئات الإدارية ". ومن الصعب أن نتصور هنا تبايناً أشد مع السياسات الستالينية. إن منتقدي لينين يرغبون في إثارة قضية رد فعله عندما استمع لمعزوفة أباسيوناتا لبيتهوفن – فقد غلبته الدموع، ثم اقر بأن الثوري لا يستطيع تحمل مثل هذه المشاعر - كدليل على قدرته المفرطة في ضبط النفس. ومع ذلك، فهل يمكن لهذه الحكايات أن لا تشهد ببساطة على الحساسية الفائقة لشخصيته، ومعرفة لينين بأنها تحتاج إلى أن تبقى حاضرة لتحقيق اهداف النضال السياسي؟
و تفاصيل حياة لينين اليومية في عام 1917 والسنوات التالية توضح لنا كيف كان يختلف عن المجموعة الستالينية.منها انه ترك شقته في معهد سمولني، مساء يوم 24 تشرين الاول عام 1917، أخذ الترام وطلب من الشرطة ان يتحققوا فيما إذا كان هناك أي قتال يجري في وسط المدينة في ذلك اليوم. وفي السنوات التالية مباشرة لثورة أكتوبر، كان يسافر في الغالب في سيارة مع سائقه وحارسه الشخصي فقط للحماية؛ وذات مرة أطلقت النار عليهم، وأوقفتهم الشرطة واعتقلوا (ولم يعترف لينين يشخصيته لرجال الشرطة). وفي احدى المرات، وبعد زيارة إلى احدى المدارس في الضواحي، كان قطاع الطرق يتظاهرون عندما سرقت الشرطة السيارة، وكان على لينين وحارسه الشخصي السير إلى أقرب مركز شرطة للإبلاغ عن السرقة. في 30 آب عام 1918، اطلق الرصاص على لينين أثناء حديثه مع عمال خارج مصنع كان قد زاره للتو. نقله حارسه الشخصي جيل إلى الكرملين، حيث لم يكن هناك أطباء. واقترحت زوجته ناديجدا كروبسكايا أن يذهب شخصاً ما إلى أقرب متجر للبقالة لشراء الليمون.
أما فيما يتعلق بإنجاز لينين التاريخي، فإن كارير دي إنكوس تؤكد بحق أن عبقريته تكمن في قدرته على تجاوز المسار النموذجي للثورات، حيث تتفجر المشاعر لفترة قصيرة وترتفع طاقة النشوة الطوباوية حتى صباح اليوم التالي. كان لينين يمتلك القوة لإطالة اللحظة الطوباوية. ولم يكن هناك في أي مكان في عمله أيّ أثر لما أسماه لاكان "نرجسية القضية المفقودة"، التي كانت عند أولئك الذين كانوا ينتظرون الثورة حتى تفشل ليبدوا اعجابهم بها و حسرتهم عليها. هذا ما جعل لينين من اعظم سياسيي القرن العشرين - القرن الذي كان شغوفاً بالحقيقة.
 عن: الغارديان