لنذكر بياتريس

لنذكر بياتريس

قصي الفرضي
فنانة العراقية استاذة ومدرسة وعازفة البيانو بياتريس اوهانسيان من الفنانات العالميات في هذا المجال رحلت مغتربة بهدوء وصمت غريب من الاعلام العراقي . احيت مئات الحفلات الموسيقية داخل وخارج العراق ورفعت اسم العراق عاليا على مدى عمرها الذي شارف 80 عام .توفيت في 20 تموز 2008 في مدينة هاليفاكس بولاية مينسوتا الامريكية حيث انتقلت اليها هي وشقيقتها سيتا 1996 لحاقا باخيها الوحيد ارشان عازف الكمان العراقي السابق.

أبدأ توثيق مسيرة هذه الفنانة الرائدة، بالسؤال:
هل نتذكر عازفة البيانو العراقية الأولى والشهيرة: بياتريس أوهانيسيان؟ وأعقبه بتساؤل أليم: أين هي وسائل الإعلام والفضائيات ومواقع الإنترنيت العراقية والعربية من نبأ رحيل هذه الفنانة التي كانت دوماً تفاخر بعراقيَّتها؟ وهكذا عاشت طيلة حياتها أمينة لإنتمائها العراقي. إنها الإنسانة الرقيقة، الشفافة، المولودة في بغداد ضمن عائلة أرمنية سكَنت منطقة المْرَبْعَة التي كانت من محلاّت بغداد الشهيرة؛ إنها المحلَّة الكائنة خلف سينما الزوراء، التي تربط بين شارع باب الشيخ - السنك وشارع سيد سلطان علي.عائلتها، كما أسلفتُ، مكوَّنة من الوالدَين، وإضافة إلى بياتريس، وهي بكر العائلة، يأتي شقيقها آرشان وشقيقتها الصغرى سَيْتا. والثلاثة يمارسون الموسيقى عزفاً: حيث كان البيانو بتصدَّر صالة الجلوس، وكان الشقيق يعزف على آلة الكمان. كانت مدارس راهبات التقدمة في بغداد في المصاف الأول بين مدارس البنات الأهلية، من حيث المستوى التربوي والعلمي والفني. هكذا وجدنا بياتريس منذ طفولتها بين تلميذات مدرسة الراهبات في محلة رأس القرية القريبة من عقد النصارى، عقد الكنائس. حيث وجدت ضالَّتَها لتعلُّم الموسيقى بدراسة العزف على البيانو، وترتل وتنشد ضمن جوقة الإنشاد للمدرسة.وكان ثمة (صوت) يدندن في دواخلها أنَّها لن تكون غير موسيقية محترفة. وإزدادت دندنات هذا الصوت كل لحظة تعيشها ليصل الأمر بها، ومنذ صغرها، إلى نوعٍ من الهوَس والعشق. هكذا كانت بداياتها في تعلُّم الموسيقى. فهي تذهب كل يوم أحد إلى كنيستها الأرمنية ببغداد (التي كانت قرب كنيسة أم الأحزان الكلدانية – حالياً في مكان السوق العربي) لتنعِش نفسَها بالألحان الكنسية التي كانت تؤديها مجموعة إنشاد (كورال – متعدد الأصوات). أخذت مُذ ذاك تتململ في مجلسها داخل الكنيسة وبالقرب من جماعة الإنشاد، وتردد بصوتها الرقيق كل ما كان يرتَل أثناء القداس. ليتطوَّر الأمر لديها، فأخذت تعزف في الكنيسة على آلة الأرغن الهوائي قطعاً موسيقية وتراتيل.في بيتها، حيث كانت تستمع إلى جهاز (الحاكي – الفونوغراف اليدوي) وهو يدور ليحيل صمت الأسطوانة القرصية الموضوعة فيه إلى عزفٍ لما هو مسجَّل على وجهيها من الموسيقى الكلاسيكية من أعمال كبار المؤلفين الموسيقيين الأوربيين أمثال: شوبان، باخ، موزارت، بتهوفن؛ لكن أعمال البيانو (من السوناتا والكونشيرتو) أخذت تجذبها وتشد إنتباهها بشكل متميز.

دخولها معهد الفنون الجميلة
ذكرت بياتريس في مقابلة لها مع تلفزيون بغداد في السبعينات، وكذلك مجلة القيثارة – الصادرة عن دائرة الفنون الموسيقية فترة السبعينات كيفية دخولها معترك دراسة الموسيقى في معهد الفنون الجميلة ببغداد،عندما قدَّم والدَها في العام 1937 طلب إنتساب إبنته بياتريس للتسجيل في المعهد الموسيقي العراقي التابع إلى وزارة المعارف، تلميذةً في فرع البيانو، أيام كان المعهد في بداياته في منطقة المربعة. كانت شروط القبول في المعهد تقضي بأن يكون الطالب حائزاً على شهادة الدراسة الإبتدائية، وأن يقل عمره عن 13 سنة.

هنا تقول بياتريس
دخلتُ إلى المقابلة أمام لجنة المعهد المكوَّنة من الأساتذة الشريف محي الدين حيدر، مدير المعهد،وحنا بطرس، معاون المدير، وأستاذ البيانو جوليان هرتز (روماني). قدّمني الأستاذ حنا واصفاً إياي بـ شوبان الموهبة المبكرة معزِّزاً طلب إنتمائي للمعهد، كوني موهوبة في العزف. قدمتُ عدداً من القطع والتمارين أمام اللجنة بشكل جيد، فنالت إستحسانها. لكن اللجنة وجدت عائقاً أمامي لقبولي في المعهد بسبب صغر السن، وكوني ما أزال تلميذة إبتدائية.وبتدخُّل تشجيعي من الأستاذ حنا بطرس، تم قبولي إستثناءً من شرط العمر. وهكذا بدأت الدراسة الفنية بالشكل العلمي الجيد على يد الأستاذ الروماني جوليان هرتز، وتخرجتُ في العام 1944، بدبلوم فن عالٍ بدرحة إمتياز.إستخدمها المعهد للتدريس فترة قصيرة لحين حصولها على بعثة دراسية في الأكاديمية الملكية البريطانية للموسيقى في لندن. فنالت شهادة التخرج وجائزة فردريك وسترليك. وعادت للعراق لتواصل التدريس والعزف مع مختلف المجموعات الفنية في المعهد، حتى حصلت على بعثة من مؤسسة فولبرايت للدراسة في مدرسة جوليارد في نيويورك، لتتطور وتبرز موهبتها المتميزة كعازفة بيانو منفرد (صولو) في الحفلات التي كانت تقدمها عبر إذاعة بغداد، وعلى المسارح سواء كانت بصحبة الفرقة السمفونية العراقية أو بمفردها. وإنطلقت في سياحة موسيقية مستمرة ومتواصلة داخل العراق وخارجه في لبنان وتركيا وأوربا وأميركا.وشاركت الفرقة السمفونية الوطنية العراقية كعازفة منفردة، في حفلاتها على صالات بغداد وعدد من محافظات العراق الأخرى، وكذلك في جولات الفرقة للخارج. كما قدمت لها الفرقة عدداً من مؤلفاتها الموسيقية فترة التسعينات.جرى تكريمها في مناسبات عديدة، بجوائز تقديرية متميزة من أهمِّها آلة بيانو عند تكريم الفنانين العراقيين في الثمانينات.