إنارَةُ التحرير كما النفق والشاطئ.. مُبادراتُ شاب يؤمن بالسلمية والبناء

إنارَةُ التحرير كما النفق والشاطئ.. مُبادراتُ شاب يؤمن بالسلمية والبناء

 علي الكرملي
كانَ يعيشُ لمدة ليست بالقصيرة كما ليست بالطويلة في تايلاند. هُناك في بانكوك العاصمة، أكثر ما تنتشر فيها السواحل الشاطئية، يتمشى الناسُ هناك، ويلعبون لعبة الطائرة الرملية، المُمتدة على طول الشاطئ، ومُتاحٌ لكل من يرغب في اللعب دون قيد يُفرَض.

رجع إلى حُضنه (بغداد) الأُم، اندلعَت الدفعة الثانية من الاحتجاجات (٢٥ تشربن الأول) المنصرم، التي شملت كل المجتمع على اختلافه، قرَّرَ أن ينصُبَ خيمَةً في حديقة الأُمّة التي يحتضن مدخلها نصب الحرية لجواد سليم، والخيمَة لمبيت المعتصمين. قرّرَ أن لا يكون محتجاً فقط، إنما بَنّاءً أيضاً، وحقّق ما أراده على امتداد الانتفاضة التشرينية وما زال حتى الحين يبني. بعدَ أن كانَت خيمة يتيمة صغيرة في حديقة الأمة، توسّعت إلى /٢٥/ خيمة، تحت مخيم واحد حمل اسم الحديقة.

إنارَةُ الحُريّة
تجتمع فيه النسوة الشابات كما الشباب، يقدمون كل ما استطاعوا من تجهيزات مبيت، وطبخ وملبس وما غير ذلك. لكنه حثّهُم على عدم الوقوف عند ذلك فقط، اقترحَ إضافة إنارة ليلية لنصب الحُريّة؛ لإخراجه من عتمته في الليل نحو الضياء والتنوير. بالفعل نجحَ في ذلك، لم يكن الأمر سهلاً بالمرَّة، واجَه ومن معه انتقادات بالجملة؛ لعدّة اعتبارات، منها أن الإنارة يجب أن تتركَ لمُختصّين، لكنه لم يستسلم، أكمَلَ الإنارة في غضون ليلة ونهار، ليصبح النصب بحُلّته الجديدة أيقونة من أيقونات الانتفاضة.
يوسف فهد، شاب ثلاثيني، خريجُ الهندسَة وَالنظم من الجامعة التكنولوجية ببغداد، اشتغلَ /٧/ سنين في شركة آسياسيل للاتصالات، وعامَين في نظيرَتها ”زين العراق“، أما اليوم، فهو يملك مشروعه الخاص. يمتلك كل مقومات العيش الرغيد في بلد مثل العراق، بكل بساطة كان بإمكانه أن يعطي ظهره لكل الانتفاضة، لكن الغيرة المتأصلة في هذا الجيل، ”جيل البوبجي والعطواني، والتميّع“ الذي ينتمي إليه، جعلَت منه أن يكون وفياً لثورة جيله.

كَسر التابو، وإعادة الألق
بنصبه لخيمته في عمق حديقَة الأُمّة، التي يخشاها الجميع، ويتخوف منها المجتمع؛ لأنها معقل ”الجنس الذكوري/ الذكوري“ أو ”المُثليين“ كسرَ تابو الخوف والقلَقِ منها في آن، أمسَت اليوم قبلة النسوة قبل الرجال، والعوائل قبل الشباب، لو لم يبادر أولاً لذلك الفعل البسيط، لما انكسرَ ذلك التابو.
في ساحة التحرير، قلب بغداد النابضة هذه الأيام، يوجد هنالك نفق يبدأ من السعدون وينتهي عند السنك، وسطَ ذلك النفق، وقُبالَة النصب، تتواجد حديقة صغيرة (باذخة الجمال) تحتوي على عدّة مرافق صحية، ذلك المكان بقي مُغلقاً ومُهمَلاً منذ تغيير النظام عام ٢٠٠٣.
اليوم، وفي هذه الانتفاضة، قامَ يوسف ومن معه في إعادة الروح لتلك البقعة الصغيرة، افتتحها لتتنفّس الحياة من جديد، بعد أن كانَت مُنعزلَةً عن العالم، كما الناس منعزلون عنها، جَمَّلَها، ورسمَ جُدارياتها، وأنارَ مرافقها الصحية، لتَعود لألقها وأكثر. منذ أعوام قليلة انتشرَت في بغداد العاصمة، كما المحافظات الأخرى، كلمة “I Love Baghdad“ وذات الجملة مع تغيير اسم بغداد إلى اسم المحافظة الثانية، تُنصب تلكَ الجملة في أماكن مُختارة، وتكون مُنارَةً في الليل، لم يترك تلك تذهب منه. نصبها في التحرير وأضاف لها الإنارة أيضاً.

سينَما ومَلاعِبٌ ومِظَلّات
هُوَ يُؤمن بالعمَل الجَمعي لا الفَردي، لذلك نجاحه وفق تعبيره لم يكن ليتم لولا فريقه الذي وقف معه في كل صغيرة وكبيرة، بخاصّة في مبادرة شاطئ التحرير، تلكَ المُبادرة التي أفرحَت الكثير والكثير، ما أن انطلقَت.
بالعودة إلى تايلاند، وبما أن يوسف كان يكسر ضيقَتُهُ على شواطئها، وجَدَ أنّهُ من الضرورَة بمكان، أن يكون هنالكَ متنفساً للمحتجين، لا أن يقضوا وقتهم كله في الإرهاق والتعَب، فقرّرَ أن يلتفت نحو شاطئ دجلة عند جسر الجمهورية قرب التحرير.
أهلُ بغداد، ليسَ كما البصرة وأربيل، أهل العاصمة محرومون من نهرهم، لا وجود لاستثمارات قرب الشط تمنحهم القرب منه، لا مطاعم، لا ألعاب ترفيهية، وفوق كل ذلك، ثمة مساحات واسعة لدجلة تحجبها الحكومة عن الشعب بسياج (شَرَك) فاصل بين النهر والناس.
”بانكوك العاصمة التايلندية لا تختلف شيئاً عن بغداد“، يقول يوسف، لذلك قام بتنظيف جرف النهر بالتعاون مع بلدية الرصافة، ونصب ملعبين لكرة الطائرة الشاطئية، وآخر لكرة القدم، وشَمسِيّات يستلقي تحت ظلها المستمتعون بدجلة، وسينَما تحت الهواء الطلق.
سِلميّةٌ وبناء
يوسف فعلَ ما لم تفعله الحكومات العراقية المتعاقبة، كما ما لم تفعله حكومات النظام السابق، أعطى لدجلة ما يريده، وللناس ما تريد من دجلة، بالإمكانيات البسيطة المتوفرة (على عِلَّتِها)، وبفترة قياسية وجيزة، أسبوعٌ لا أكثر. اليوم، أمسى شاطئ دجلة، أو شاطئ التحرير قبلة للمتظاهرين وغيرهم، ينتظرون وقت العصر على أحَرّ من الجمر؛ ليلعبوا الطائرة والقدم، ويتلهّفون بشوق لوقت المَغرب؛ للاستمتاع بمنظر دجلة الخلاّب في تلك اللحظات من اليوم. وينشدون الساعات أن تمر ليحّل الليل؛ فيستمتعون بمُشاهدة الأفلام في سينما الشاطئ مع المُكسّرات والبوشار. أمسى جرفُ النهر المتنفس للمحتجين، وما عادوا يشعرون بالكدَر أو الملَل، يحتجون نهاراً ويتنفسون ليلاً. هذا يوسف، يبرهن الذي هُوَ واحد من بين العشرات إن لم نقل المئات من الشباب والشابات، مِمَّن أثبَتوا أن الاحتجاجات (سلميّة وبِناء)، بالإضافة إلى الاحتجاج هُم يبنون ويُعَمّرون، وما شاطئ ونفق وإنارة التحرير إلاّ بُرهانٌ ودَليل.