من تاريخ الاحتجاجات الوطنية في العراق..مظاهرة يوم التتويج سنة 1922 واثرها السياسي

من تاريخ الاحتجاجات الوطنية في العراق..مظاهرة يوم التتويج سنة 1922 واثرها السياسي

فلاح حسن كزار عباس
بعد مرور عام على تتويج الملك فيصل الأول ، قرر الحزبان الوطنيان (الوطني والنهضة العراقية) القيام بمظاهرة احتجاجية سلمية بذكرى التتويج ، وفي صباح ذلك اليوم (23 آب 1922) احتشدت جموع غفيرة في شوارع بغداد وسارت نحو البلاط الملكي منددة بالمعاهدة العراقية – البريطانية ، مطالبةً بتنفيذ مطالب الأمة العراقية السابقة وهي: ((تأليف حكومة حرة نيابية ديمقراطية مسؤولة أمام الأمة ، مستقلة استقلالاً سياسياً تاماً لا شائبة فيه من أي تدخل أجنبي)) ، و((تأييد سياسة الملك فيصل الأول على أساس استقلال العراق السياسي التام بحدوده الطبيعية)) و((رفض الانتداب البريطاني وكل معاهدة تمس بكرامة الأمة العراقية واستقلالها السياسي التام قبل انعقاد المجلس التأسيسي)) .

وبعد وصول الجموع ساحة القُشلة ، لتقديم التهاني للملك فيصل بهذه المناسبة ، ألقى كل من جعفر أبو التمن ومحمد مهدي البصير نيابة عن الحزب الوطني العراقي ومحمد حسن كبة خطبة حماسية نيابةً عن حزب النهضة العراقية ، كلماتهم التي كررت ما ورد في مذكرة الحزبين وقد ذكر محمد مهدي البصير بعد ذلك في إيضاح موقف حزب النهضة العراقية ((بأنه كان مخالفاً لإقامة هذه التظاهرة ، إلا أنه عندما رأى نفسه أمام الأمر الواقع ، عاد فانتدب أحد أعضائه لإلقاء كلمة بين المتجمهرين)) ، وأظن أن الأمر لم يكن كذلك ، ولاسيما بعد أن اتفق الحزبان كلاها في جلستيهما المنعقدتين يوم 20 و 21/آب/1922 برئاسة السيد محمد الصدر ، على توحيد جهودهما ، ومحمد مهدي البصير نفسه يؤكد أن حزب النهضة العراقية كان قد نشر قبل يوم من ذكرى التتويج كلمته الاحتجاجية في الصحف المحلية التي تضمنت التبريك للملك وللأمة ، مع تذكير حكومة بريطانيا بعهودها التي قطعتها للعراقيين بالاستقلال ، ورفضه أية معاهدة أو قرار لم يصادق عليه مؤتمر البلاد الذي له الحق الشرعي في البت بجميع ما يخص مصالح البلاد وسكانها.
انتدب الملك فيصل كبير أمناء البلاط فهمي المدرس للاستماع للخطب ، ومعرفة مطالب المتظاهرين ، وتبليغها إليه ، ولاسيما بعد أن ألهبت تلك الخطب حماسة المتظاهرين الذين هتفوا بسقوط البريطانيين.
وبعد أن أنهى محمد حسن كبة خطبته ، وقف بعده فهمي المدرس ، ورد بكلمة تناسب المقام ، وفيما هو يتكلم بحماس ، وصل المندوب السامي البريطاني برسي كوكس إلى البلاط الملــكي ، ليقدم التهنئة للملك ، فما كادت تقع أعين الجماهير عليه حتى ارتفع من بينها هتافــاً ينــادي بسقـوط الانتــداب ، وسقـوط بريطـانيا ، تلاها موجــة عالية من التصفيق ، ولم يبد المندوب السامي في تلك اللحظـة أي ردة فعل ، وحافظ على هدوئه ، وقدم التهاني للملك فيصل ، ثم انصرف عائداً إلى قصــره وطالب تفسير الجملة التي أثارت موجة التصفيـق لدى الجماهيـر ، ويذكــر البصــير بأن الذي ترجم تلك الجملة هو رستم حيدر أحـد رجـال البـلاط الملكي ، وتقول المس بيل أن الجملة كانت (فليسقط الانتداب) ، لذا شعر المندوب السامي بحراجة الموقف ، وخشي أن يفلت زمام الأمور من يده ، وتعم الاضطرابات ، فيشكل ذلك نكسة له ولحكومته ، ومما يؤكد ذلك أنه كتب تقريراً بعث به إلى والدة المس بيل بناءً على طلبها ، وصف فيه الظروف التي وقعت فيه هذه الأحداث بالقول "..كانت ظروفاً مضطربة ، وأن يوم الثالث والعشرين من شهر آب عام 1922 ، كان يوماً صاخباً بالاضطرابات والمظاهرات ... وأن ولاية بغداد وعشائر الفرات كانت على شفا ثورة كانت معالمها تدل على أنها لن تكون أقل خطورة عن تلك التي قامت في ثورة العشرين منظمة من العناصر نفسهاً ، وفعلاً أدى الهياج الشعبي إلى توقف واسع للإدارة في لواء بغداد ، وتوقف جميع الواردات في مناطق أخرى من البلاد.
وضع المندوب السامي في حسابه استغلال هذا الحادث للتخلص من العناصر الوطنية في البلاد ، فبعث في اليوم التالي 24/آب/1922 إنذارا شديد اللهجة إلى رئيس الديوان الملكي ، ادعى فيه إنه لقي من الإهانة في وقت كان يقدم مراسيم التبريك باسم صاحب الجلالة البريطاني ، وهو أمر لا يصح السكوت عنه ، وطالب بمعاقبة المسؤولين عن هذه الحادثة ، ووجه في الوقت نفسه انتقادات لاذعة لشخص الملك ، وحاول الإيحاء بأن الحادثة من صنع ((البلاشفة)) ، وإن هناك مكيدة دبرت لخلع الملك فيصل وإنه اكتشفها ، وطلب من الملك تقديم الاعتذار بصورة رسمية ، وعزل كبير أمناء البلاط فهمي المدرس عن منصبه ، إذ عدّه مسؤولاً عما حصل ، وأشار إلى ذلك بالقول "...ويكفي أن أقول عما يظهر إنه من تدبير كبير أمناء الملك العاملين في القصر ، فإن موعد قادة الحزبين المتطرفين قد وقع بالضبط قبل موعد حضوري ، وبعد تقديمهم التهاني إلى الملك ، أطالوا زيارتهم إلـى غرف القصـر الملكي لتأكيد من أنهم سيكونون حاضرين ساعة وصولي" ، ونشـر المنـدوب السامــي الإنذار في صحيفة الأوقات البغدادية يوم 26/آب/1922 ، وفي اليوم التالي طلب الملك فيصل من سكرتيره الخاص رستم حيدر ، أن يقدم اعتذاراً رسميا للمندوب السامي ، ونقل فيه أسف الملك إلى برسي كوكس ، وأكد له بأنه سيعمل كل ما هو لازم ، ويصلح الحادثة حسب رغائب المندوب السامي.
لقد أشار المؤرخ الحسني الذي كان شاهد عيان للمظاهرة ، أن الهتافات التي انطلقت من أفواه المتظاهرين لا تخلو من أصابع بريطانية ، وأشار إلى ذلك بالقول "إن المندوب السامي كان يلتمس وسيلة لإنزال ضربته بالوطنيين ، فإنه كان حتى قبيل تقبله هذه الإهانة ، متردداً في اتخاذ خطة الشدة لقمع ما كان ينذر بثورة أخرى في العراق مثل ثورة 1920 ، فأزالت حادثة البلاط التردد وشحذت فيه عزماً كان موضوع ريبة الناس" ، فضلاً عمّا آلت إليه الحادثة من سقوط الوزارة النقيبية الثانية ، ووصول الملك إلى طريق مسدود واعتقاد المندوب السامي بأن الوقت قد حان لأخذ زمام السلطة بيده، لكني أعتقد أن تلك الهتافات كانت عفوية وطبيعية في مثل تلك الظروف ، وإن الدافع الوطني هو الذي حرك الجماهير ودفعها للنطق بها ، ولاسيما بعد عدم التزام بريطانيا بوعودها التي قطعتها للعرب بصورة عامة ، وللعراقيين بصورة خاصة في نيل استقلالهم التام ، ورداً على رأي السيد الحسني ، أنه لابد من الإشارة إلى أن الوزارة قد استقالت يوم 19/آب/1922 ، أي قبل حادثة البلاط بأربعة أيام.
ومهما يكن من أمر ، فقد أشعر الملك كبير أمنائه بأن وجوده قد يؤدي إلى حدوث مشاكل مع المندوب السامي فقدم فهمي المدرس استقالته التي نشرت لاحقاً في الصحف المحلية.
وفي هذه المدة وبمحض الصدفة ، أصيب الملك فيصل الأول بالتهاب الزائدة الدودية التي جعلته أسير قصره فنصحه أطباؤه البريطانيين بضرورة إجراء عملية استئصال لها بأسرع وقت ، وبعد هذه الحادثة اضطرب الجو في بغداد ، وأخذ ينذر بالانفجار ، فانتهز المندوب السامي ذلك ، ولاسيما أن البلاد من غير وزارة ، ومن غير ملك ، إذ نقل الملك لإجراء عملية جراحية واتخذ قراراً بتولي زمام الأمور بنفسه ، وأصدر عدة قرارات في غاية الخطورة تضمن الأول تعطيل الحزبين الوطنيين (حزب النهضة العراقية ، والحزب الوطني العراقي) ، وتضمن الثاني تعطيل صحيفتي (المفيد والرافدين) ، وتضمن الثالث إصدار أوامر إلقاء القبض على العناصر الوطنية من الحزبين وهم: جعفر أبو التمن ، وحمدي الباجة جي ، ومحمد مهدي البصير ، وأحمد الشيخ داود، وأمين الجرجفجي ، وعبد الرسول كبة ، والشيخ حبيب الخيزران ، فضلاً عن إصدار أمر باعتقال إبراهيم حلمي العمر صاحب صحيفة المفيد ، وسامي خوندة صاحب صحيفة (الرافدان) ، وأمر بنفي المذكورين إلى جزيرة هنجام ، وأصدر أمراً بفصل الموظفين المساندين للحركة الوطنية من وظائفهم منهم: علي جودت الأيوبي متصرف لواء الحلة ، وشاكر الملا حمادي قائمقام قضاء أبو صخير ، وخيري الهنداوي قائممقام قضاء الشامية ، وأمر بنفي بعض علماء الدين البـارزين إلى خارج العراق ، منهم: السيد محمد الصدر ، والشيخ محمد مهدي الخالصي ، وأمر الطائرات البريطانية بقصف مضارب عدد من القبائل في الفرات الأوسط ومنطقة ديالى ، وأبلغ وزارة المستعمرات البريطانية بتلك الإجراءات التي لاقت الإستحسان من وزير المستعمرات البريطانية تشرشل. وهكذا وضع المندوب السامي سياسة محاربة الأحزاب والصحف الوطنية الحرة المعارضة للوجود البريطاني موضع التطبيق وبرغبة من السلطة الاستعمارية التي استغلت البلد أبشع استغلال في تلك المدة.
عن: رسالة (حزب النهضة العراقية 1922– 1930م)