زمنٌ جميل مضى،  زمنٌ جميل ينبعث من ساحة التحرير..!

زمنٌ جميل مضى، زمنٌ جميل ينبعث من ساحة التحرير..!

 بقلم متظاهر

مضت سنوات الحسرة على الزمن الجميل. توارت ظلالها عنا، ونحن نشيح أبصارنا عن تفجّعنا بسنوات الظلمة والجهالة والنكران والاستلاب. اربعة عقودٍ تَشيّأنا فيها، لنصبح موضوعاً لقهرٍ يَنتزع منّا إنسانيتنا، وتُستباح فيها منابت رِفعتنا، وطاقتنا على الخلق، وأنشودتنا بالحياة وللحياة.

أربعة عقودٍ، كاد اليأس فيها أن يأخذنا كل مأخذٍ. ينال من ماضينا، يقفز على إضاءة تاريخنا لحضارة بني البشر وهو يحتفي بسبعة آلاف عام من عطاء لم ينقطع. لم نكن فيها، حتى ونحن نقاوم العبث بمصائرنا مركونين في زواياها الهامشية. حتى سنوات القهر وهي تغطي أربعة عقود من محاولات تدجيننا، ولّدت أجيالاً، تناكف وترفض وتتحدى، وتترك وراءها نماذج من بطولاتٍ لم تنكسر إرادتها في مواجهة القسر والإلغاء والتشويه والتدجين.
أربعة عقودٍ أرّختها فصولاً من المتواليات السياسية، أشباه بشرٍ، نفايات من رجالٍ ضاقت بهم حاويات فضلات التاريخ، لتأتي بهم دورة التاريخ وهي في مرحلة انحطاطها، لتنتزع ارادتنا، وتزرع في روحنا شوك اليأس، واللاخلاص، وتسد في وجوهنا باب المرتجى..!
أربعة عقودٍ أكملت دورتها في يومٍ مشؤومٍ، التقت فيه لحظة الخلاص الُملتَبِس، ومقدمات مستقبلٍ تغيب عنه الرؤيا، وهي تزدحم بأشباح ماضٍ متلبسٍ بما ليس فيه، وبما فيه من مكرٍ ونزوعٍ مجبولٍ على البحث في ضمائرنا، والحكم علينا بالشبهات عن إيمان توهمنا بانها حراسها ومورد قيمها وإضاءتها..!
أربعة عقود انتهت في التاسع من نيسان ٢٠٠٣ لتبدأ دورة عودةٍ الى مضارب الصحراء قبل الف واربعمائة عام . عودة لم تُسترجع فيها مآثر وتشوفات، بل أشباحٌ تجول في صحاري الخواء والتخثر والانزياح.
من هذا التاريخ، جربنا ما لم يكن في الحسبان. عودة الى الهويات الفرعية، بأسوأ ما انطوت عليها من قيمِ الرثاثة والتحريم. القتل على الهوية. تدوير مسوخٍ من الماضي، تحولت خلال أيام الى رموزٍ للمستقبل، نزعوا عنهم كل ما يؤشر لماضيهم، وتزينوا بلحى التقوى، ووشم الايمان على الجباه، ورياء تقليد السلف الصالح.
عبر ستة عشر عاماً، من هيمنة طغمة ما بعد الصنم، صار العراق سبّاقاً في كل ميادين السياسة والتعليم والصحة والنظافة والقيم الأخلاقية. يحتل في كل منها الصفوف الاخيرة. الأسوأ والأكثر انحداراً في كل مجالٍ ومنحى. والأول في مجمّع المباءات، والتحدر، والانحطاط، والتخلف، والرثاثة، والفساد. تلبّس العراق الفساد كأنه صار جزءاً منه، ودلالة بيّنة عنه. عُرف في العالم بوصفه موطن الفساد. فساد صالح للاستعمال في الدولة والمجتمعات ومنتديات الدعارة والمجون. فساد للتصدير. فساد حسب الطلب..!
سنوات من حكمٍ جائرٍ، ملوثٍ بمظاهر لا تستقيم معها الحدود الدنيا من معاني النزاهة والشرف والاستقامة والأمانة والعدالة. تشوهت فيها حتى الطقوس والمراسيم الدينية.
لم يبق للعراقيين وهم يواجهون استباحة حاضرهم ومستقبلهم، سوى الرجوع الى الماضي. يُنَقّبون في أعماقه، ليستجيروا بما فيه من إضاءات وإشراقٍ، زاداً يدارون به خيباتهم ومرارات حاضرهم وغياب أفق واعد بمستقبل مختلف.
فكان "لُقيَة" الزمن الجميل،.... " إيقونة " الصبر على المكاره..!
"الزمن الجميل" صار أنشودة الجميع، يتغنى به العامة قبل الصفوة من الكتاب والشعراء والفنانين ورجال السياسة ايضاً. أنشودة نبكي باستعادة صورها، على الحاضر. ننوح من ضعفنا. ونتأسّى من خذلاننا، وقلة حيلتنا على رد المكاره. ليأخذنا اليأس والقنوط إلى نفق مظلم لا نهاية له.
ودون مقدمات، ولا ادعاء بتوقع آتٍ، ينبعث من مكان مجهول مهملٍ في الوعي، بشائر زمنٍ جميلٍ غير مسبوق.
زمنٍ لا كالأزمان. جميلٌ يوحد الماضي بالحاضر والآتي.
زمنٌ صنعه جيلٌ غاب عن الرؤيا ستة عشر عاماً من القحط والانكسار، أو غيّبَتهُ المكاره حتى عن أكثرنا وعياً بدروس التاريخ وتحولاته.
زمنٌ أضفى على "التكتك"، جمالاً وجسارة ومعاني لم يشهدها الماضي الجميل. فتوّةً نضحت قيماً، وفرادةً، وإقداماً، وتجاوزاً للذات، ليس في الماضي الجميل مثل كثافته، شبيبةٌ عُجِنَت من طينة مباركةٍ، لم تتدنّس، أو تتفحم.
أدهش العالم، فتوّتها، ومشاهد اقتحاماتها. والإعجاز في إيثارها، وإستعدادها للفداء.
لم يعد الزمن الجميل ماضياً. صار حاضراً يتألق، وتتفتح براعمه الجديدة كل ساعة ويوم. صار له عنواناً. سيصبح المطعم التركي، جبل أحدٍ يتوشح بالضوء واللون، فناراً يستهدي به كل غريبٍ يبحث عن مآثر بطولاتٍ ستعيش في الذاكرة وتتوالد منها أجيال تنتشي بزمن جميل كانت بائنته بطولاتٍ وجسارة لم يشهد لها تاريخ العراق مثيلاً. حياة كانت تطلعاً، صارت واقعاً يزدهي بحضوره، المتشوفون للحرية والجمال.
صار للزمن الجميل مزاراً. بات المزار عراقاً في ساحة. وساحة في عراقٍ مختلف، جديد.
لقد افتقدنا معاني الجمال، فَرُحْنَا نبحث عنها في صور نتداولها ونمعن النظر فيها، ونتغنى بما كانت تنطوي عليه الأيام الخوالي، من رقيٍ، وارتقاء، وازدهارٍ، ورقةٍ، وانفتاحٍ، واستشرافٍ للآتي، الأنقى والأجمل والأبهى.
كل ما هو جميل، له مكانٌ في ساحة التحرير تحت جدارية جواد سليم.
أيتها الساحة التي لمّت في امتداداتها، وطناً مستباح.
يا ساحة التحرير، أي نبوءة أوحت بجدارية الحرية، هل كان جواد سليم عرّافاً، متخيلاً، مصباحاً للكشف عن خبايا الأيام، يا ايتها الساحة المباركة، ستأتي أجيال يولودون ويُعمّدون تحت ظلال جداريتك.
ستكون زيارتك بعض مهرٍ لعرسان يتبركون بكِ.
وفي بركة نافورة، سنبنيها لتكون أيقونة نذورٍ وتمنياتٍ.
يا ساحة التحرير، لا تتعجلي، فستصبحين معبداً لعشاقٍ، متيّمين بالعراق..