جماليات الصورة الشعرية في شعر..كاظم اسماعيل الكاطع

جماليات الصورة الشعرية في شعر..كاظم اسماعيل الكاطع

علي الامارة
في التجربة الشعرية للشاعر كاظم اسماعيل الكاطع غنى فني ولغوي ضمن مساحة الشعر الشعبي واللغة اليومية العامة او الدارجة .. وقد دأب الشاعر على تفعيل الصورة الشعرية في قصيدته منذ بدايته في مطلع السبعينات من القرن الماضي اكد من خلال مجموعته الشعرية الاولى - شمس بالليل - بان له لغة شعرية خاصة مدعومة بفنون الشعر سواء في الصورة الشعرية او الانزياحات اللغوية والمجاز والمفارقة التي لاحت منذ العنوان - شمس بالليل - حتى اعماق قصيدته..

ولكن لنقف هنا عند قضية الصورة الشعرية لدى الكاطع ونتساءل أي من هذه الصورة اشتغل عليها نصه الشعري ونماه عبر رحلته الشعرية الطويلة التي جاوزت الاربعة عقود من الزمن .. وما هي المكامن الفنية التي حافظت على هذه الصورة الشعرية وفعلتها بشكل متنام ومتصاعد عبر مساره الشعري وفي كل نص تجد تمظهرات هذه الصورة التي تميز قصيدته .... ؟؟
سنجيب على هذه الاسئلة لنشخص هذا الجانب الفاعل والمؤثر في تجربته الشعرية..
ان الصورة الشعرية عند ه يمكن رصدها بميزتين اساسيتين الاولى هي الصورة الشعرية المستخدمة لفنون الشعر المعروفة كالايجاز والمجاز والتكثيف والحذف والكناية والتشبيه والاستعارة وغيرها من الفنون التي تحقق الشعرية في النص ضمن مسار الصورة الشعرية .. أي تلك التي تحقق الانزياح اللغوي وكسر المالوف وتحقيق الدهشة وكسر افق التوقع او التلقي ..
والسمة الثانية هي ان هذه الصورة الشعرية محمولة على اكف فكرة شعرية مستمرة داخل النص .. أي هناك مهاد دلالي وارضية مضمونية تسير عليها هذه الصورة الشعرية بما يحقق تعالقا نصيا دلاليا وفنيا بين الصورة والفكرة .. فتكون شعرية النص منبثقة من هذا التعالق وهذا التآزر بين هذين المكونين الفعالين في النص وتفعيلها بقدرة الشاعر على التنسيق الفني بينهما والتناغم الدلالي الذي يشع جماليا على الجانبين الصورة والفكرة ..
ان الفكرة الشعرية وحدها لا تكون قصيدة مميزة اذا لم تعالج هذه الفكرة بمقومات فنية ترفعها الى مقام الشعرية المتوهجة في النص..
ان كثيرا من الافكار الشعرية النادرة لم تتح لها معالجات فنية قادرة على تنويرها او تثويرها شعريا فبقيت هذه الافكار مشروع فصائد او قصائد لم ترق الى مستوى التميز والادهاش في حين ان الافكار الشعرية التي تعالج بتقنية فنية اصبحت قصائد مميزة وهذا ما نراه في نص كاظم اسماعيل الكاطع الذي دأب على خلق التوازن بين هذين الركنين الاساسين في القصيدة الفكرة والصورة ...
لا توجد صورة شعرية سائبة عند الكاطع ولكنها صورة ممسوكة بقوة السياق النصي والعمق الدلالي المنبثق من خزين الفكرة الشعرية لديه ..
وفي تناولنا لقصيدتين للشاعر هما قصيدة - سفرة مجانين - وقصيدة - اخر ليلة - ومقاربتنا القرائية والتحليلية لهما وجدنا هذه الخاصية التعالقية واضحة يمكن تشخيصها ودراستها ..
فكرة الحب البارد في قصيدة سفرة مجانين
فلو اخذنا صورة شعرية من هذه القصيدة لنقرا اولا انزياحها اللغوي الذي جعل منها صورة شعرية ثم نقرا تعالقها النصي والدلالي مع فكرتها فمثلا نقرا :
حتى هذا الكمر لعبة
من خلص دوره وطلعنا
نزلوه اهله بحبل
هذه صورة للقمر الكاذب - اللعبة - حققت فنيتها من لعبة تنزيل القمر بالحبل .. هذا التصوير المسرحي والخيالي للقمر ... ولكن هذه الصورة جاءت ضمن سياق دلالي للقصيدة التي قدمت لفكرتها بان العلاقة بين المخاطب - صاحب النص والمخاطب - بفتح الطاء هي علاقة - حب بارد - كما وصفها في مطلع القصيدة والتوبة من اول تجربة او اول لقاء .. وكانت هناك صورة شعرية قدمت لهذه الفكرة وهي :
جربت مرة
وبعدها زنجر بكلبي القفل
يوم حب بارد جمعنا
وعرفت ما نشتعل
لقد تحقق الان مسار الفكرة الشعرية وسياقها فعلى الشاعر ان يكرس تحقيق هذا المسار للفكرة من ناحية الدلالة ويكرس التوهج الفني او المعالجة الشعرية للنص ليجسد شعرية الفكرة وينميها من خلال هذه المعالجة الفنية فكانت الصور الشعرية المنتشرة في القصيدة او التي تاتي ضمن سياقها وضمن تطلب المساحة الدلالية التي تجعل الفكرة تشع يصورتها .. على اساس ان الفكرة او الموضوع الذي تناوله الشاعر هو اكبر من الصورة الشعرية بالتاكيد فالقصيدة ليست كلها صور شعرية و لا يجب ان تكون كذلك فهناك لغة حقيقية اخبارية يتطلبها النص الشعري في كثير من الاحيان لكي يعبر عن موضوعه وموضوعيته .. اما الصورة الشعرية فهي الالتماعات والتحليقات الفنية ضمن هذا النص .. او كما قلنا هي الجانب الاكبر من المعالجة الفنية لهذا الموضوع و لاسيما اذا كان الموضوع بالاساس فكرة شعرية - هنا فكرة الحب البارد - ضمن قصيدة سفرة مجانين هذه الفكرة التي يستمر الشاعر بشحنها بالقوة الشعرية من خلال الصور الشعرية المنتشرة بالنص بما يحقق الموازنة بين الصورة والفكرة فنقرا :
والتماثيل اتحرك
وعلى طعنات السيوف الحجر يضحك
ان هذه المشاهد المسرحية الكاذبة هي ما تفعل وتكرس مشهدية - الحب البارد - غير ان مهاد الفكرة كما قلنا يتطلب الاخبار بلغة حقيقية غير مجازية فياتي هذا الاخبار او الخطاب باللغة الحقيقية :
وعلى المايسوى تطيح الروس جملة
والشوارب تنفتل
والطيور ملثمة بباب الحدايق
بينها ثارات ودموم وفصل
الساقية البيتك عليها
مو مثل باقي السواقي
كل هذا خطاب ضمن لغة حقيقية وان كانت لا تخلو من تشبيه شعري ولكن هذه اللغة سرعان ما ترتقي الى فنها :
شكد عجيبة الساقية البيتك عليها
ميها ... كل قطرة شكلّ !!

هذا التمازج بين اللغتين الحقيقية الاخبارية والمجازية الشعرية ادى الى قوة التضافر بين الفكرة والصورة على خلق خطاب شعري عام او اسلوب شعري ضمن القصيدة
ثم يعود الخطاب الى مباشرته واخباره عن موضوعه لكي يبقى النص ماسكا خيط موضوعته ومشدودا بين جانبي المخاطب والمخاطب وبين الناص والمتلقي .. فنعود الى الطرح المباشر :
شحصل الكبلي واجي لبيتك واخدمه
ومثل الكلوب اشتعل
ثم يحلق بصورة شعرية :
الشمس ترجع لاهلها العصر عمية
ثيابها بطين الحدايق تنغسل
هذه الصورة يدسها الشاعر ضمن الخطاب المباشر للاخر حتى لا ينزلق النص الى تقريرية حذر منها الشاعر بمجساته الشعرية الفنية :
كل حصيلة ذكرياتك
كاتل ومكتول صرنا
والحقد بناتنا همزة وصل
وهكذا يستمر التعالق بين اللغتين الحقيقية والمجازية من ناحية وبين الفكرة الممتدة ضمن مساحة القصيدة وبين الصورة المقومة لها .. .. ليستمر النص على هذه الطريقة حتى يصل الى ذروته الفنية والدلالية حين يقسم الشاعر الرواية الى فصلين وحين يصل الى البؤرة العنوانية :
هسه انه وياك والبر
سفرة مجانين حرة
وانتهى دور العقل
ويقسم هذه السفرة الى ايام ليدخل الزمن ضمن اللعبة الفنية والدلالية ولباخذ النص بعده واثره الرمزي البالغ في الحياة العراقية التي كتبت هذه االقصيدة في اثنائها :
ويوم مر
ويوم ثاني
وما يسمعك هالرمل لو كتله حل
ويوم ثالث ويوم رابع
الى ان يصل الى اليوم السابع الذي قد لا ياتي او قد لا نصل اليه :
وما نلحك على السابع يمكن و بي نحتفل
وتعود القصيدة الى خطابها الموضوعي بلغة حقيقية لتوضح فكرتها وموضوعها :
وبعد شيفيد اعتذارك
ينقبل ما ينقبل
بالسما الغربان باعتنه وشرتنا
وقسمتنا نصير جم وجبة اكل
لتنتهي القصيدة بنبوءة شعرية مستمدة استقراءها في الزمن والحدث من فكرتها الاساس التي هي فكرة الحب البارد ...
فكرة - رثاء النفس - في قصيدة اخر ليلة
اما في قصيدة - اخر ليلة - فان الفكرة الشعرية فيها هي فكرة - رثاء النفس - وهي فكرة معروفة في الشعر العربي لعل قصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه تنم بوضوح عن هذه الفكرة وهو يصف جنازته التي تسير خلفها النساء :
فمنهن امي وابنتاها وخالتي
وواحدة اخرى تثير البواكيا
فقصيدة - اخر ليلة - للشاعر كاظم اسماعيل الكاطع مبنية على هذه الفكرة الشعرية من ناحية ، وعلى معالجتها الفنية من ناحية اخرى .. حيث يقدم لها بمهاد لغة حقيقية اخبارية ثم تليها صورة شعرية تعمق من هذا المهاد وتوسع من فضائه الشعري :
الليلة اموت
الليلة اخر ليلة
هذا هو الاخبار باللغة الحقيقة ثم ياتي التعميق الفني بالصورة الشعرية :
الغيم مد ايده على راسي
والمطر شد حيله
وتوضح منذ بدء القصيدة ومدخلها الدلالي الى ان هناك فكرة شعرية معمقة بفن شعري موزع على توظيف الاحساس الكثيف بهذه الليلة ونثر الهواجس التي تعتري النفس وهي تحس بليلتها الاخيرة وبين حبل الحنين الواصل الى بدايات حياة الشاعر أي انها ليلة مضغوطة شعريا بين حد الموت وحد الحياة .. غبر ان الشاعر يكرس هذا الاحساس بالموت بلغة شعرية متنامية ولعله يلتقي كثيرا مع ابن الريب بل يتعمق اكثر بقوله
اوف نعشي شلون اوصله لباب اهلنه
ومن يكابلني عليه وانشيله
ثم يستمر :
الليلة كلبي ينام دافي
وتندفن وياه حرارة جيله
الدم ينبع من سراديب الضلوع
ويرسم جروحي على الفانيله
ففي هذا الجانب من الاحساس بالموت ينتبه الشاعر الى ان اللغة الشعرية هي المطلوبة لتاجيج هذا الاحساس لذلك يستمر بلغته المجازية المباغتة :
وطير من بين الضلوع يطير وتلحكه السهام
وقيس يخسر ليلى
وكمر سكران
على ميز قمار ضيع ليله !!
ويستمر هذا المقطع الذي يصف الاحساس بالموت بالتحليق بصور شعرية متدفقة :
تفيض روجات الحسافة وتكسر الشط
يا سنيني الرايحات وداعة الله
انطني بوسه
موادع الخل لخليله
يا نخل يا عاكر احبل
ضوك طعم الفاجعة بموتة فسيله
ثم ينتقل الى لغة هي الى الحقيقية اقرب منها الى المجاز لانها انسحبت الى منطقة الحنين وذكر مفردات هذا الحنين التي يتطلب ذكرها لغة حقيقية لتكرس فكرتها الشعرية وموضوعيتها :
وصيح ..
يا هور الحزن
لا تغفى يا هور الحزن
تابوت اجاك ويه الكصب
فزع طيور الماي خلها ترافكه وتنعيله
تابوت اجاك ويه الكصب
بهداي حطه على الجرف
ومحمداوي من الكلب غنيله
وتستمر لغة الحنين هذه مكرسة فكرة رثاء النفس حتى يصل الحنين الى قوله :
اتمنى الشته .. وحضن الحبيب
وسيف كاتلني كبل هالليله ..
ان هاتين القصيدتين وغيرهما كثير في تجربة الشاعر كاظم اسماعيل الكاطع تنم عن الاسلوب الشعري الخاص لدى الشاعر بالمزاوجة الفنية العالية بين الفكرة الشعرية والصورة الشعرية من ناحية والموازنة بين اللغة الحقيقية او اللغة المباشرة واللغة الشعرية المجازية المطلوبة ضمن سياقها لترتفع بالنص الشعري الى مقام عال من مقامات الشعرية ..