ريمارك.. لاشيء هادئاً في الحروب

ريمارك.. لاشيء هادئاً في الحروب

علـي حســين
فجأة سمعت وقع أقدام أعرفها جيداً، أخرجت الخنجر فطعنته، أخذ يصرخ، لكنني واصلت الطعن وصوّبت إليه في النهاية ضربة قوية فهوى على الأرض، لقد طبقت عادة مبدأ الحرب الدائم:”اقتل أو تُقتل”لكن الرجل لم يمت، بل كان في النزع الأخير، فتح عينيه وجعل يحدّق إليَّ بعينين مفعمتين بالرعب والهلع، كانت الجثة ساكنة، لكن رغبة الفرار التي نطقت بها عيناه كانت من بلاغة التعبير بحيث خيّل إليّ أنها ستحمل الجثة حملاً وتفر بها ذعراً من الموت – أي منّي – لئلا أجهز عليه".

لم ينته الأمر، بطل الرواية ينظر إلى عدوّه الذي تحوّل الى جثة متأملاً حزيناً، يحاول أن يطمئنه، يهمس في اذنه، يرفع يده ويضعها فوق جبين الميّت لكي يفهمه أنه يريد إسعافه، ينظر الى عينيه التي غابت في نوبة من الفزع المميت، لم ينتهِ المشهد بالقتل، فقد قرر بأنه ما أن تنتهي هذه الحرب اللعينة ويعود سالماً، حتّى يبدأ رحلة البحث عن زوجة القتيل وأطفاله عسى أن يستطيع تقديم يد العون لهم.
بمثل هذه الصور المفزعة تمضي أحداث رواية”كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، ويقول إريك ماريا ريمارك في حديثه عن الرواية، إن المشهد لم يكن من الخيال بل هو حقيقي، ولهذا أصرّ أن يجعل منه مشهداً رئيساً في روايته التي صدرت طبعتها الأولى عام 1928 ـ لتعد من أولى الروايات التي وقفت ضد الحرب أيّاً كانت مبرّراتها.
لم يوافق أحدٌ من الناشرين الألمان على طبع الرواية التي أرسلها الى معلمه توماس مان، ليرسل إليه الأخير خطاباً يطالبه بإعادة كتابتها لأنها في صيغتها الحالية عبارة عن ضباب من الكلمات. ولأن ريمارك يدرك أنه يسير ضدّ التيار السائد للرواية الألمانية آنذاك، لم يبالِ كثيراً لكلمات توماس مان رغم تقديره الشديد له، فقد كان يدرك في قرارة نفسه، أنه مصممٌ على أن تكون روايته الجديدة مثل حجرٍ ضخم يُلقى في بحيرة الأدب الراكدة.
لم يجد أمامهُ سوى المجلة التي يعمل فيها”الرياضة المصوّرة”فربّما يقتنع رئيس التحرير بطبع الرواية، لأن دار النشر تطبع الكتب أيضاً. ولكن من يغامر بشراء رواية لكاتب مبتدئ في زمن يعاني فيه الناس من أزمة ماليّة صعبة، يسأله رئيس التحرير عن موضوع الرواية فيجيب:
- الحرب
- انصحك بأن تمزقها، من يريد اليوم قراءة رواية حربيّة، يقول له رئيس التحرير.
يكتب لوالده:”الظاهر أن مغامرتي الاولى في الأدب لن ترى النور"، الصدفة تلعب دوراً كبيراً في مستقبله، كان قد أرسل نسخة من الرواية الى دار نشر في بون، وقد وصلت النسخة الى يد أحد الفاحصين في الدار، الذي جلس ذات يوم ليقلّب ملفاته فعثر على المسودات فقرر أن يقضي معها بعض الوقت، وبعد صفحات قليلة، يكتشف أن بين هذه الأوراق رواية عجيبة ومؤثّرة، يضطر الى أن يعرض الأمر على مسؤولي الدار:
- لقد وجدت هذه الرواية مؤثرةً بشكل غير طبيعي..انصح بطباعة عشرة آلاف نسخة منها، قال الفاحص فورتيس.
التردد يصيب الجميع.. إلا فورتيس الذي يكمل: إذا وجدتم في الأمر مجازفة، فالخسارة سأتحملها أنا.
وبعد مناقشة دامت أياماً، وافقوا على طبع الرواية، لكنهم اقترحوا أن تنشر في البداية على شكل سلسلة حلقات في جريدة”فويس”التي تصدر عن دار النشر، المسؤولون على الصحيفة يعترضون، فالرواية في نظرهم غير مشوّقة، والناس تكره الحديث عن الحرب، والأهم أن الصحيفة لاتنشر إلا لكبار الكتّاب من امثال توماس مان وهاوبتمان وبعض قصص هيرمان هيسة، لكن رأي الخبير انتصر في النهاية وظهرت الحلقة الأولى من الرواية في العاشر من تشرين الثاني عام 1928، ولم يصدق اصحاب الصحيفة ردود أفعال القرّاء غير المتوقعة، الجميع لاحديث له سوى حكايات الميدان الغربي، وما أن صدرت الحلقة الثانية حتى تجاوز طبع الصحيفة المئة ألف نسخة.
اصحاب دار النشر يعقدون اجتماعاً طارئاً ليتخذوا قراراً بوقف نشر الحلقات، وطبع الرواية كاملة وبمئة الف نسخة، لكن هذا الرقم يخيّب تقديرات الناشرين فقد نفد خلال ساعات، الكتاب يباع بسرعة مذهلة، وتضطر دار النشر الى أن تستعين بمطابع أخرى، في بداية عام 1929 تتجاوز المبيعات المليون نسخة، بعد عام تباع خمسة ملايين، لكن الناشر والكاتب يواجهان مشكلة جديدة، فقد تعرضا لموجة شديدة من الكراهية، ريمارك يُتهم بمعاداة ألمانيا، وتنشر بعض الصحف مقالاً بقلم غوبلز- وزير دعاية هتلر فيما بعد - يصف الكتاب بالقذارة. وأن مؤلفه غير الألماني الذي ينتحل إسماً غير معروف، بل ويشكك كاتب المقال بمشاركته ريمارك في الحرب. الهجمات التي تشنها الصحف الرجعية، تتحول إلى افضل دعاية للكتاب الذي تتجاوز مبيعاته العشرة ملايين نسخة ويترجم الى معظم لغات العالم. الكتاب يباع بنجاح كبير، ويضطر الناشر الى أن يستعين بمطابع أخرى لتساعده في الطبع. في عام 1930 تُباع منه في ترجماته العديدة اكثر من 30 مليون نسخة، ويقرر القائمون على طريقة بريل في القراءة طبع اول رواية لفاقدي البصر.
شكلت الرواية صدمة للقرّاء ومفاجأة لنقّاد الأدب، إلى درجة أن أعمال ريمارك اللاحقة ستقاس عليها وستقارن باستمرار بها، بل أن اريك ماريا ريمارك سيكشف في حوار صحفي عام عن حقيقة قلّما انتبه إليها مؤرخو الأدب، حقيقة أن رواية”كل شيء هادئ في الميدان الغربي”كانت في صميمها وبصرف النظر عن هواجس الخوف التي ترافق الإنسان وهو يواجه الموت، رواية وجودية بامتياز، خصوصاً أنها كتبت في وقت كان الذل والهزيمة اللذان تليا استسلام ألمانيا خلال تلك الحرب العالمية الاولى قد تحولا إلى نزعة عسكرية ألمانية خطيرة وشديدة الشعبية في الوقت نفسه، وهذا ما يحدث عادة مع الشعوب التي تهزم ويتلو هزيمتها جرح عميق لكرامتها فتتحوّل إلى شعوب تنتظر اللحظة المناسبة للسير في دروب العنف ولتثأر لا لكرامتها، بمقدار ما تثأر من وجودها كأمة مهزومة، ويضيف ريمارك:"لقد كتبت رواية عن الحرب، من الذي يشعلها؟ ومن الذي يستفيد منها؟".
ريمارك يصبح مشهوراً وغنياً لكنه غير سعيد، رسائل مجهولة تصله باستمرار تهدّده بالموت، الحزب النازي يواصل صعوده بقوة، ريمارك مقتنع تماماً بأن هتلر سوف يتسلّم مقاليد السلطة الآن أو بعد سنوات، وستكون ألمانيا مهدّدة، يقرر السفر الى سويسرا، ليصبح أوّل أديب منفيّ. يصحو ذات يوم من عام 1933 على نشرات الأخبار تعلن تعيين أدولف هتلر بمنصب مستشار المانيا، وها هو عدوّه القديم غوبلز يؤدي اليمين وزيراً للدعاية. لايزال ريمارك يتذكر مقال غوبلز عنه، وطافت في ذهنه صور وزير دعاية هتلر عام 1930، وهو يقود مع رفاقه في برلين الهجوم بالقنابل على دار السينما التي عرضت الفيلم المقتبس من رواية”كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، الأمر الذي دفع بالرقابة الى منع عرض الفيلم، كان هذا اول انتصار لغوبلز، والآن جاء الانتصار الثاني، فقد صدر قرار بمنع الرواية، وحرق جميع النسخ الموجودة منها، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فلابد من قرار جديد بسحب الجنسية من الكاتب الذي باع وطنه للأجانب، هكذا صدر الأمر بإمضاء أدولف هتلر.
في سؤال طرحته صحيفة التلغراف على عدد من الكتّاب عن أهم رواية كتبت في القرن العشرين، كانت اجابة الكاتب التركي الشهير يشار كمال:”طلب منّي مؤخّراً تسمية الرواية التي فكّرت أنها أفضل ما يعكس جوهر القرن العشرين، الذي ربّما كان القرن الأكثر إيلاماً للبشرية، القرن الذي شهد اهانات لا انسانية، وحروباً عالمية دامية، وجرائم إبادة جماعية. كنت قد تمنيت لو أننا تركنا وراءنا إرثه من المخاوف، والحزن، وفقدان الحسّ تجاه الموت.. ويمكن لرواية”كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، تلك الرواية التي سبق وأن قرأتها قبل سنوات، أن تبدو كأنّها كتبت اليوم.
تتطلب مثل تلك الروايات شيئاً أكثر من موهبة كبيرة، لأنها كتبت في لحظة خطرة من حياة الإنسان. لنتذكر أنّ هتلر قد أحرق الكتاب في ساحة عامة. وقد فتشوا عن كاتبه اريش ماريا ريمارك للقضاء عليه أيضاً. لكنه نجح في الهرب.
تقول هذه الرواية أنه ليس هناك أيّ أمل للمتورطين في الحرب، يصبحون مرضى بطريقة أو بأخرى. وإذا نجا فرد من الحرب فإنّه يتضاءل وجوده ككائن بشري.، الحرب هي حكم بالإعدام على كلّ الناس والطبيعة، فهي تفسد إنسانيتنا، وضميرنا.
يقف الفن الحقيقي، ضد الظلم والعنف، وضد أيّ نوع من الوحشية. إنّ الفن، هو تمرّد. يحذّر لناس ضدّ الأكاذيب، والقمع، والحروب التي لا معنى لها ولا تنتهي أبداً، وجميع أشكال الشرّ..كتب ريمارك رواية”كل شيء هادئ في الميدان الغربي”“في عام 1928، لتبقى نضرة كما هو الحال اليوم، مرسلة تحذيرها من جديد مع كلّ إعادة قراءة، في كلّ بعث، وتستمرّ في منح قرّائها القدرة على المقاومة."