اريش ريمارك.. بين حربين

اريش ريمارك.. بين حربين

سلمان عز الدين
عندما وصل مخطوط رواية اريش ماريا ريمارك (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) إلى دار النشر الشهيرة (س فيشر)، سرعان ما جاء الرد حاسما: «الرفض طبعاً.. إذ من الذي يرغب الآن في قراءة رواية عن الحرب؟!». وعندما أخبر ريمارك صحفياً من معارفه أنه كتب رواية طالباً نصيحته، سأله الصحفي:

«وماذا تعالج روايتك؟»
«الحرب»
«أنصحك بأن تمزقها فوراً».
كان كثير من الألمان يرغبون في استئناف حياتهم إثر نهاية الحرب العالمية الأولى. كانوا متلهفين إلى الحصول على النقود، وشراء البيوت، واقتناء السيارات، وارتياد المسارح ودور السينما، ومواصلة حفلات الرقص، طاردين ذكرى الحرب المريرة من أذهانهم، ومصرين على العيش بدونها.. لقد انتهت الحرب بالفعل إلا بالنسبة لشخص واحد هو ريمارك.
يقول س. ر. مارتين في كتابه (في تجربة الكتابة): «حتى المقربون منه لم يعرفوا مدى تأثير تجربة الحرب على نفسيته. وحتى بعد مرور سنوات عديدة على انتهائها ، لم يستطع ريمارك أن يفكر بشيء سوى بالحرب فقط.. إنها الفكرة الوحيدة التي تسلطت عليه».
لقد بدا ريمارك وكأنه يسبح عكس التيار، مجابهاً المزاج العام النافر من سماع أي شيء عن الحرب مجدداً. غير أن الرواية ستنشر في النهاية، (مسلسلة في جريدة أولاً ثم في كتاب بعد ذلك)، لتكون النتيجة مذهلة: «في عام 1929 يباع منها في ألمانيا فقط 925 ألف نسخة. بعد عامين يباع منها 3 ملايين ونصف المليون نسخة. وتترجم الرواية إلى اللغات جميعها تقريباً..». ويثبت ريمارك أن ليس ثمة موضوع غير صالح للكتابة.. كل الموضوعات قادرة على إثارة الاهتمام وإشعال الفضول شريطة أن تكتب بشكل جيد. ويثبت كذلك، وربما هذا هو الأهم، أن شبح الحرب لا يزال مخيماً ومن العبث تجاهله، وهو الشيء الذي ستصادق عليه السنوات اللاحقة، فبعد عقدين من الزمان تعود الحرب في كرة جديدة، أكثر جهنمية وهمجية، لتطحن الملايين من الذين اعتقدوا بسذاجة أنهم صاروا بمنجى منها. ويعود ريمارك ليكتب عن الحرب(ليلة لشبونة)،وكأن قدره أن يكون مؤرخاً أدبياً للحروب.
كان ريمارك في الثامنة عشرة عندما ترك مقعد الدراسة والتحق بالحرب (1916). سيق إلى مركز للتدريب قبل أن يلتحق بالجبهة الغربية . وهذا بالضبط ما حدث ل بول بومر بطل روايته الأولى: «كان كانتوريك يحاضر بنا أثناء الألعاب الرياضية عن وجوب التطوع في الجيش، حتى ذهب فصلنا بكامل أفراده إلى مكتب القائد المحلي، وتطوعنا..».. ويصف ريمارك، على لسان بومر، تلك الحماسة الغنائية التي استقبل فيها الكثيرون خبر إعلان الحرب، وكيف راح «الراشدون» يتفننون في إلقاء الخطب على مسامع أبنائهم، عن الشرف والواجب والمجد والرسالة الحضارية . غير أن الفتيان الخضر سرعان ما سيكتشفون أية خديعة وقعوا في شراكها«كان واجب هؤلاء أن يكونوا لنا، نحن فتيان الثامنة عشرة ، هداة مرشدين.. كان يجدر بهم أن يأخذوا بأيدينا إلى المستقبل.. والواقع أن أول غارة شنت علينا بينت لأعيننا خطأ تفكيرنا القديم ، وبزوال هذا التفكير تداعت أركان العالم الذي صوروه لنا.. انجابت عن أعيننا الأغشية فجأة، فأصبحنا نرى الحقيقة ، ورأينا أنه لم يبق حجر من عالمهم..».
يقف بومر شاهداً على فظاعات الحرب: أعناق تدق بلا رحمة ، أطراف تنفصل عن أصحابها، أشلاء تتطاير وتعلق على أغصان الأشجار، خيول تقتل في معارك لا تعنيها ولا تفهمها.. وتكون الذروة عندما يضطر إلى قتل فرنسي ويبيت مع جثته ليلة كاملة في إحدى الحفر..«لقد كنتَ فكرة مجردة بالنسبة لي.. كنت عدواً بلا لحم وعظم وبلا وجه.. والآن أدرك أنك إنسان مثلي..».
ولم تكن إجازات بومر التي قضاها في بلدته، لتساعد على شفائه. على العكس، لقد عمقت مأساته وإحساسه بالوحشة ، «أصبحنا فجأة في وحشة هائلة مروعة ، ولم يكن بد من أن نسير إلى النهاية وحدنا»، فقد كان الناس هنا، كما في أمكنة كثيرة بعيدة عن خطوط القتال ، لا يزالون على حماسهم الأحمق، وقد تبين أن أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن الحرب ، والذين يعيشون بمأمن منها ، هم الأكثر رغبة فيها.
غير أن رواية ريمارك هذه ، ومئات، بل آلاف الكتب الأخرى التي تحدثت عن أهوال الحرب العالمية الأولى لم تستطع رتق الثقب الأزلي في الذاكرة البشرية. والناس الذين زعم الناشر فيشر بأنهم لم يعودوا راغبين في قراءة شيء عن الحرب ، عاد قسم كبير منهم لينخرط في لعبة الموت مجدداً . ولقد كانت الحرب العالمية الثانية أشد هولاً، إذ لم تفرق بين الجبهات والمدن والقرى ، بين خطوط القتال والخطوط الخلفية. لقد عمّ الموت والخراب في كل مكان.
شفارتس، بطل رواية (ليلة لشبونة)، لم يكن جندياً في الحرب. كان ممن يطلق عليهم صفة (مدنيين)، تماماً مثلما كان ريمارك نفسه في تلك الأثناء. ليس في هذه الرواية حديث عن مجريات المعارك وحياة الجبهات ومعاناة الجنود، فالأضواء تسلط هنا على أولئك العزل الذين هشمتهم الحرب دون أن يكونوا قد انخرطوا فيها. خطفتهم من أوطانهم ومن أحضان عائلاتهم، وخطفت أولادهم منهم، وشتتهم في أراضي الصقيع والوحشة.
معاناة شفارتس لم تكن أقل من معاناة بومر، إذ عاش هارباً في طول أوربا وعرضها، وظل لسنوات طريداً لأجهزة الشرطة وحرس الحدود. ولسوء حظه فقد انتمى إلى موجة متأخرة من المهاجرين، فكان معين الإنسانية لدى الشعوب المستقرة قد نضب، وصار معتاداً منظر اللاجئين يهيمون على وجوههم في الشوارع، جوعى وعرايا ومخبولين بفعل الغربة والحنين..
إذا كانت سيرة بومر مسكونة بالصدمة والذهول واللا تصديق، فإن سيرة شفارتس مسكونة برنة يأس شامل، فأمر صادم أن تقترف البشرية حماقة كبرى مرة ، ولكن أن تقترف الحماقة نفسها مرة أخرى ، وبعد عشرين سنة فقط، هو أمر يدعو إلى اليأس.. ومع ذلك استطاع شفارتس أن يقاوم.. فقد كانت لديه خططه الخاصة ، ومغامرته الفردية التي لم تعبأ بكل هذا الجنون العالمي . وفيما كانت الحشود تواصل الفرار من المانيا عاد هو إلى هناك، متجاوزاً أسلاك الحدود وكمائن حراسها، وكل ذلك من أجل قصة حب .. لقد أراد إنقاذ زوجته هيلين ليصطحبها معه في رحلة التشرد العابرة للبلدان . ولا يقلل من فرادة هذه المغامرة أن نهايتها تكللت بموت الحبيبة.
(كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) و(ليلة لشبونة) روايتان عن الحرب.. ضد الحرب. وكما تفعل الروايات عادة ، فقد أطاحت الروايتان بالمفاهيم المجردة والخلاصات الفكرية الباردة لتقدما خبرة إنسانية مجسدة ذات تأثير لا يقاوم. ولكن للأسف فعندما تعلو أصوات الكراهية ويستيقظ الجنون لا يتاح للكثيرين قراءة رواية، كما أن المغرمين بدق طبول الحرب ليسوا عادة من قراء الروايات.
 عن: المصري اليوم

ذات صلة