مشاهدات من ساحة التحرير: الجميع يتكلم بصوت العراق

مشاهدات من ساحة التحرير: الجميع يتكلم بصوت العراق

 متابعة الاحتجاج
ترفع آيات يدها اليمنى وسط ساحة التحرير في بغداد، والدموع تنهمر من عينين تختبئان خلف نظارتين طبيتين مرتاحتين على وجه طفولي، وتردِّد خلف صوت يصدح من بعيد: "سلامٌ عليك على رافدَيك عراق القيم، فأنت مزارٌ وحبٌ ودارٌ لكل الأمم".

آيات، 23 عاماً، التي تقترب من إنهاء تخصصها في الطب بإحدى جامعات العاصمة، وجه من وجوه ساحة التحرير.
ليست وحدها المشاركة في رسم لوحة غير مسبوقة في التاريخ الحديث لبلاد الرافدين حيث يحمل آخرون معها أحلامهم في سبيل وطن أفضل، ومنهم حسين سائق "التوك توك"، وعلي الناشط الحقوقي الموثق للانتهاكات، وخيرية الخمسينية الحاضرة لتطهو للمحتجين.
في أمسية من تشرين الثاني ، دعا صوت المعتصمين إلى رفع رؤوسهم فخراً بما يقومون به، مذكراً إياهم بأنه "عندما يتكلم العراق، الكل يسكت".
صمت كثيرون في تلك الليلة بخشوع وسط الدموع والشموع إحياء لذكرى ضحايا قضوا منذ بدء الاحتجاجات، تجاوز عددهم حتى اليوم 450 شخصاً.
ومع بزوغ ضوء النهار، تترك آيات الساحة دون أن تبتعد عنها. وتحاول إنقاذ آخرين من ملاقاة المصير نفسه.
ويعتبر شارع الرشيد معقلها، وهو أحد أبرز الأحياء التراثية في بغداد وقد تحول إلى ساحة حرب في ظل المواجهات بين القوات الأمنية والمحتجين.
تعمل مع أطباء ومتطوعين على إسعاف المصابين في المواجهات مع القوات الأمنية، جراء تعرضهم لوابل من الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع التي تطلق نحوهم مباشرة، وتصيبهم في الرأس والصدر.
تقف آيات بثوبها الطبي الأبيض الذي كتبت عليه فئة دمها "أو سلبي"، واضعة على وجهها قناعاً واقياً، وعلى رأسها خوذة سوداء، وحول عنقها سماعة طبية، غير بعيدة من دخان أسود يتصاعد جراء حرق الإطارات المطاطية. تقول "هذا مكان خطأ، لكن نحن يجب أن نكون في المقدمة لنساعدهم. لا يجب أن نتركهم، لا يجب أن يحصل لهم شيء".
وتضيف وهي تحاول التقاط أنفاسها "الوضع خطر، متأزم، لا نعرف في أي لحظة يضربوننا، لا نعرف في أي لحظة نموت".
لم يسلم الأطباء والمسعفون من دورات العنف التي تطاول التظاهرات، ووصل إلى حد اعتقال عدد منهم، بحسب آيات التي تضيف: "نحن الأطباء مستهدفون من كل النواحي، التهديدات وصلتنا حتى البيت. التهديدات وصلت الى والدي (...) لكن يجب أن نساعد" الجرحى الذين "يتم نقلهم بالتوك توك لأن سيارات الاسعاف قليلة، والإسعاف لا يتقدم، دائما ما يكون إلى الخلف، والتوك توك يكون في المقدمة".
في ساحة التحرير، على خطوط التماس عند مداخل الجسور المقطوعة، على ضفاف دجلة، في شارع الرشيد، في الأزقة... يبدو الـ"توك توك" متأهباً.
يحضر حسين بـ"توك توكه" الأحمر، مسرعا لنقل متظاهر مصاب. يضعه زملاؤه في المقعد الخلفي، وينطلق به ابن الثامنة عشرة سريعاً وبخط متعرج، مطلقا العنان لبوق عجلته.
وجهته المفرزة الطبية حيث يُحمَل الشاب إلى الداخل لتلقي العلاج. ويوضح "أحببت أن أبادر، أن أقدم شيئاً لأهلي وأصدقائي وأساعدهم (...) عملي هو نقل جرحى ومصابين".
وتحمل نبرة الشاب الذي ارتدى قبعة زهرية وقميصاً أسود كتب عليه بالإنكليزية "نيفر لوك باك" ("لا تنظر أبداً إلى الوراء") تصميم معاناة ولدت من رحم عائلته الفقيرة والكبيرة (ثمانية أفراد)، والتي دفعت ابن الزعفرانية (جنوب شرقي بغداد) للعمل على الـ"توك توك" منذ نحو عامين.
ويوضح "يا دوب (بالكاد) يوميتي 20 أو 15 ألف (دينار، أي بين 13 و16 دولارا)، ولا مساعدة لي أو أي راتب من الدولة".
نال "التوك توك" مكانة كانت مفقودة. قبل الاحتجاجات، كانت هذه العربة محط نظرة دونية حيالها وحيال سائقيها، وغالبيتهم من الأحياء المعدمة. لكن منذ الأول من أكتوبر، تغيرت هذه النظرة "لأننا صرنا عائلة واحدة. التوك توك هو من يأخذ المصاب أو الجريح (...) ومن يوصل الأكل والدعم الى الناس المتقدمة على الجسر"، بحسب حسين.
يؤشر حسين الى الواجهة الزجاجية المتضررة لـ"التوك توك"، ويقول إنه أوقف من قبل القوات الأمنية وتعرض لضرب لم تسلم منه عربته أيضاً.
ويتابع: "عندما عُدت وجدت أناساً سقطوا أرضاً ويعانون من الاختناق. كل هذا لِمَ؟ من أجل حقوقنا وهذا ما أتينا من أجله".
يخرج علي المقدام من نقطة تجمع قرب ساحة التحرير متجهاً إلى الرشيد. على ظهره حقيبة، على رأسه خوذة، حول عنقه كوفية، وفي يده "سلاحه": هاتف نقال يوثق من خلاله "كل حالات الانتهاك التي تحصل".
ويخفي الناشط الحقوقي ابن الحادية والعشرين عاماً، والطالب في أحد معاهد التعليم ، خلف لحيته البنية الخفيفة وعينيه الخضراويتين، عزماً على تسجيل كل ما يدور من حوله، بغرض إرساله الى المنظمات الحقوقية لكشف ما يتعرض له المتظاهرون، لاسيما في ظل القطع المتكرر لخدمات الاتصال بالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ويقول: "رغم التهديدات، رغم القمع، رغم التخويف، رغم الترهيب، موجودون لنوثق كل لحظة بلحظة، كل انتهاك لحقوق الانسان، كل طلقة رصاص تطلق (...) كل الانتهاكات".
يتقدم علي في أزقة الرشيد التي ملأت النفايات جانبيها، وتركت في أرضها عربات خشبية للباعة الجوالين. يتحدث إلى محتجين يحتمون خلف عوائق إسمنتية وحديدية، بأقنعتهم وأعلام عراقية تغطي وجوههم وأكتافهم. يرفع هاتفه ويصوّر.
لكن علي، كغيره من أبناء جيله، متظاهر أولاً وأخيراً، ينضم إلى آخرين بهتاف "بالروح بالدم نفديك يا عراق".
من بين المحتجين، ابنا الحاجة الخمسينية خيرية، التي انتقلت من مكان إقامتها في بلدة الصويرة جنوب شرقي بغداد، لتكون في ساحة التحرير.
وتسأل أم حيدر بحرقة قلب: "نحن بلد مثقف، بلد واعٍ، بلد شبعان ليس في حاجة، نحن أهل النفط، لسنا بلداً ضعيفاً (...) نريد بلداً مثل بلدان العالم. ألسنا عراقيين؟ لا حق لنا بالعراق؟".
وانصرفت خيرية بحنان الأم إلى تحضير الطعام للمشاركين. تداعب العجين كما تهدهد طفلاً في مهده. تضعه في التنور، وتقدمه رغيفاً كاملاً، أو تقطعه قبل أن تغمره بمرق تغرق فيه قطعاً من اللحم والدجاج.
الطهو "الجماعي" ليس غريباً عن العراقيين. فالتكافل الغذائي دائم الحضور في المناسبات الدينية ومجالس العزاء لشعب عرف الحصار والحروب والمعاناة.
في ساحة التحرير، يحضر هذا التعاضد أيضا حول أم حيدر التي بدأت الطهو بمبادرة فردية ومن جيبها الخاص، قبل أن يتجمع حولها متطوعون ومتبرعون في "أرض تفيض عطاء"، كما تقول قصيدة الغريري.
في بلاد تنفست الشعر والثقافة والأدب على مدى حضارة لآلاف الأعوام، لا يغيب عن العراقيين قول محمود درويش "قف على ناصية الحلم وقاتل".
وفي يوميات العراق منذ الأول من أكتوبر 2019، قتال من نوع آخر لشعب خبر على مر تاريخه، سلسلة غزوات واجتياحات.
آيات، حسين، علي، وخيرية... عيّنة مصغّرة لأناس باتت يومياتهم تدور حول البحث عن غدٍ أفضل. هم أربعة من عشرات الآلاف في بغداد، الكوت، الناصرية، الديوانية، كربلاء، البصرة، وغيرها، استثمروا نشاطهم اليومي في سبيل نسج حلم جماعي لبلد يبلغ عدد سكانه 40 مليون نسمة.
في ختام يوم طويل، يركن حسين الـ"توك توك" على ضفة دجلة، يتأمل من جهة جسر الجمهورية والعوائق الإسمنتية وعربات قوات مكافحة الشغب المتحصنة عليه، ومن الأخرى خيم المعتصمين والأعلام العراقية.
وبينما تلقي الشمس بأشعتها مودعة يوماً آخر من الاحتجاجات، يتطلع الشاب الأسمر صوب النهر، ويقول "أحلم أن يصبح عندي وطن، أحلم أن أعيش حراً".
ويضيف "أحلم بأن تنتهي هذه الحرب. كلها دم بدم، متى نعيش مرتاحين؟ (...) نريد أن نعيش بأمن وأمان"، قبل أن يضيف بنبرة من الأمل "هذه الأحلام، ولو أنها بسيطة، لكنني أتمناها".