عاطف الطيب.. الجميل.. والشرس

عاطف الطيب.. الجميل.. والشرس

طارق ناجح
هل هو نسترادموس .. العرَّاف الشهير الذي رحل منذ قرون و مازال البعض يلجأ إلى تنبوأته و تفسيرها ؟؟ هل هو عَرَّاف السينما المصرية ؟؟ فبعد أن قام بإخراج فيلم " البرئ" بعدة أشهر حدثت أحداث الأمن المركزي و تمردهم على أوضاعهم المتردِّية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي . سجلَّت جميع أفلامه بكل جرأة العديد من أوجه الفساد و التجاوزات في مختلف مجالات الحياة و بعض أجهزة الدولة و على رأسها الأجهزة الأمنية ،

و كأنه واحد ممن تعرضوا للظلم و القهر و الذل ، أو أنه أحد ضحايا الفساد والإهمال الذي إستشرى في حياتنا حتى أصبح أمر واقع و ما عَداه هو غير المألوف والشاذ و كان ذلك واضحا جلياً في أفلامه ..
و كان ذروتها في فيلم " الهروب " .. الشاب الصعيدي الذي بهرته أضواء المدينة و إضطرته الحياة و قسوتها أن يتنازل عن برائته و مبادئه ، و لكنَّهُ لم يستطيع أن يبيع أهل قريته الذين تربى و عاش وسطهم و يعرف معاناة كل واحد منهم ، و كان الثمن حريته وإنهيار حياته و من ثَمَّ الإنتقام و الهروب ثُمَّ الموت بأمر واحد من قيادات الأجهزة الأمنِيَّه الذين يقامرون بحياة الناس التي لا تساوي فِلس في نظرهم .. و لو أدرك نظام مبارك أن أفلام عاطف الطيب هي مرآة للواقع ، و أنه لابد من إصلاح الخلل و رفع الظُلم ، ربما كُنَّا لا نزال نستمع إلى خُطَبِهِ الرنَّانَة حَتَّى الآن .. فالشعب يمكن أن يغفر أي شئ إلا الذل و المهانة و الإستهتار بحياته و كأنها حياة بعوضة أو هاموشَه . عندما كان الطيب يدرس في معهد السينما ، قسم إخراج ، لم يثير هدوءه و إنطواءه فضول و إنتباه أستاذه و رائد الواقعية في السينما المصرية ... المخرج الكبير " صلاح أبو سيف " ، و لكن سرعان ما أثارت أفلامه ضجَّة ، و أعلنت عن خليفة صلاح أبو سيف في الواقعية .. فشخصيات أفلامه ثلاثية الأبعاد ، من لحم و دم ، هي أنا أو أنت أو أي واحد من ملايين الشعب المصري المكافح و المناضل في حرب البقاء .. حرب الإستمرار بالحياة بسيطة و هادئة رغم الشقاء .. لا نحلم بقصور فاخرة أو سيارات فارهة حيث تُرضينا أبسط الأشياء .. و نحمد الله على نعمة الصحة و الستر والضراء قبل السراء .. نمشي ( جوَّه الحيط ) ، وليس بجانبه .. فليس للشر مِنَّا سوى البُعد و الغناء .. عملاً بالمثل القائل " إبعد عن الشر و غنِّي له ".. و ليس أدل على ذلك أكثر من أفلامه .. سواق الأتوبيس ، الحب فوق هضبة الهرم ، الهروب ، البرئ ، كتيبة الإعدام ، ضد الحكومة ، الدنيا على جناح يمامة .. فلا زلت أذكر مقولة مرفت أمين " إيمان" لـ يوسف شعبان " حسن " في الفيلم المذكور أخيراً ، من تأليف الكاتب الكبير وحيد حامد ، بأن " المُهْمِل ( الذي تسبب بإهماله في موت أشخاص ) يجب أن يعاقب مثل القاتل ، لأن الإهمال قتلنا و دمَّر حياتنا " لأنه كما أن الفتنة أشد من القتل ، فأيضا الإهمال أشد أنواع القتل و الفساد .. فالمُهْمِل لا يقتل شخص بعينه بل يقتل جِيِلاً بأكمله ..
عاطف الطيب ( 26 ديسمبر 1947- 23 يونيو 1995 ) هو موهبة إستسنائية في الإخراج لذا كان عليه ، أيضاً ، التعامل مع مواهب إستسنائية في التمثيل .. بِدءً من الأسطورة ، إمبراطور التشخيص ( فهو يعيش الشخصيات و لا يقوم بتمثيلها ) النمر الأسود أحمد زكي .. مروراً بالساحر محمود عبدالعزيز .. و صولاً لـ "الأستاذ" نور الشريف .. فَجَمِيعَهُم تقريباً من نفس الجيل ، الجيل الذي تَفَتَّحَت عيونه على ثورة يوليو التي كان أعظم إنجازاتها ليس التأميم أو بناء السد العالي ، أو حَتَّى توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين البسطاء الذين ذاقوا الأَمَرَّين في أبعاديات و وسايا الخواجات و الباشاوات .. بل كان أعظم إنجازاتها هو روح الثورة ذاتها .. روح الإنتماء وحب الوطن .. روح العمل و الأمل و الإخلاص .. روح الإرادة و العزيمة لجعل مصر واحدة من أهم و أعظم دول المنطقة بل و العالم .. حَتَّى و إن إصطدم هؤلاء الشباب بواقع مرير مؤلم .. و حياة سياسية و إجتماعية نخرها السوس و الفساد ، و لكن هذه الروح لم تموت بداخلهم .. روح الثورة على الواقع و كشف خباياه و مآسيه .. تلك الروح التي عاش بها نجوم هذا الجيل .. أحمد زكي ، عادل إمام ، نور الشًريف ، محمود عبدالعزيز ، ممدوح عبدالعليم ، عاطف الطيب ، وحيد حامد ، محمد خان ، داود عبدالسيد ، علي بدرخان ، شريف عرفه ، سمير سيف ، و غيرهم الكثيرين الذين عاشوا الحلم ، و حاولوا تغيير الواقع .. و كان هذا واضحاً في أفلام الثمانينات و التسعينيات من القرن الماضي ..
عاطف الطيب رغم رحيله المُبكِّر (47عاماً) إلَّا أنه واحد من أهم و أعظم مخرجي السينما المصرية و العربية . رحم الله عاطف الطيب .. إبن مصر البار الذي عَبَّر بأفلامه عن هُموُمَنا و أحلامنا.