نصب الحرية  وساحة التحرير: أحلام وثورات وُلدت هنا

نصب الحرية وساحة التحرير: أحلام وثورات وُلدت هنا

رحمة حجة
يمشي العراقي من ساكني بغداد أو وافداً إليها، نحو ساحة التحرير، يصرخ مطالباً بحقوقه، أو صامتاً ترك للافتة الكلام، بمناسبة أو دونها، لكنه قد يكون أوان حماية البلاد من السقوط في الهاوية.
قد ينجح أو تُحبَط ثورته أمام تضخم شبح الفساد والبطالة وقضايا الإرهاب والأمن والإعمار العالقة، كما أنه قد يسقط قتيلاً برصاص "أمني أو متسلل"، كما حصل، أمس الثلاثاء، بعد 58 عاماً على رفع "نصب الحرية"، منارةً للحالمين.

هذا النصب الشاهد على التغيير الحاصل في العراق، يُقرأ بتأويلات متعددة، ربما لم يفصح عنها مصممه النحّات والفنان العراقي جواد سليم، الذي اقتبس من التاريخ العريق لحضارة بلاد الرافدين، ومستشرقاً مستقبلها، في مرحلة لاحقة. يعبر العراقيون من تحته، ويقفون أمامه، معلنين مطالبهم وأمنياتهم بتحسين الأوضاع، وقد تسمع صوت الموسيقى هناك أو تشاهد عرضاً مسرحياً، فليس أكثر منه جذباً للأنظار، يسيرون حوله في ساحة التحرير، وربما يركضون هرباً من الغاز المسيل للدموع أو من الرصاص الحي والمطاطي، وإذ يرمز اسم الساحة للتحرر من الاستعمار الأجنبي، فإن "الحريّة" في اسم النصب جاءت مكمّلة وأشمل في دلالاتها المتنوعة.
في كتابه "جواد سليم ونصب الحرية" يقول جبرا إبراهيم جبرا، إن "سليم بعد تكليفه بتصميم النصب، وفي غمرة نشوته، وجد أن الأنظار تتجه إليه ليجسد الحلم الذي راوده لسنين طوال. لم يكن هناك أي تردد، لقد طلب إليه المسؤولون، بعد الثورة بأشهر قلائل، أن يصمم نصباً للثورة لكي يقام في ساحة التحرير ـ أكبر ساحات بغداد ـ وأعطي مطلق الحرية في التعبير ـ والحرية بالضبط هي ما كان يخشى ألا تجود به الدولة، وهي التي أصر عليها قبل كل شيء."
فما قصة النصب والثورة المشار إليها؟ وما هي المعاني التي يرسمها للناظر إليه؟
يروي المهندس المعماري والفنان التشكيلي رفعت الجادرجي، القصة من أولها، وكان المشرف على تنفيذ بناء النصب بين الأعوام (1959- 1961) ويعزو له جبرا "الدور الأهم".
"في نهاية عام 1958 كانت شوارع بغداد مليئة بالمظاهرات مع لافتات قبيحة، وهتافات مملّة لا معنى فيها ولا عقلانية، ففكرت بإقامة نصب بطول 50 لافتة، بشكل عقلاني. لم يكن لي علاقة نهائياً بالمنحوتات، كلّه من البداية للنهاية عمل جواد، أنا فقط هيأت له النصب والفكرة العامة".
أرسل جواد سليم (1921- 1961) صورة للتصميم للجادرجي، وحملها بدوره إلى الرئيس العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم، الذي تزعم ما يسمّى بـ"ثورة 14 تموز" التي أطاحت بالنظام الملكي وإعلان العراق جمهورية، فيما يسّميها معارضون ومتحسّرون على الملكية بـ"الانقلاب".
وكان الجادرجي عَرف من مقرّبين بوجود نيّة لتوسيط صورة قاسم محل صورة الجندي القافز مكسراً قضبان السجن نحو الحريّة، في النصب.
وفي المقابلة التلفزيونية أدناه، يقول الجادرجي إن قاسم أبدى إعجابه بالتصميم، معلقاً "يمكن أن يكون رومانياً أو يونانياً في أي مكان بالعالم، لكني أريد نصباً عراقياً" وبدأ يروي له تفاصيل "احتلاله لبغداد" وسأل الأول "فهمت؟" ليرد "ما فهمت"، ليعيد قاسم القصة، ويتكرر السؤال، فيجيب هذه المرة "فهمت"؛ مستمعاً لنصيحة أحد من حاشية قاسم.
في ذلك الوقت أبدى سليم قلقاً حيال "طلب السفارة" وضع صورة قاسم، فطمأنه الجادرجي بأن الرئيس لم يقل ذلك حرفياً ولديه شهود على هذا الكلام. وهذا ما حصل بالفعل، إذ تم تنفيذ النصب من دون صورته "بعد الكثير من المناورات"، وأزيح عنه الستار عام 1961، لكن سليم كان فارق الحياة حينها.
صمم النصب كجدارية وعلى غير العادة معلقاً، إذ يرتفع ثمانية أمتار عن الأرض، كما يجمع بين الرسم والنحت في ما يُعرف بالـ"ريليف" أو النقش البارز. ويُقرأ كملحمة تصويرية لمراحل العراق قبل "ثورة 14 تموز" وأثناءها وبعدها، من اليمين إلى اليسار، مكوناً من 14 منحوتة.
يقول د. تيسير عبد الجبار الآلوسي عن النصب "تجد فيه تلخيصاً لأسطورة الخلق ولأساطير الإنسان السومري يبني وجوده بحكمة عقل متمدن، وبأذرع سمر ارتفعت فضاءاتها مشرعة كصواري السفائن التي تمخر عباب العواصف المتلاطمة وتنتصر عليها منعتقة من أسرها، متحررة من قيودها".وفي كتابه "جواد سليم- الفنان والآخرون" يقول الأستاذ شاكر حسن إن الجدارية "عمل معماري ونحتي في آن واحد. وهو من حيث الخامة توالف بين المرمر الأبيض كخلفية سحيقة تذكره بورق (الترمة)، وما بين الكتل النحاسية التي تجمع بين النحت المدور، والنحت البارز. مستنتجاً ان الريليف هو حل وسط ما بين النحت المدور والرسم" (جواد سليم ونصب الحرية.. وثائق وشهادات- عادل كامل)
وحسب عادل كامل فإن شاكر، في قراءته للنصب من اليمين إلى اليسار يرى أربع مجموعات، موزعاً المنحوتات من الحصان إلى كف المتظاهر الذي يبدو بهيئة راقصة. بينما تمتد المجموعة الثانية لتبلغ حدود المرأة الحانية على الطفل. وتبدأ الثالثة من مشهد خروج السجناء السياسيين من سجنهم، وحتى تمثال المرأة الممثلة للخصوبة، ويختتم المجموعات بموضوع الفلاحة والعمل، فهي تجمع ما بين شكل العامل حامل المطرقة وحتى شكل الفلاحة حاملة الحصيد أو الواقفة إزاء النخلة".ووفق هذا التأويل، حسب عادل، فإن العلاقة بين الكتل (المنحوتات)، وكل منها يرمز إلى وظيفة محددة، تكمّل بعضها البعض الآخر، تعاقبياً، لتكون المجموعة الأخيرة من النصب مقابلة للأولى: فالثور يقابل الحصان/ والعامل يقابل حامل اللافتة/ والأشخاص الثلاثة من الفلاحين يقابلون الممسك بالعدة والممسك باللجام، بالميت الساقط على الأرض.
والنصب، لدى حسن، يبدأ من: التاريخي، والعياني، المباشر، نحو (الشيئي ـ الجنيني)، كي يمنح المتلقي حرية كالتي عمل بها سليم، حرية كأنها هبطت من كوكب آخر، لكنها بالضرورة، نهاية المطاف: حصيلة تحديات.
أما جبرا، فيصف الجدارية من أقصى اليمين الذي يمثل ما قبل "الثورة"، ممثّل برأس حصان مدارٍ بعُنف إلى اليسار، والحصان محاط بثلاثة رجال، أحدهم يقف ويرفع لافتة، والمشهد الذي يليه من نفس الجهة، يصوّر روّاداً يحملون لافتات، ثم ينتقل للكتلة الرابعة في النصب مصوراً امرأة باكية، وهو يؤشر على أهمية تضحيات المرأة العراقية في الثورة والانتفاضات في بلدها، ومنها إلى المنحوتة التي تليها، يصوّر سليم فكرة الموت والموت لوهب الحياة، حتى تصل للوسط". (الفن والسياسة في العراق: نصب الحرية نموذجاً- أورانس البهادلي).
أما الوسط، الفاصل بين ما قبل وبعد التحرر، نرى الجندي واثباً بين قضبان سجون سياسية محطماً إياها، فيما يرى السجناء الحرية، يحمل أحدهم شعلتها.
وفي الجانب الأيسر، نشاهد رموزاً لنهري دجلة والفرات والزراعة والثور والصناعة، أما القطعة الرابعة عشرة والأخيرة في الجدارية، تصوّر وقفة مهيبة عامل يحمل بيده المطرقة، وفي هذا يرى جبرا "انتصار الطبقة العراقية العاملة.
ورغم تكرار دعوات خلال سنين طويلة مضت بعد تشييد النصب إلى هدمه، كما هدمت تماثيل ونصُب تذكارية عديدة، إما لارتباطها بسياسيين بعينهم، أو حقب لم يردها ساسة عراقيون أن تُخَلّد في تاريخ العراق، صمدَ هذا النصب، وحتى لو اختُلف عراقياً على مضمون 14 تموز 1958، تبقى المعاني العامة هي الأقدَر على البقاء، المتمثلة بتضحيات العراقيين وانتفاضاتهم من أجل عراق أفضل.
 عن BBC